المحص/ نوّاف رضوان
أنا خائف. بعد قليل ستندلع الحرب العالمية الثالثة. سأكون حينها في الحمام ألبّي نداء الطبيعة، أو أشاهد التلفزيون، أو ببساطة أقف كالأبله أمام رفّ التوابل في السوبرماركت وأتساءل: يا رب.. ما الذي أفعله على هذه الكوكب؟؟
|نوّاف رضوان|
(1)
لا أحد يعرف معنى هذه الكلمة، ولا حتى أنا. إنها ببساطة الحارة التي كبرت فيها، وبها ما يكفي من حبال الغسيل لحجب عين الشمس.
تتحرّك الشمس طوال النهار على جدران الحارة المقشّرة بخفّة ومرونة، تتنقّل بين الغسيل الملوّن… تضيئه مثل ذكريات قديمة، وتطفئه مثل خسارات قادمة، وفي الليل تلمع عيون القطط على الأسوار وحاويات القمامة.
بينما كان أهل القرية يصلّون لله، كنتُ مشغولًا باختيار حذاء جديد من خزانة الجامع. أخذت أفضل حذاء يناسب مقاس قدمي وخرجت، ومشيت في شوارع الوطن حتّى اهترأ الوطن تحت قدميّ، ومارست هوايتي في ركل الحصى والمؤخرات، ومع كلّ حذاء جديد، كنتُ أربط الفردتين القديمتين ببعضهما البعض وأقذفهما على سلك الكهرباء، حتّى أصبحت القرية مغطاةً بالأحذية والأحلام…
بنت العصافير أعشاشها في الأحذية. قشّة على قشّة على قشّة، كانت مثابرة وجميلة وساذجة، وعندما هبّت الرياح الأولى، أغلق أهل القرية نوافذهم وهاجرت العصافير.
في الخريف كانت الأحذية معلّقة كالتعاويذ، وأصبح الناس يكتبون أمنياتهم ويلقونها في الأحذية، منهم من يطلب رزقًا ومنهم من يريد مضاجعة الجارة، أو الشفاء من مرض، أو إمراض أحدهم، وهناك من كانت أحلامه بسيطة إلى درجة أنّه تمنّى أن يلبس حذاءً مثل هذا المعلّق فوق رأسه.
كم تمنّينا ولم يُجبنا أحد؛ نتكاثر ونموت، ثمّ نتكاثر ونموت… لعبة بينغ بونغ لا تنتهي ولا أحد يعرف متى بدأت، إنها رواية طويلة ومُملّة، وعندما حاولت الهرب، تعثّرتُ بالسطر الأخير ووقعت.
نحنُ شعوب الثلاث ورقات والزوبعة بفنجان، تسرّبنا من تحت الطاولة ومن فوق الأساطيح، من تقرأ طالعي لا تعرف القراءة ولا تفرّق بين حرف الألف وكوز الذرّة، لكنّنا طيّبون، ضربنا الناطور وأخذنا العنب، وضربناه مرّة أخرى عندما خرجنا.
صنع لنا آباؤنا آلهة من تمر، وحين جعنا أكلناها، وشبعنا ورقصنا كالدببة، وتساءلنا بعد ذلك.. ما الفائدة من إله لا تستطيع أكله في مجاعة؟
(2)
أصبح عندي سيارة. وهذا يعني مفتاحًا جديدًا في ميدالية المفاتيح: مفتاح البيت ومفتاح صندوق البريد ومفتاح السيارة ومفتاح البيرة ومفتاح الجنّة.
كلّ ليلة عندما تنام الحارة، أجرّ الباب الحديدي بهدوء وأُخرج السيارة، أُشعل الأضواء وأُشغل أغنية لـ بوب مارلي، أتجوّل في أحلامهم بسرعة 20 كم/س، أتلصّص عليها، وقبل الفجر بقليل أدخل السيارة وأنزلق في أحلامي مثل فقمة.
لم نكن نحلم كثيرًا.. بنى أبي لنا جدارًا عاليًا لنمشي بجانبه ونقول: الحيط الحيط ويا ربّ السُّترة، وعندما أصبح للحيطان ودان أخفضنا أصواتنا. كانت الجدران تعلو وأهل الحارة يصبحون أصغر وأصغر وأصغر، تعلّمنا عادات النمل.. وعند اندلاع أيّ مشكلة بين نساء الحارة يجب أن تقول إحداهنّ : لا لا حبيبتي .. اذا مفكرة تستوطي حيطنا.. إحنا حيطنا عالي برضو.
الكثير من الجدران يا الله، جدار الفصل، وجدار تسلّقناه صغارًا ووقعنا عنه بعد أن كبرنا، وجدار السجن، وجدار لأمّك لتعلّق عليه صورتك بعد أن تموت، وجدارٌ بدلًا من قلب أبيك..
عندما كبرت سرقت سجّادة الصلاة من غرفة أمّي وقفزت من الشبّاك، طرتُ على بساط الريح، طرتُ فوق كلّ هذه الحيطان، نظر الجميع إليّ وصرخوا بصوت واحد: كااااافرر. كانوا يضربون على الطناجر والحاويات ويهزّون الأبواب الحديديّة: كااافر.. كااافر.. ومنذ ذلك الوقت، اشترت أمّي ألف سجادة ولم تستطع الصلاة.
هنا تخرج الكلاب الضالة من المقبرة ليلًا وتنتشر في الأزقّة والحارات، وفي الصباح يفرد الطاووس الوقح ريشه الملوّن على سور المقبرة، حاولنا إمساكه أكثر من مرّة وتعثّرنا بالقبور والأموات الظرفاء.. وعندما ألقينا القبض عليه أخيرًا، أصبحت حياتنا بالأبيض والأسود.
