الشاب متوسّط القامة الجالس أمام الحاسوب
كانت جالسة منحنية للأمام والرسالة والمغلّف مرميّان أمامها على المسطبة. في لحظة ما معلّقة بين توجهه اليها وبين رؤيتها كانت قد سقطت من عينها دمعة. سالت على خدها برفق وسقطت على الرسالة
الشاب متوسّط القامة الجالس أمام الحاسوب
|هشام نفاع|
خطا 7 خطوات، ومن دون أن يدخل الحمّام مدّ رأسه لينظر في المرآة، فتجمّد.
كان الشاب متوسّط القامة يجلس على كرسيّه مقابل الحاسوب، وقد مال بجسده بربع دورة بحيث أن كوعه الأيمن كان يلامس الطاولة التي تحمل لوحة الأزرار. أحيانًا يقوم بهذه الحركة متوهمًا أنه بهذا يحرّك جسده، وفي أحيان أخرى كان كل ما في الأمر أنه يحاول تغيير زاوية النظر الى الشاشة، بفعل تعب لا يعيه بدقّة في عينيه. حركته عديمة التخطيط بل كأنما عضلة غير إرادية تحرّكه. غالبًا ما كانت هذه الإستدارة بربع دائرة لا تطول كثيرًا حتى يعود الى الجلوس مقابل الشاشة وجهًا لوجـ.. كلا، فلا وجه للشاشة. لنقل إذًا: وجهًا لشاشة.
ولكن في هذه المرّة حدث أمر غريب. فحين قام بتلك الربع إستدارة أزاح عينيه عن شاشة الحاسوب وصوّبهما، لا ندري لماذا، من خلال باب الغرفة المفتوح الذي يقع قرب الحاسوب، أي مقابله الى اليمين، وتمكّن بالكاد من رؤية مقطع طوليّ ضيّق من المرآة الكبيرة المثبتة على جدار الحمّام الذي كان بابه مفتوحًا في آخر الممر. لم يفهم لماذا بدت له المرآة غريبة، فقام من مكانه حافيًا.
هذه أول مرّة تكون لديه مرآة بهذا الحجم، في المرة الأخيرة، في الدار التي سكنها قبل انتقاله الى هنا، كانت لديه مرآة مكسورة يقترب شكلها من المثلّث، موضوعة على حنفيّة المغسلة، ولم يكن بالإمكان أبدًا أن يرى الشخص فيها كل وجهه، بل كان عليه أن يزيح رأسه يمينًا ويسارًا حتى يطمئن على مساحة وجهه كلها. عاش طويلا مكتفيًا بهذه المرآة، متحمّلا سخرية زوّاره البريئة منه، وخصوصًا الصديقات اللاتي لا يخرجن الى الشارع من غير النظر في مرآة. وخصوصًا أكثر من انتهين للتوّ من تبادل الجنس معه. في إحدى المرّات سقطت المرآة المكسورة التي يقترب شكلها من المثلث، لسبب لا يتذكره أحد، وتكسرت الى شظايا لا تتعدى مساحة أكبرها حجم علبة سجائر فارغة تم تمزيق نحو ثلثها من الأعلى بخط غير مستقيم. أحضر مكنسة وضع الشظايا في قطعة من صحيفة، ثم في داخل كيس، لأن الكيس كان سيتمزّق لو رماها هكذا بتسرّع فيه مما يعني أنه كان سيضطر لكنسها بشكل لانهائيّ، لكنه انتبه للأمر عندما فطن بصعوبة حياة سيزيف.
