“بين النجوم” لكريستوفر نولان: استهلال لنمط جديد من سينما الخيال العلمي!
طرح جريء لمفاهيم الثقب الدودي والبعد الخامس ■ لا شكّ بأنّ نولان بفيلمه الثامن المميز هذا قد أثبت انه مخرج سينمائي عظيم لا يقل شأنا عن ستانلي كوبريك
|مهند النابلسي|
يتحدث هذا الفيلم المذهل حول استخدام مجموعة من الرواد المكتشفين “لنفق عير المجرات”، حتى يتمكنوا من تجاوز حدود السفر الفضائي واقتحام المسافات الفلكية الشاسعة بالفضاء عبر ما يسمى “الثغرة الدودية”.
تتمثل الحبكة الاولى في المستقبل القريب عندما تعجز الأرض عن تزويد سكانها بالمحاصيل الزراعية الضرورية، وتتعرض باستمرار لعواصف غبارية كاسحة، تقحل الأرض وتعرض السكان للخطر. تحاول صبية صغيرة ذكية اسمها مورفي التواصل مع شبح غامض يسكن منزل والدها “المهندس المتقاعد ورائد الفضاء”، حيث تسعى لبعث رسائل مشفرة بواسطة الجاذبية، وباستخدام غبار الأرض المتراكم داخل المنزل، وباستخدام شفرة مورس الشهيرة. يقودها ذلك هي ووالدها المهندس لمركز فضائي سري للناسا يديره البرفسور براند. يشرح البرفسور لوالدها كوبر التفاصيل، ويطلعه على اكتشاف “ثغرة دودية” فضائية في النظام الشمسي/ وبأنها تدور حول كوكب عطارد، ويوضح له أن فرصة البشرية الوحيدة بالنجاة، تكمن بامكانية السفرعبر هذه الثغرة الدودية لاستيطان عوالم جديدة في مجرات قريبة.
يعتقد علماء الناسا بوجود “بعد خامس” جديد يتواصل معهم عبر هذه الثغرة، وبأنه تم تأهيلها للاستخدام البشري، ويتم توظيف كوبر لملاحة لمركبة فضائية تجريبية تسمى “اندورانس” لتتبع مهمة “لازاروس” الفضائية، وتتضمن اطلاق ومتابعة مجموعة من الكابسولات القادرة على اختراق الثغرة الدودية، وتحديد أكثر من اثني عشر كوكبا تصلح للحياة البشرية. وحيث يثبت علميا وجود ثلاثة كواكب فقط تصلح للاستيطان البشري مستقبلا، وقد سميت على أسماء مكتشفيها وهي: ميلر، تيدموند ومان، وعندئذ يمكن ارسال البشر بواسطة مركبات فضائية ضخمة للحياة فيها.
تبدو هذه الأفكار “الخيالعلمية” منطقية وقابلة للتطبيق. ويتم اختيار كوبر لقيادة رحلة أندورانس (لمهارته وخبرته كقائد مركبات فضائية مدرب)، ولكن قلب فتاته الصغيرة الجميلة-الذكية يقطر حزنا وأسى، وتكاد تنفجر غضبا لأنها تشعر أنه تخلى عنها، ولا تعلم هل سيعود ام لا (أبدعت الطفلة ماكينزي فوي بأداء هذا الدور المؤثر!)، ثم تلتحق ابنة براند عالمة “الثقنيات الحيوية” أميليا بكوبر، كما ينضم للفريق الجغرافي دويل، والروبوطين البارعين “متعددي المهارات” كيس وتارس. هكذا تنطلق الرحلة الغريبة التي ستستغرق عامين، والتي ستجتاز “الثغرة الدودية” الخطيرة قبل ان تنتقل لمجرة جديدة، وخلال مرحلة المرور المرعبة، تواجه أميليا “تواجدا جارفا” لبعد خارق “خرافي” حيث بدا وكأنه الصانع للثغرة الدودية المنقذة للبشرية، فهل هذا مؤشر “الهي” خفي ام دلالة لوجود “روح كونية” خارقة؟
وخلال مرورهم من خلال “الدودة المجرية”، وتتبعهم لاشارات مرسلة من قبل الكوكب “ميلر”، يكتشفون مشكلة مستعصية تتمثل بقرب الكوكب “الواعد” من ثقب أسود نشيط يدعى “جارجانتا”، ونظرًا لجاذبيته الخارقة فإنّ الزمن فوق الكوكب سيصبح بطيئا جدا مقارنة بكوكب الأرض، ثم يكتشفون متأخرًا وبعد خروجهم من المركبة، أن الكوكب الغريب يتعرض سطحه لموجات ساحقة من “الجدران المائية” المتلاحقة، وتؤدّي هذه لمقتل دويل، الذي يحاول جاهدا استرجاع جهاز تسجيل بيانات كوكب ميلر، كما يؤدي ذلك لتأخرهم حوالي الساعة على سطح الكوكب، وهذه الساعة تعني بالمفهوم الأرضي “ثلاثة وعشرين” عامًا بالنسبة لأميليا التي بقيت وحيدة داخل المركبة “أندورانس” ولم تصحبهم!