(3)
بعد أن ولدتُ مباشرة، تناول أبي “مفتاح إنجليزي 14″ وفتح رأسي.. وضع الغطاء جانبًا وسمّى بالله، ثمّ سكب الصحراء داخل رأسي وأحكم إغلاقها، وأمّي نسيت شراييني مفتوحة بعد أن سكبت فيها البحر المتوسّط.
وانزلقت إلى الحياة. ههههههههههههههههههه.. كان الجميع ينظر إليّ بتمعن، كانت مسابقة للتشبيه بين نساء الحارة: “مناخيره مثل مناخير أبوه”، “حواجبه مثل حواجب عمّه”، وبعد فترة انقلبت الأمور وأصبحت حواجبي مثل مناخير عمّتي، وطيزي مثل وجه خالي..
أنا خائف. بعد قليل ستندلع الحرب العالمية الثالثة. سأكون حينها في الحمام ألبّي نداء الطبيعة، أو أشاهد التلفزيون، أو ببساطة أقف كالأبله أمام رفّ التوابل في السوبرماركت وأتساءل: يا رب.. ما الذي أفعله على هذه الكوكب؟؟
بعد قليل، سيصرخ أحدهم: إنّها الحرب العالميّة، اُهربوا يا أولاد القحبة… اًهربواا.. وكما هي العادة في كلّ الحروب، يكون هذا أوّل القتلى…
الكثير من الجدران يا الله، جدار الفصل، وجدار تسلّقناه صغارًا ووقعنا عنه بعد أن كبرنا، وجدار السجن، وجدار لأمّك لتعلّق عليه صورتك بعد أن تموت، وجدارٌ بدلًا من قلب أبيك..
الموت يلبس ربطة عنق ويضع رجلًا على رجل في المفاوضات. الموت يتحدّث بهدوء. والموت يجيب على أسئلة المذيعة الجميلة بثقة، بينما تُخرج سلحفاة رأسها وتنظر إلى كلّ هذا الدمار، ثمّ تمضي وهي تحمل بيتها وعفشها وتفاصيلها، تمضي غير مكترثة بشيء.
بعد قليل ستقوم الحرب. مليون صاروخ وألف دبّابة مصوّبة إلى رأسي، وأنا أرفع يديّ وأقول: لستُ أنا.. صدّقوني.. لقد خرجتُ لتوّي من الحمّام… صدّقوني لا دخلَ لي.
الجحيم حفلة صاخبة. والأموات يصفّقون ويشجّعون بحماس، يُغنّون، يرفعون أصواتهم أكثر وأكثر، والطيّار يلعق شفتيه ويضغط على الزناد. أقفز إلى الجهة الثانية بسرعة. أنجو. أختبئ في حاوية قمامة. أرفع رأسي قليلًا.
الأموات يتفرّجون عليّ في شاشة الله الكبيرة ويضحكون، يأكلون البوشار ويضحكون. طقّت خواصرهم من شدّة الضحك. ولشدّة ما ضحك الله، دلق كاسة النسكافيه على العالم.
الهرب خلاص الجبناء، ونحن جبناء بما يكفي لكي نحبّ الحياة ونركض. ركضنا حتى تدلّت ألسنتنا وتمزّقت عضلاتنا، ركضنا كالمجانين، ركضنا وركضنا وركضنا حتّى تدحرجت الكرة الأرضيّة من تحت أقدامنا.
في البداية كنتُ خبرًا عاجلًا يغطّي ركبتي المذيعة الجميلة على التلفزيون، كان هذا جيّدًا بعض الشيء. وشيئًا فشيئًا، تحوّلت إلى خبر عابر يلهث في شريط الأخبار طوالَ اليوم أمام كلّ هؤلاء المحبطين.
في هذه اللحظات المميّزة، تصبح الحياة عبارة عن حفلة نيْك كبيرة، الجميع يضاجعك من حيث تدري ولا تدري؛ الدولة والحكومة والبنوك والشرطة والجيوش وذباب الصيف.. الكلّ يضاجعك، وعليك أن تستمتع. وفي هذه اللحظات يا صديقي، تفتح الحياة سحّاب بنطالها وتتحوّل إلى أير عظيم، وأنت تتحوّل إلى مؤخرة هائلة.
قد يبدو هذا الكلام خادشًا للحياء العام، نعم هو كذلك يا سادة. في كلّ ليلة أسند الحياء العام على الجدار مثل لوح زجاجيّ وأخدشه بأظفاري الطويلة والمتّسخة من الأعلى إلى الأسفل. هل تسمعون الصوت، هل تسمعون هذا الزعيق المرعب؟ إنه صوت مجتمع خُدِشَ حياؤه للتوّ..
عندما رحلت في المرّة الأولى، كان أبي يجلس أمام التلفزيون الصغير كالعادة وفي يده آلة حاسبة، يتابع الأخبار ويسجّل أعداد القتلى والجرحى، يستمع إلى الرؤساء والمتحدّثين الرسميّين، وغبت كثيرًا، وعندما عدتُ، كان يجلس أمام تلفزيون “إتش دي”.. كلّ شيء تغيّر في هذه الفترة، إلّا أبي ما زال صامدًا. لون الدماء صار أصفى ووجوه القتلى أصبحت واضحة. مليون علبة سجائر أحرقها أبي أمام الشاشة، بينما أبحث أنا عن القتلى وأفتح عيونهم.
في إحدي الليالي نسي أبي التلفزيون مفتوحًا ونام.. كانت الدماء تسيل من كلّ مكان، من شقوق التلفزيون ونقاط الكهرباء، من الخزانة والفرشات والبطانيات، من الحنفيّة التي لم تغلق جيّدًا، من كلّ مكان.. بينما ينام أبي بسلام وفي حضنه الريموت كونترول..