أمّا هذه المرآة في داره الحالية، بالأحرى في الدار التي يسكنها حاليًا كمستأجر، فقد كانت مساحتها نحو متر مربّع واحد، مثبتة ببراغٍ في زواياها الأربع ، لذلك كان قادرًا على رؤية حوالي نصف جسده فيها بنظرة واحدة. وهذا هو السبب الذي جعله يتجمّد أمامها حين مشى الخطوات السبع من أمام الحاسوب حتى الحمّام (حتى باب الحمّام). بالأحرى ليس هذا هو السبب، بل إنه البنية التحتية المادية أو المعطيات الملموسة، التي مكنته من رؤية سببٍ ما في المرآة يجعله يتجمّد. لنعيد النظر مرة أخرى: هو لم ير السبب بذاته، بل رأى شيئًا منعكسًا على صفحة المرآة شكّل السبب، لا بل انعكاس السبب أو بالأحرى صورة السبب الذي جعله يتجمّد. هذا الوصف أدقّ، والدقّة هامة في هذه الحالة نظرًا لحساسية الموقف المتعلّق بشاب توجّه بكل رتابة نحو المرآة في حمّامه، وما إن أطلّ ناظرًا إليها حتى تجمّد في مكانه.
نقف الآن على مفترق طرق، فهل نكشف السبب فيما حدث للشاب متوسّط القامة الآن، أم نؤجّل ذلك؟ هذا السؤال حاسم. فبمعنى ما تشكّل الإجابة عليه، بالأحرى توقيت الإجابة، العنصر الأهمّ الذي سيقرّر مصير هذه القصة. لنفترض أننا سنكشف السبب الآن، أين ستذهب القصة؟ بالطبع يمكن كشف سبب من النوع الذي يفتح الأبواب على مصاريعها لأنه نفسه يحتاج الى سلسلة سببيّة لتفسيره. ولكن ألن تفقد الأمور بهذا جزءا هامًا من وتيرتها الدرامية؟ ربما. أما تأجيل السبب والبحث عن أساليب بل حيَل لمواصلة تأجيل كشف السبب فإنه قد يحفظ الوتيرة الدرامية، لكن استبقاءه للنهاية ينطوي على مغامرة كبيرة. فيجب عدم تحويل السبب الذي جعل الشاب متوسّط القامة يتجمد أمام المرآة، الى كيتش مبتذل. من هذا المفترق يمكن أيضًا السير بين النقاط، أي كشف السبب رويدًا رويدًا بشكل جزئي. لكن المخاطرة هنا هي تضييع التشويق.
كلمة مفترق مثيرة. تبعث شعورًا بأن أمرا ما مصيريًا سيقع الآن. هذه سخافة. فمن يعلم بخبايا المستقبل؟ وحتى لو تخيلت أنك على شفا انقلاب، فما الذي يضمن لك حدوث ذلك؟ هل يمكنك فعلا معرفة ما سيحدث ولو بعد لحظة؟ وإذا لم تكن قادرًا على توقع الآتي، لا يعود إذًا معنى لمفهوم المفترق الحاسم، لأن هذا مجرّد افتراض لا غير. لا يحسمون ولا يحزنون؟ فما العمل؟ تصرّف حسبما يمليه عليك ضميرك أو شعورك المجرّد من الجشع والأنانية. أهذا وعظ؟ ربما، لكنه وعظ مجرّد من الجشع والأنانية.
الفيلسوف ديفيد هيوم أنكر وجود المادة والعقل معًا، إذ وضع المعرفة الانسانية كلها في موضع الشك. مما قاله: إن مجرّد معرفة ورؤية الشمس تشرق كل يوم منذ آلاف السنين لا يوجب بالضرورة أن نتوقّع أنها ستشرق من جديد غدًا أيضًا. لربما أن هيوم قد بالغ قليلا، لكن يكفي التمعّن قليلا في الأمر حتى نضطرّ على الاعتراف بصمت وخوف: هذا الشخص محقّ. ما الذي يضمن حدوث ما اعتدنا على حدوثه، مهما نظمناه في قوانين ومعادلات مبنيّة على المشاهدات، وطالما لم يكشف لنا المسؤول عن هذا الكون جميع الأسرار، وطالما لم نتعرّف بعد على حضرة المسؤول؟
في المفترق بين كشف ما جمّد الشاب متوسّط القامة قرب الحمّام وبين تأجيل الأمر، لا يمكن توقّع ما سيحدث في الحالتين. على أية حال لنرَ بعد قليل ما سيحدث، من قال إن القصص تخضع للتخطيطات الذكية.. أصلا، هناك قصة ثانية شيّقة تقترب كثيرًا من الشاب متوسط القامة.
