صار ممكنا معك أن نقول “لغةَ أب” كما نقول “لغةَ أم”!/ مرزوق الحلبي
كنتَ من بين القوى اللطيفة التي كوّنتنا وشكّلت وَعينا المشاكسَ المُمسكَ بالسؤال. كان لك فضلُ تثبيتنا في مسار العلم والمعرفة وفي موضع عالٍ من الحياة،
|مرزوق الحلبي |
لأنني أحاذر دائما من الوقوعِ في فائضِ الكلام، فسأتحدث إليك لا عنك،
ولأنك بالنسبة لي ذات وليس موضوعا، فسيكون كلامي رسالةً إليك وليس ديباجةً في مديحِك.
ولأنك معلمي وصديقي وقُدوتي اللغوية، أراني، وإن تحدثتُ إليك، تحدثت إليّ.
منذُ قُرابةِ الشهرين وأنا مشغول بما سأقوله لك هنا، أحسب كلماتي، أقيسها وأفصّلها على مقاسِك أنتَ لا أقلّ ولا أكثر.
لا أزال مسكونا أيها الأستاذ بالسؤال: كيف جعلتَ موضوع اللغة العربية جنّة مفتوحة لنا لا قصيدةً عصيةً في الكتاب؟ وكيف يسّرت لنا درب الوصول إلى واحاتها وأفيائها دون أن تُدمينا معارج النحوِ والصرفِ!
كيف استطعت أن تخرج اللغة من الكتاب وتضعها كرغيف الخبز الشهي على طاولاتنا، فأحببنا الطعم إلى يومنا هذا؟
كيف استطعت أن تجعل من اللغة ومنّا أصدقاءَ أوفياء أنقياء؟
كيف استطعت أن تنزع اللغة من أسطورتها، ومن صورتها المتجهمّةِ وأحضرتها لنا بهذا البهاء وهذه الحيوية؟
كيف استطعت أن تخلّصها من ثقلِ ظلِّ عُشاقها الرديئين وأساتذتِها المتبجحين وتستدرجها إلى صفّنا على مدار خمس سنوات، فإذ بها واقعيةٌ، محسوسةٌ، ملموسةٌ، نمكثُ فيها وتمكث فينا براحة وانسجام؟
كيف استطعتَ أن تخدعنا إلى هذا الحدّ فإذ باللغة التي أهديتنا هي الحياة نفسُها. وهي نحن. وهي ما كنّا وما سنكون!
كان الكتاب حجةً ونصوصُه المنتقاةُ بعقلية الخبيرِ لا بنفسية التلاميذ، مجرّدّ تذكيرٍ
_____
لكَ ولنا أنْ نخرج من حُدودِها إلى نُزهة أبعد منها، حدّ نسيان نقطة البداية. كنتَ تصحبُنا في رحلة غنية للقاء بشعراء ومُبدعين لا يأتي الكتاب على ذكرهم لأسباب اعتقدوا أننا لا نعرفها!
كنّا نفهم إشاراتِك الضمنية وكلامَك دون أن تحكي ـ خمس سنوات من العِشرة كافية للتلميذ كي يفهم معلّمه من نظرة أو إيماءةٍ أو ابتسامة مواربة.
لم نكن موزّعين على فئتين ـ أولئك الذين يعرفون وأولئك الذين لا يعرفون. بل كنّا جميعا نعرف كثيرا في اللغة، و منّا مَن عرف أكثر!
أهديتنا المعرفةَ. والأهم، سُبلَ الوصلِ إليها.
استطعتَ أن تنقلَ شغفك باللغة إلينا لتتحولّ طاقةُ اللغةِ الهائلة مع الوقت إلى طاقةِ حياة، وإلى مهارة التمييز بين الأصيل وبين شبيهِه، إلى قدرةٍ على النقد الحادّ وذائقة جمالية لا تُخطئ إلا فيما ندر.
كنتَ من بين القوى اللطيفة التي كوّنتنا وشكّلت وَعينا المشاكسَ المُمسكَ بالسؤال. كان لك فضلُ تثبيتنا في مسار العلم والمعرفة وفي موضع عالٍ من الحياة،
كنتَ لنا أبا لغويا وأبا بمعاني أخرى،
صار ممكنا معك أن نقول “لغةَ أب” كما نقول “لغةَ أم”!
ربّما اعتقدتَ بينك وبين نفسِك أنك تتمتع وحدك بامتياز النظر إلى ما صارَه تلاميذُك، تسأل في كل مرة نلتقي “أين وصلت”، و”ماذا تفعل هذه الأيام؟”. لا، لم تكن وحدك هناك، كنتُ أنظر قبالتك إليك، إلى ما صاره أستاذي ومعلّمي. كنتُ أشعرُ أن لي حصّة فيما تفعله. امتلئ فخرا وكبرياء كلما قرأت اسمك مقرنا بخبر إصدار جديد. كنتُ أقرأ ما تكتبه بشغف، وكنتُ ألتقط الإشاراتِ أيضا. ومؤدّاها أن اللغةَ متحولةٌ متطورةٌ غير جامدة، لا تُطيق الحبس في متن القواميس، ولا الأسرَ في المباني المتقادمةِ الضيقةِ، وأن للأدبِ صوراً تولد وصورا تموت، وأن الشعرَ يبهتُ إذا طال مكوثُه في المقام ذاته، وأن الشعراءَ يموتون إذا أعجبتهم صورتهم في المرآة وارتاحوا في رحاب نصوصهم أطول مما ينبغي.
تعلّمت منكَ أيها الأستاذ أن أكونَ في الكتابةِ عمومًا وفي المعرفةِ مُحدثاً ومُجددا، لا أرسو على برّ، ولا أستكين لزاوية فيء. أغادر النص الذي أبلغه إلى نص لم أكتبه بعد، من نصّ حسبتُه فتحًا إلى آخرَ أحسبُه.
لأنك علّمتني أن اللغةَ لا تحدّ،ُ وأن المعرفةَ لا تنتهي.
وكما في فضاء اللغة والإبداع كذلك في مساحة الحياةِ.
أحني قامتي لك ولعطائك لي ولأبناء جيلين أو ثلاثة.
شكرا لهذا العطاء،
شكرا أنك معلّمي إلى الآن
شكرا أنك أهديتني العرفان.
وأعدكَ أن أحفظ الوديعة.
10 ديسمبر 2015
ألم تبالغ يا سيد حلبي؟ مثل الشعراء دائما ؟