زياد شاهين: شاعر لا يُشبه أحدًا سواه!/ مرزوق الحلبي
نصوص زياد مسكونة بالسؤال حيال المتغيّرات اليومية والوجودية الأمر الذي ينفي عنه صفة المثاليّة الطفوليّة التي تتعثّر فيها الغالبية من مجرّبي حظَّهم مع الشعر والكتابة عمومًا
.
|مرزوق الحلبي|
(نصّ الكلمة التي ألقيت في أمسية الاحتفاء بالشاعر وإصداره “ترجمة مُبعثرة للفرح” التي نُظمت في المركز الثقافي على اسم الشاعر نزيه خير، بمبادرة “جدل ـ دار نشر” وتعاون المركز وجمعية تموزـ دالية الكرمل)
عند الحديث عن الصديق الشاعر زياد شاهين وشعره لا بدّ أن نمرّ عبر هذا الكمّ الهائلِ ممّا يُسمى شِعرا، المتراكمِ في أعلى الصفحات وأسفلها.
لا بدّ من التعقيب على حالة اختلطت فيها الأمور وغاب النقّاد ذوو الاستقامة الأدبيّة المستعدّون لعملية الفرز بين “النوعيّ” و”الكمّيّ”، بين التدرّب على كتابة الإنشاء وبين الأدب. وقد صار الأمر لازمًا لأننا حيال مشهد لا أحد فيه يقول الحقيقة لأحد- وليس في الأدب فحسب.
لا بدّ لدى الحديث عن زياد شاهين الشاعر أن نهتمّ بتمييزه عن اللا شعراء الكُثُر الذين أطلعوا للشعر والشعراء سمعة غير طيبة وصارت مهنة الأدب على زمنهم مثارَ تهكّم أو استخفاف. هناك مَن يحمل اللقب تيمنًا ساعيًا إلى اكتساب معنى لذاته، وهناك مَن يُعطي لهذا اللقب معنًى ومضمونًا يُسجَّل في دائرة الشعر باسمه. وزياد ينتمي للقلّة من النوع الثاني.
الشعر وزياد صديقان متحابان. بينه وبين القصيدة أكثر من مجرّد قصّة حب. بينه وبينها شغفٌ وتوْقٌ وألفةٌ. يأتي إلى القصيدة صادقًا بكلِّ جوارحِه وإدراكه. لا يرشو المفردات ولا يُجبرها على الاصطفاف في الطوابير، ولا يحمل في وجهها العصا ولا يأمرها بالانحناء لإرهاصاته. والصدق في الكتابة شرط ضروريّ لوجود الشعر. فهو يكتب لأنه شاعر في موهبته وثقافته وأدواته وطاقته الإبداعية. والصدق هنا عكس التكلّف والابتذال اللذيْن يجعلان من الشعر مجرّد كلام مصفوف، مقيت ومنفّر كما هو الأمر على يميننا وعلى يسارنا.
نصوص زياد مسكونة بالسؤال حيال المتغيّرات اليومية والوجودية الأمر الذي ينفي عنه صفة المثاليّة الطفوليّة التي تتعثّر فيها الغالبية من مجرّبي حظَّهم مع الشعر والكتابة عمومًا. فزياد، وهو يزفّ إلينا الدهشة، ليس واثقا من شيء وغير ساذج في نظرته للحياة والوجود. أسئلته المكثّفة تجسّد عدم رضاه ممّا يراه من انكسارات وخيبات، فيلجأ إلى بالخيال والسرياليّة أحيانًا كمحاولة للتعاطي مع منغلقات الكون ومُعضلاته المستعصية. أسئلته وجوديّة تأخذ منّا زياد العادي الذي نعرفه ونسهر معه إلى زياد المتأمّل في الوجود، يسكنه قلق المُبدع الذي يسعى للإمساك بالخيوط أو بالوقت الهارب وبالتفاصيل، معترفا بأنّه قد يكسبُ الرهان وقد يخسرُه.
من هنا، فهو لا يعدنا بحلول ولا بالجنّةِ غدًا، بل يقول لنا صراحةً كم هو عالمنا هذا عصيّ على الانقياد لنا. فلا يُمَثْلِنه ولا يُخرجه لنا من أتون مفرداته شهيًّا ساحرًا. يكتب بصدق فتكون المحصّلة نصوصًا تنزع -في مضمونها ودلالاتها- إلى واقعيّة لا تخلو من قلق ولا تبرأ من تشاؤم. وهي مركّبة في بعضها لأنّ الخوض في فلسفة الحياة يقتضي قليلًا أو كثيرًا من التعقيد الأسلوبيّ والمفهوميّ أحيانًا، لكنّها لا تفقد سِمَةَ الشعر.
من سِمات زياد الشاعر والصديق، التواضع. فهو لا يُتقن فنّ العلاقات العامة ولا يركض وراء نجوميّة لا يستحقّها. والذي يمتلك خارطةَ الطريقِ إلى الشعر ومهاراته، ليس بحاجة إلى تلك “الحركات”! فهو يكتب بهدوء أعصاب لا يُسابق أحدًا. يكتب كما يعيش لا ليُثبت شيئًا لأحد. كأنه يكتب لنفسه، يناجيها ويبوح لها على وتيرة العلاقة الحميمة بينه وبين القصيدة؛ يحملها في جيبه أيامًا حتى يكتمل الحبّ فيرسلها على صفحةِ الحاسوب أو عبرَ بريدِه.
لستُ هنا لأحتفي بصديق يحفظ الودّ ويحترم الكلمة ويصُغي أكثر ممّا يتكلّم. أستطيع ذلك من دون أمسية كهذه. أنا هنا مهتمّ بأدب نوعيٍّ وبنصوص أسمّيها شعرًا من دون أن أتلعثم. بوصفي، صاحب دار نشر قيد التأسيس، أجدني حريصًا على الأدب كما أنا حريص على قول الحقيقة الأدبيّة. وأرانا بأمسّ الحاجة إلى نقدٍ جادٍ يردّ الاعتبار للأدب وللتسميات المُتّصلة به؛ يُعيد الثقةَ بينَ الأدبِ وبينَ المُتلقّي. وفي هذا السياق، أقول أقرب إلى الجزم، إنّ الأزمة، أزمة نصوص وكتابة بالأساس قبل أن تكون أزمة التلقّي. الأولى قادتنا إلى الثانية لتشكِّلا معًا منغلقًا أدبيًّا رغم وفرة الكتابة والكتّاب والألقاب والجوائز الافتراضيّة التي يُطالعنا بها الأخوة والأخوات كأنها الفطر في أول الشتاء!
أهنّئ صديقي الشاعر زياد على إصداره الجديد “ترجمة مُبعثرة للفرح”، وأنا فرح به لأسباب عديدة، ومن أهمّها أنه يرسم الحدّ بين الشعر وسواه بخط واضح. فنصّه يشي بمفهومه للشعر. وهو مفهوم زياديّ خاص، فلا نجد فيه التقليد والنسخ وتقمّص غيره. ولا نجد فيه الانتحال أو السرقة أو السطو. قصائد زياد لزياد، بسِماتها ومفرداتها ولغتها وقصائد الآخرين للآخرين.
زياد شاهين شاعر لا يشبه أحدًا سواه!