سكن زوجان في الدار اليسرى من الطابق الأول. كانا لافتين جدًا، فهو بشوش جدًا وهي عابسة على الدوام. بشاشته كانت تكشف سذاجة محببة لديه كأنها حب بلا مقابل يوزعه على كل من يشاء التلقّي، بالقدر الذي يحتاجه. أما هي فقد كانت من هذه الناحية مثله، لأن عبوسها كان أيضًا ينمّ عن سذاجة محببة كأنها حبّ كبير تنتظر منحه لكل من يشاء التلقي، بالقدر الذي يحتاجه، ولكن كان ينقصها شيء محدد ما. على الغالب كان النقص يكمن في منسوب الثقة العام. من هذه الناحية هي أقرب الى ديفيد هيوم، كون لا شيء يضمن، بنظرها، أن الحب سيقابَل دومًا بالخير. أما البشوش فيمكن الاعتبار أنه قدريّ يعيش إيمانًا عميقًا بأن الدنيا بألف خير، حتى وإن وقعت بعض المفاجآت. النظام لديه أقوى من أيّ طارئ. ما هو الأصحّ: معرفتها التجريبية أم إيمانه المتفائل؟ يصعب الحكم.
ذات يوم خرجا من البيت متشابكي الأيدي، تحت سماء خريفيّة صباحية متأخرة. الشوارع جميلة في الخريف، هناك توتر قلق في كل شيء. فليس من السهل الانتقال من الحر الى البرد. ومن سماء زرقاء الى أخرى رمادية. لنتمهّل: هذه نقطة عجيبة: فهل السماء هي التي تتغيّر أم ألوانها، أخذًا بالاعتبار لحقيقة أنه لا يوجد شيء محدد إسمه سماء لأنها عبارة عن ذلك الامتداد الفسيح. الجميل في هذا الشيء أنه رغم كل هشاشة وجوده يبدّل ألوانًا.
سارا على الرصيف الطويل النازل الى سوق البلدة. لون الخضار يعيد العافية الى العيون. حين كانت تملأ الكيس شبه الشفاف الأزرق المائل الى الرماديّ بحبات بندورة حمراء، سمعت ما يلي:
يعطيكي العافية.
التفتت، رأته، لا يزال يرتدي الأسود الكامل، ارتبكت وغمغمت:
أهلا، أهلا..
كيف حالك.
تمام، ماشي، كيفك انت؟
مشتاق.
قال كلمة مشتاق بشكل جعلها منفتحة على الكون بأسره. هي سقطت عميقًا في هذا الفراغ الماحق فدبّ الخوف فيها. لو أنه قال مشتاق لك، او مشتقلك، لكان الأمر أسهل. كان يمكنها التراجع الى الخلف من سهم شوقه. أما أنه مشتاق، فمعناه انها محاصرة بشوقه من جميع الاتجاهات.
صمتٌ. فبحثٌ بطرف العين عن البشوش. كان يتبادل حديثًا ضاحكًا مع الشاب الذي يقف خلف صف صناديق الخضار فوق دكّة خشبية محمولة على قوائم حديدية يعلو بعضها صدأ. الصمت ذروة الإرتباك. عبارة “مشتاق” بعثت في جسدها الخوف. وذكرى لذّة قديمة.
طيّب الى اللقاء، كوني بخير.
وذهب مبتعدًا.
في هذه اللحظة توقفت عن انتقاء حبات البندورة، وصارت تعبئ الكيس بما يشبه التلقائية. شيء تراوح بين الفظاظة واختلال السرعة وانعدام الإرادة حدّ الانسياق خلف الحركة الرتيبة.
