لعبة التوت/ جورج جريس
لتنفيذ أمر مازن كان عليّ أن أستغفل أهلي في البيت وأن آتي بزجاجة بيرة مسروقة من الثلاجة يدوّرها مازن بين الأولاد فيسيل لعابهم. وبعدها يتراهن أمامهم أن يرتشف الزجاجة جرعة واحدة
لعبة التوت/ جورج جريس
|جورج جريس|
لم تكن اللعبة في الحارة لعبة بالضبط.
قبل اللعبة، في الحارة، كان علينا أن نشكّل فريقين. اختارني مازن كي أتبارز معه في لعبة والرابح منّا ينتقى اللاعبين المتمكّنين على هواه، أمّا الخاسر فيضطّر لتشكيل فريقه ممن تبقّى له من لاعبين.
بدأت المبارزة فوقفت بصدد مازن أبعد عنه خمسة أمتار. تتدانى فحجاته إليّ فيقترب ويقترب حتى تسقط قدمه الضخمة على أظفاري فيربح- كالعادة؛ وتبدأ اللعبة.
تمرّ ثوان معدودة منذ لحظة أن يرمق مازن لاعبيه حتى يتعرّف كل ولد على موقعه؛ مازن في المقدمّة وكل المهاجمين الآخرين والمدافعين وحارس المرمى من ورائه. لم يعرف أحد من لاعبي فريقي، الخاسر الدائم، إذا كان مهاجمًا أو مدافعًا، سوى مسعود الذي ينتظر منذ البداية، قبل المبارزة، عند مرمى فريقي، لأنه يعرف حق المعرفة أنه آخر من تبقّى من لاعبين.
بعد اللعبة أو الخسارة يصطف اللاعبون الرابحون حول مازن وتبدأ المزحات واللكمات وتنفيذ الأوامر.
- روح جبلك قنينة بيرة للشباب.
لتنفيذ أمر مازن كان عليّ أن أستغفل أهلي في البيت وأن آتي بزجاجة بيرة مسروقة من الثلاجة يدوّرها مازن بين الأولاد فيسيل لعابهم. وبعدها يتراهن أمامهم أن يرتشف الزجاجة جرعة واحدة.
مسعود يقف جانبا يصغي إلى المزحات ويستقبل العطسات من الواحد تلو الآخر. يعطسون في وجهه ويذهبون. يزمّ أنفه بطرف أصبعه ويتأفف بهمس: جراثيم… جراثيم…
عندما جاء ابن خالتي الغريب لزيارتنا في الحارة دون أن يكون له سابق معرفة بالأولاد نظر إلى مسعود بهامته الضخمة وذراعية المشدودتين والذي يبدو أكبر الأولاد سنًا، ورأى العطسات تنهال عليه من كل جانب، همس في أذني: لشو كل هالجثة؟
• • •
الكرْم في وسط الحارة المحاط من جميع الجهات بسياجٍ عالٍ، تصطفّ فيه أشجار الفواكه على جميع أنواعها وشجرة التوت الضخمة الكريمة تحمل ثمرًا أحمرَ لم يُبَعْ في الأسواق يستفزّ مشاعر التحدّي.
جمعَنا مازن ووشوشنا في آذاننا عن خطته في اقتحام الكرم:
- كل اثنين يوقفوا من جهة وإذا بيجي صاحب الكرم صَفرولي!
وقفنا، مسعود وأنا، لنحرس إحدى الجهات، ورأينا مازن في رأس التوتة ينظر إلى أسفل، إلى مسعود وهو يمسك بيدي ويهمس في أذني: بدّي أروّح اسّا مْنِنكْبش!
عندما نزل مازن حرم مسعودًا من أكل التوت. لكن لم يتسنَّ لمازن الكثير من الوقت لأن يتبجّح أمام الأولاد بأنه استطاع سرقة كيس كامل من التوت حتى أتاه أحد الأولاد صارخًا: صاحب الكرم جاي صوبنا.
سمعنا الخبر وإذ بصاحب الكرم قد أصبح بيننا. لم يسأل أحدًا سواي:
- مين فيكو سرق التوت؟
نظر إليّ مازن بنظرة تبخُّ شررًا أرعبتني وجعلتني أرتعش أمام صاحب الكرم:
- مسعود!
لم أنمْ ليلة ذلك اليوم. في الساعة الثانية صباحًا وقفت في غرفتي أمام المرآة ألكم لكمات في الهواء، أصفع الحائط بكفّي، أركل الأرض وأضع الوسادات على السرير الواحدة بجانب الأخرى وآمرها أن تنفذ أوامري. استفاقت أمي على أثر الضجة المفتعلة: شو بتعمل؟ عامل حالك مازن؟!
من أين عرفت أمي بما يجري في الحارة؟
وهل عرفت أن مسعودًا تورّمت جوانبه من أكل العصي من صاحب الكرم؟!
في اليوم التالي عرفنا أنّ أمّ مسعود بعد أن تورّم جسم ابنها من أكل العصي ستحضر خصيصا خوري البلدة كي يستحلف الأولاد بالإنجيل وسيقبّلون صفحاته اعترافا بالجاني الحقيقي.
كانت الحارة هادئة. جلس مازن بين الأولاد وكل منهم يبتدع حلاً ويتقدّم به إلى مازن، لكن سرعان ما فترت الحلول. كل ولد عرف مسبقا أنه سيقرّ باسم السارق حين يُشهر الخوري الإنجيل أمام عينيه. حتى مازن لم يتكلم أبدا. للمرة الأولى: عاجز عن الكلام. يسمع حلولا؛ كان حلّي أقوى الحلول.
• • •
في الحارة، مسعود محمول على أيدينا، نصعد به إلى أعلى الحارة، إلى “الأُنطش”، نضعه في الأُنطش المهجور من دون فتحات ولا نوافذ. نحبسه ثلاثة أيام.
في اليوم الثالث، هجيج وضجيج في الحارة، أطفال وأولاد، نساء وشيوخ وكهنة. لم تكن حارة أولاد؛ الجميع هنا. حتى صاحب الكرم لم يسأل عن كيس التوت المسروق! وقفنا، نحن الأولاد، بين أرجل الناس. سمعنا الأحاديث والخطابات والتشاغل بحبس مسعود. كانت جملة واحدة مسموعة إلينا أكثر من كلّ الجمل: مسعود في الأُنطش معو سكاكين!
لمّنا مازن وقتها وقال لكلّ الأولاد: مَتخافوش إسّا بجيب عصي.
أم مسعود كانت بين الجماهير: من وينتا ابني بحمل سكاكين؟! معقول صاير مجرم!
جاء إليّ الخوري ووكّلني بفتح بوابة الأُنطش وقال لي: أنت الذي بدأت وأنت الذي ستُنهي… كان قد عرف بأنني أنا الذي خطّطتُ مخطط حبس مسعود بعد أن استحلف أحد الأولاد بالإنجيل واعترف بكل شيء.
كنت في أول الطلعة وكل الجماهير من ورائي وبيدي الإنجيل الذي تقدمّ به الخوري إليّ كي يسلّم مسعود حينها السكاكين التي بحوزته.
كل الجماهير من ورائي وكل الأولاد حتى مازن وهو يحمل العصي: بدّك آجي محلك؟!
وصلت إلى بوابة الأنطش. والجماهير من ورائي يصرخون: دير بالك…
فتحت البوابة.
الإنجيل ممدود في الهواء.
يدا مسعود مرفوعتان في الهواء مجرّدتان من أيّ شيء.
صوت خافت يعلو صوت الصراخ:
طْلِعِتْ براءة…!