ثم يتخذ كوبر قرارًا شجاعًا، فيترك المركبة، سامحا لرفيقته أميليا بالنجاة باستخدام “سحب الجاذبية”، ثم ينجح بقذف نفسه خارجًا قبيل تحطم المركبة (انسحاقا من قبل الثقب الأسود “جارجانتا”)، حيث يصل لبعد خارق جديد غير مكتشف “ببعد زمني غير خطي”، ويتحقق كوبر مندهشا عندئذ من صحة التواجد الشبحي (الذي كانت تراه وتتحدث معه ابنته مورفي بمنزله)، ويستنتج مندهشا بأن هذا “الشبح المزعوم” ما هو بحقيقة الأمر الا شكلا مستقبليا “انسانيا” متطورا لحالة اندماج الزمان بالمكان، وبأنه ربما عاد بالزمان عبر ما يسمى “الثقب الدودي” محاولا انقاذ البشرية، مزودا ببيانات الروبوط النشيط “تارس” حول “ظاهرة التفرد” الكونية. حينئذ يتمكن كوبر من الاتصال بابنته الصغيرة “مورفي” من خلال ما يسمى “البعد الخامس” وموجات الجاذبية الكونية، جاعلا منه “شبحا” من الطفولة البعيدة، حيث تتمكن مورفي بفضل هذه المعلومات من اتمام “معادلة براند”، مما يسمح بإخلاء سكان الأرض وانقاذهم قبل فوات الآوان، كما أنّ حب كوبر “اللامحدود” لابنته يشكل بالنسبة له حافزا لاجتراح المعجزات، ويعطيه العزيمة والقوة لاكمال مهمته والتواصل “الروحي” معها!
والآن، بعد اتمام مهمته، ينتقل كوبر من خلال “الثقب الدودي” للعودة لكوكب الأرض ليتم انقاذه من قبل الناسا، ويستيقظ مذهولا في محطة مدارية ضخمة حول كوكب زحل، والتي تم اعتمادها كمحطة انتقالية لسكان الأرض بطريقهم للكواكب الصالحة للاستيطان البشري، ونراه يعود لزيارة ابنته التي أصبحت الآن مسنة ومريضة وعلى اعتاب الموت طريحة الفراش محاطة بأبنائها وأحفادها، حيث تقنعه بالعودة لملاقاة ايمليا التي ذهبت بدورها لكوكب جديد يصلح للحياة، ونراه بالمشاهد الأخيرة وهو يودعها بحزن بالغ، ثم يجلس برحلة الناسا الجديدة مستهلا رحلته المثيرة!
قبل عامين من انتاج الفيلم، جلس نولان مع عالم الفيزياء النظرية الشهير كيب ثرون، لدراسة احتمالية السفر بسرعة تفوق سرعة الضوء داخل “الثقوب الدودية”، وقام الممثل المخضرم مايكل كان بتقمص دور العالم ببراعته المعهودة. وتم التصوير بأماكن سرية ومواقع بولاية ألبرتا، كما استخدمت مركبة فضائية في بركان خامد بأيسلندا، حيث قبع فريق التمثيل لأربعة أشهر متواصلة لاتمام هذه التحفة السينمائية. لا شكّ بأنّ نولان بفيلمه الثامن المميز هذا قد أثبت انه مخرج سينمائي عظيم لا يقل شأنا عن ستانلي كوبريك، حيث اعترف بتأثير ملحمة الأخير السينمائية “أوديسا 2001″ على طريقة انجازه لهذا الفيلم، كما اعترف بتأثير أفلام لافتة مثل حرب النجوم وألين و”المرآة” للروسي أندريه تاركوفسكي. ويبدو بالمحصلة وكأنه حصل على مزيج ابداعيّ سينمائيّ فريد من نوعه وخالد لا ينسى مع الزمن… وقد أدهشنا كذلك باستعراضه الاستثنائي لقدرات “الحب البشري” (والمقصود حب كوبر لابنته مورفي) على فعل المعجزات التي قد تتماثل مع معجزة اكتشاف عوالم فضائية !
■ كتابة وإخراج: جوناثان نولان، تمثيل: ماثيو ماكونغي، آن هاثوي، لجيسيكا كاستين، كاسي أفليك ومايكل كان