تنطوي الحياة الجنسية على مفاجآت. حين تتعرّض المشاعر الى هزّات قاسية، قد تشتعل الجاذبية الجنسية بشكل غير عادي. ربما أن الجسد يتصرف وحده خوفًا من ضياع استقراره وما اعتاده. ولربما أن الأمر هو من صنع العقل الذي يأخذ على نفسه مسؤولية الحفاظ على آخر رمق من التوازن. حين انفصلا قبل سنوات، ظلا يمارسان الجنس المتقطع، والحزن المتواصل. استمرّ ذلك بوتيرة الكرة المتدحرجة في منحدر حاد ينتهي بمساحة منبسطة. هناك تتوقف بعد إبطاء الى أن تتجمّد في مكانها. خلال فترة الإبطاء هذه يسيطر ما يشبه التلقائية. شيء يتراوح بين الفظاظة وارتباك السرعة وانعدام الارادة حدّ الانسياق خلف حركة رتيبة مفترضة الى أن تتجمّد الحركة في لحظة واحدة.
لا تدري لماذا انفصلا. لكنها تذكر مرّة أنها قالت له: لم أعد سعيدة، لا استطيع العودة الى سعادتي. يومها، فقدَ قلبُ الشاب ذي الثياب السوداء نبضة واحدة. هذا الخلل انعكس بشكل سرطاني على كل وجوده. أشبه بشقّ رفيع بدأ في العمق وراح يتّسع كلما امتدّ حتى وقف البنيان بأكمله في نقطة حرجة قرب الانهيار.
لو أن حركة واحدة من أوتار عود اهتزّت لانجرحت الأغنية.
إلتصقت بالبشوش. كأنها تحاول استعادة استقرارها الذي تزعزع في لحظة. عبّأت صدرها برائحته، محاولة طرد الذكريات التي ملأت جسدها. شمّ شعرها بقبلة سريعة وهو يحسّ بأنه أمام امرأة خائفة. انتقل خوف غريب اليه. كالعدوى. حاول انقاذ الموقف بابتسامة، لكنه بدت شاحبة. حتى على شفتيه، وهو البشوش. دون أن تعي ابتسمتْ. فأشرق وجهها ثم وجهه ثم وجه الشاب الواقف خلف صف صناديق الخضار الذي ابتسم أيضًا دون أن يعرف لماذا.
كأنّ ابتسامتها عدوى.
في هذه اللحظة سنفترض أن قطرات خريفية ناعمة تناثرت، بحيث يمكن رؤية خمس أو ست منها تلتمع على شعرها الفاحم الغزير. في إحداها ستلوح صور متكسّرة وكأن القطرة صارت مرآة.
عندما تعرّفت على البشوش كانت خارجة للتوّ من الحبّ. جرجرة القدمين من الحب المنتهي، أو الذي اهتزّت جدرانه، ثقيلة. أصفاد غير مرئية تعيق حركة التقدّم، سواء للأمام أو نحو العودة الى الذات. هذا البطء منهك، كأن للأصفاد سلاسل مربوطة بالقلب وفي كل خطوة تشدّه، فينشلع مطلقًا ذلك الصوت المتمزّق كورقة سريّة أو رسالة حسّاسة يجب التخلّص منها بسرعة. منهكةً كانت تحاول العودة الى نفسها. كأن يدها على مقربة كبيرة من قلبها، تمدّها وتشدّها على أمل ملامسته ولو بآخر أطراف الأنامل. تدرك أنها لا تزال عاجزة لكنها لا تيأس، إلى أن تروح الذراع ترتجف بتوتّر وقد نفرت فيها العروق ودبّ فيها قنوط من مواصلة الإصرار. ترتخي، ترتجف قليلا ثم تسقط منسدلة الى الأسفل. لو كانت الأيدي تبكي لكان الدمع سيسيل في هذه اللحظة من تحت أظافرها الرقيقة قطراتٍ ساخنة تتجمّع في بقعة صغيرة عند قدمها، بعد أن تسحّ على حديد الأصفاد التي تلفـّها، مهددة بوشمها بخيط رفيع من الصدأ.
هناك تشابه كبير بين قوّة ابتسامة المرأة العابسة وبين قوّة الصوت الذي مزّق أسماع الشاب متوسّط القامة. عاد لتوّه من يوم حافل وما ان فتح الباب حتى تذكّر العطب الذي أصاب ماسورة المطبخ. الأواني مكوّمة قرب المغسلة. بعضها يحمل بقايا طعام متيبّسة وبعضها في قاعه ماء مخلوط بما تحلل من بقايا. صورة بالأسود والأبيض لما يمكن أن يحلّ بمن ينقطع الماء عنه. الراديو يحمل الحانًا متكاسلة تقطعها بين حين وآخر موجة إعلانات. في كل مرة يشعر أنه يحاول تحاشيها كما لو من ضربة سكين. رنّ هاتفه. كيف جاءه هذا الحب. لماذا الآن. حتى هذه اللحظة لم يكن قد نال تعريفًا واضحًا. لكنها ستنهي الان كل التساؤلات، أو ستبدؤها بالأحرى، حين تعلن: بَحِبّك.
قفز قلبه، قال لها ذلك: قفز قلبي.. لم يدم صمتهما طويلا، فقد مزّق صوت زاعق أذنيه، وقالت له: لقد سمعته.
عاد الصوت ثانية وثالثة. ما الذي يجعل هذا الغراب قلقًا يصرخ وحيدا في هذا الليل. وكأنما قرر الهرب من وقع خرافات شؤم أهله الغربان. إنفجرا بالضحك. ضحكا كثيرًا ولم يتصارحا: مخيفٌ هو توقيت زعيق هذا الطائر المنبوذ. مع أننا لا نؤمن بالخرافات. بعد نحو ساعة كان النعاس قد اجتاحها، وحين ودعته، كان صوتها هو أقرب ما يكون الى عبارة: ماء رقراق. قال ذلك في نفسه وفطن الى العطب في ماسورة ماء المطبخ. عاد إليه التوجّس نفسه من صوت الغراب. مرة أخرى ضحك مُبعدًا عن نفسه جناح الخرافة. كأس الفودكا لا تزال مليئة. رفعها وسكبها في المغسلة، وهو يفكّر كيف اجتاحه كلّ هذا. قبل قليل قال لها: حبّك كالطوفان، والمجانين وحدهم يحبون بهذا الشكل الساحق.
يُقال إنّ الشاب متوسط القامة يعاني من نوع إعاقة نادر. ليس في الجسد، ولا في العقل، ولا في النفس. فهو عاديّ من هذه النواحي، يقع في المعدّل العام. إعاقته كانت في الإرادة. إعاقة نادرة. ليس لأنه يخاف القيام بخطوات للأمام. ولا لأن اكتئابًا ما ينهكه، فهو من عشّاق المُتع ويمارسها بحدّ ذاتها ولذاتها وليس بغية الحصول على أي تعويض عن أيّ شيء. بمعنىً ما، يمكن اعتباره من أتباع تيّار المتعة. لكن مشكلته تكمن في الانتقال من اللغة الى ممارستها.
لشدّة ما غاص في اللغة، صارت هي هي المعنى. لم تعُد أداة لتحقيق أي غرض، ولا حتى لتوضيح فكرة أو للتعبير عنها. فجدواها في ذاتها. وهو ما انعكس على كافة موجودات حياته.
مثلا، يشعر أحيانًا بجوع مباغت. الثلاجة على بعد مترين منه، ليست خاوية، بل إن فيها وفرة غير عادية. وعلى بعد متر ونصف منها هناك خزانة الصحون والطناجر. وبمحاذاتها بالضبط غاز الطبخ. لكنه رغم هذا كله لا يُقدم على أية خطوة. يظلّ كأنه يناقش الجوع، ويفكّر بما يمكن إعداده من طعام لكنه لا يتحرّك. ليس لأنه يشعر بالكسل، فهو يقرأ بنهم في رواية، وينتقل من حين الى آخر الى كومة صحف نهاية الأسبوع، ويعود الى حاسوبه ليقرأ مقالا هنا ونصًا هناك في مواقع الانترنت. بل قد يكتب شيئًا، فقرة أو قطعة أو نصًا بل حتى هذه القصّة. هو يعرف تماما كيف ينهي هذا الجوع: كُلْ شيئًا! لكنه لا يفعل، ويعرف أن هذا سيخرّب مزاجه بعد ساعات، ولن يعود يقوى على التحمّل وسيقطع قراءته بشكل مفاجئ ويهرع الى المطبخ. لن يفعل هذا بإرادته، بل فقط في اللحظة التي تنكسر فيها إرادته. أي حين تصل درجات الاعاقة فيها حدّ الشلل. سيتحرّك من جسده وبجسده. أقصى الشلل الموت، أو عودة الحياة. خصوصًا في الحالات شبه السريرية المتعلّقة بالإرادة.
في الجوع كما في الحب كما في العمل كما في كل شيء. أحيانًا تفقد الأشياء معناها، فترتخي الإرادة، تعجز، تُصاب بشلل. ثم مرّة واحدة تعود لتشتعل. الإرادة مُعاقة. يحلّ العبث. الدواء هو السخرية، والأمل. هو الضحكة الخائفة بشجاعة من زعيق الطائر المنبوذ. هو عدوى الابتسامة لصدّ الخوف.
حين وصل الزوجان الى البيت كانت بانتظارهما مفاجأة. رسالة. لم تكن في صندوق البريد، بل محشورة تحت الباب. هذه لحظة حرجة. الطريقة غير العادية لإرسالها تثير جموح الخيال. هناك من يعتريه الخوف وهناك من يمتلئ بالفضول. كانت التقسيمة هنا واضحة: البشوش تلهّف والعابسة توجّست. قلبها لم يعد يطيق المفاجآت. لقد تعمّق أكثر من طاقته. الخروج من عمق القلب يصيبها في كل مرة بنوع من التعب السابق للفعل. شيء قريب للملل، شيء كالإعاقة التي تصدّ الحركة. أما هو فقد حمى قلبه عندما منع عنه التجارب. فظل نشيطًا مرنًا، ومسطّحًا. أمسك الرسالة، رفعها، نظر الى غلافها ومدّها اليها. اعترت يده ارتعاشة غير مرئيّة. كأنما استبدل الفضول بتوجّس خفيف. إنها لكِ.. بيدٍ مترددة تركت أكياس الخضار وتسلمت الرسالة منه. أرادت فتحها للتوّ، لكنها ترددت. ابتعدتْ قليلا وفتحتها. كان ينظر نحوها بطرف عينه.
حين أفرغ الشاب متوسّط القامة كأس الفودكا في المغسلة كان الغراب قد توقف عن الزعيق. سار نحو غرفة النوم، وعند بابها التفت ودخل غرفة الحاسوب. تأمله للحظة، أراد فعل شيء، لكنه عاد وقام. ذهب الى الشرفة. الكرسيان الكبيران يبتلعانها. في المرة الأخيرة حين جلسا هنا كانت تبكي. آخر ما تركته من أثر هو دمعة واحدة لا يزال يذكر كيف سالت على خدها وهي منحنية للأمام فسقطت بوضوح أمامها. قطرة مالحة ساخنة تخيّل أنها ستترك علامة لا تُمحى على البلاط. لكنها غابت. فظل يتذكر موقعها بالضبط. وجد لها مكانا متخيلا. ترك لها أثرا فيه. لماذا ذرفت تلك الدمعة؟
كانا وسط الفراق. الفراق علاقة طويلة، تكاد تكون أطول من اللقاء. وبالتأكيد أبطأ من زمن الحب الأول الذي يطويه التلهّف كسيقان ظبية فتيّة في مدى منبسط فسيح. كأنه أراد وقف الذكريات، أمسك بالكرسي القريب من الباب وأعاده الى الداخل. أبقى كرسيًا واحدًا، يكفي لوحدته. زعق الغراب ثانية، فتذكّر أنه يعيش الآن لقاء. حبًا جديدًا. غريب كيف أن الشعور الذي ملأه هو فرح مشوب ببعض الذنب. لاحت في قلبه كلمة خيانة. فسارع الى إشعال سيجارة ملأ بها أنفاسه. أراد سحابة من الضباب لتخنق ما لاح في قلبه. حين وضع رأسه على المخدة أراد الغوص في النوم عميقًا. كان يريد الهرب من السؤال: لماذا زعق الغراب؟
رتّب البشوش الخضار في الثلاجة، وبعض الأغراض في الخزانة العلوية البيضاء. شعر بأنه عالق. هل ينتظر عودتها أم يذهب اليها. في الحالتين سيظل مصابًا بالحرج. لو ذهب اليها قد يكون في الأمر إلحاح خفيّ عليها، فيما هي لا تريد مكاشفته بالرسالة. أما لو انتظرها فقد يبدو الأمر تجاهلا. ما العمل؟ قرر الانهماك في شيء ولم يعرف ما هو. لكن الهاتف أنقذه. هناك من يطلبها. ذهب اليها بالهاتف.
كانت جالسة منحنية للأمام والرسالة والمغلّف مرميّان أمامها على المسطبة. في لحظة ما معلّقة بين توجهه اليها وبين رؤيتها كانت قد سقطت من عينها دمعة. سالت على خدها برفق وسقطت على الرسالة. جاءت على كلمة “إنتظرتُكِ” ففاش الحبر حتى تداخلت الحروف وكادت تختفي. دمعتها تصرّفت تلقائيًا لتخفي شيئًا.
كيف سيتصرّف الشاب متوسّط القامة؟ غريب هو الشعور بهذه الحيرة، مع أنك أمام حب قد انتهى وآخر لم يبدأ بعد، أو بالكاد يبدأ على الأقل. من أين الحيرة. إنها ليست أخلاقية على أية حال. لربما أن مصدرها تلك الإعاقة العميقة. قلبه لا يقوى على الحركة فيتذرّع بخوفه من كلمة خيانة. ارتباكه جعله عالقًا، لا يغادر الأمس ولا يدخل باب الغد. دون أي نذير يُقرع بابه. قام بحركة آلية مدّ يده الى يد الباب، فتحه وتجمّد. مثلما تجمّد أمام المرآة. (بالمناسبة، لم يكن السبب في تجمّده أمام المرآة ذا أهمية حاسمة. كل ما في الأمر أنه لاحظ الحالة التي وصلها وجهه. شعر ذقنه كان ناتئًا متسمّرًا وشعره كأنه الشوك المتيبّس. شعر أنه لم يرَ نفسه منذ زمن طويل. ها قد وضعنا حدًا لابتذال صنع مفاجأة منذ السطر الأول..) . أما الآن على الباب، فاستغرقه الأمر لحظات حتى يقول لها: تفضلي.
حين قرأتْها، طوت الرسالة وحشرتها في المغلّف. تركتها على طرف الطاولة. صارت كقنبلة موقوتة يجب تفكيكها. بحدْسها عرفت أنه لن يجرؤ على الاقتراب منها. قامت الى الحمام، اغتسلت بسرعة وعادت اليه. كان البشوش جالسًا يقلب صفحات مجلة ملونة. على غلافها صورة غراب. سرعة التقليب لا تكفي للقراءة. كان يتنقل بين الصور محاولا إبعاد شبح الرسالة عنه. وجهه فقد الكثير من العاديّة الرقيقة، هكذا شعر. قام من مقعده وتوجه الى المرآة. خطوط رمادية متطاولة لاحت له من تحت الجلد. حين راح يتحسس وجهه برفق رآها تندس خلفه. عانقته وطبعت قبلة على شعره. تردد قليلا ثم التفت. حاصر الكلمات في داخله، ولم يفلت منه سوى سؤال من كلمتين: كلّه تمام؟ طمرت رأسها في عنقه، استدار اليها واحتضنها. ما رأيك لو تحرقي هذه الرسالة. كانت كلماته تتظاهر بالتضامن مع بكائها. كأنه أراد قتل السبب الذي أبكاها. لكن في قرارة قلبه الذي تقعّر قليلا، عرف أنه لا يريد أي شيء ينغّص حياتهما. حتى بثمن خنق فضوله. لم تردّ. شدّته برفق، وأرخت يديها واستدارت. بعد لحظات عادت اليه بالرسالة. مدتها اليه. طأطأ رأسه وأزاحه جانبًا. وبحركة من يده أشار أن: لا، شكرًا. لماذا ترفض قراءة الرسالة. دعكِ. أنا أريدكَ أن تقرأها. صمتَ وأزاح وجهه. فتحت الرسالة وقرأتْ: “ابتعدنا كثيرًا. سافرتُ بعيدًا، هربت. حين عدتُ عرفت أنني لم أهجرك بل أن الحقيقة هي أنني انتظرتُكِ هناك، في البعيد. كوني بخير دائمًا”. في هذه اللحظة القادمة سيكون لالتقاء العيون وقع الصفعة، لربما حتى أن صوتها سيرنّ في رأسيهما. ستختلط الأمور وقد تسارع عينان الى غسل الموقف ببعض الدمع. قد تتلألأ احدها متوقفة على طرف الهُدب، ولو اقترب الآخر وتمعّن فيها سيرى أن صورته تتراءى فيها كما في مرآة. ولو دمعتْ عينه أيضًا فستنبثق ملايين الصور المنعكسة في دمعتين تروحان تتعمّقان بشكل سحيق.
احتضنته من جديد، فعرف أن الماضي يلاحقها. بقرار بارد جدًا قرّر: لست جزءًا من هذا الماضي. لن أسمح له باقتحام حاضري. عادت اليه بشاشته وهو يقترح عليها: لنشرب كأسًا من الفودكا.
آخر ما توقعه. لماذا هذه الزيارة الآن. كان يسير خلفها في الطريق البيتية التي تعرفها عفويًا. جلست على الكرسي الذي أعاده من الشرفة. شعر أنها عرفت لماذا أعاده. هرب الى سؤال الضيافة: ماذا تشربين؟ لم تنظر اليه ولم تردّ. حسنًا، قال، قبل أن يعود بكاسين. وضع كأسها أمامها وابتعد بحركة خفيفة شعرت بخشونتها. أشعل سيجارتين، ناولها واحدة وانتظر. لا افهم، قالت. فوافقها بصمت. وأردف: ولا أنا. التقت عيونهما. كان لقاء مالحًا. كأن عرقًا راح يسيل من عيون تعبة. حاول الابتسام فلم ينجح، فقهقه بصوت عال هربًا من العفوية الفاضحة. أما هي فابتسمت. كانت ابتسامتها استكمالا لملوحة العيون. دبّ فيه شيء كالخوف. أخذ نفسًا من سيجارته وقال لها فجأة: لم أتوقع أبدًا مجيئك لكنّ الحقيقة هي أنني انتظرتُكِ. وضعتْ الرسالة على الطاولة، وقفتْ، ومدّت يدًا مصافحة..
بعد قليل كان الدرج يضجّ بوقع أقدام نازلة، بكثير من الهدوء. وبأقدام أخرى صاعدة بنشاط منفلت. حين مرّت إحداهما بالأخرى وسط الدّرج، كان الشاب متوسّط القامة يشعر بتوتّر قلِق وهو يشمّ رائحة كالخريف.
9 أكتوبر 2010
حبيت ..!
7 أكتوبر 2010
ممتع جداً
6 أكتوبر 2010
نص رائع، ومن النصوص الجيدة التي قرأتها مؤخرا. المقاطع التصويرية فيه شدتني كثيرا. هل هذا النص جزء من كتاب؟
وعلى فكرةدائما كنت أظن أن مسطبة تكتب بالصاد.