صديق في زمن الحرب/ إياس ناصر
ربّـما يا وحيد. الشّعور بالأَنَسة أو بالغربة لا يباع في الحوانيت. إنّه يخرج من أعماقنا ويكون وطنًا لنا في داخل الوطن. في حالة الحرب نصبح غرباء، نصبح غائبين عن الآخر، نكون في حالة “بيتوتيّة” شعوريّة تموِّهُنا وتموِّهُ مَن حولنا فنراه غريبًا لأنّنا صرنا شعوريًّا بعيدينَ أو متباعدينَ عنه.
| إياس ناصر |
في هذه الأيّام التي تشتعل فيها المواقع الإخباريّة والفيسبوك باللّؤم والكراهية والحقد، خرج يتمشّى ترويحًا عن قلبه في محطّة القطار. كانت السّكّة الحديديّة التي اعتادها مليئةً من النّاس قفرًا “ولا فيها الدّومري”. “لعلّه السّبت؟” قال في نفسه. ”ولكنّ النّاس من يهود وعرب يأتونها في يوم السّبت أيضًا! لعلّه الخوف!”.
“مقتل طفل فلسطينيّ في مواجهات في بيت لحم…”؛ “اشتباكات بين قوّات حرس الحدود ومجموعة من المتظاهرين على معبر قلنديا”؛ “مظاهرات في النّاصرة وسخنين…”… الأخبار تمشي كالنّاس في شوارع المدينة وتبيع الأحقاد والضّغائن، والمصيبة أنّها أخبار عن واقع فاجع لا نستطيع أن نفزع فيه بالآمال “إلى الكَذِبِ” كما فعل المتنبّي. أورشليم، أو القدس، أو بيت المقدس… لم يكن مهتمًّا بهذا الاسم التّاريخيّ ولا بالتّمسّك باسم معيّن كما تفعل قناة “صوت إسرائيل” التي تحاول إرضاء الطّرفين في الأخبار التي تجري في “أورشليم-القدس” عملًا بالقاعدة المألوفة: “ما يطلبه المستمعون”.
الأسماء؟! اسمه وحيد. ولو أطلق عليه صديقه نديم الاسم “يوسف” أو “علي” من باب التّحبّب لَما كانت عليه في ذلك غضاضة، شريطة أن يستمرّ في رؤيته ومعرفته، والمثل يقول “لاقيني ولا تغدّيني”، وفي هذه الحالة يمكن القول: “لاقيني ولا تسمّيني”. كذلك القدماء اختلفوا في الأسماء! وحيد هذا، دَرَسَ العهد القديم والعهد الجديد فرأى “أورشليم”، وقرأ “كتاب الحيوان” للجاحظ الذي تحدّث عن سبت النّور في “بيت المقدس”، وعلم ما جاء في الآية القرآنيّة “سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا…”. يقول في نفسه: “تعدّدت الأسماء والمدينة واحدة، والدّموع واحدة والأفراح واحدة، ولكنّ الرّغبة في الأسماء رغبةٌ قديمة جدًّا! ألم يُعلِّمِ اللهُ “آدمَ الأسماءَ كلَّها” كما جاء في القرآن الكريم؟! وكذلك “فَدَعَا آدَمُ بأسماءٍ…” كما جاء في سفر التّكوين؟!
وفي هذه الأيّام التي كانت مثل مواضيها في مواضيها وبنادقها تخنقه الأسماء. “يهوديّ”، “عربيّ”، “علي”، “ليلى”، “موشي”، “يا ابن القحبة”، “يا أخو الشّليته”… أسماء على صفات على أسماء، واللّؤم واحد، والمروءة واحدة. تَرَكَ قراءة ديوان “أفاعي الفردوس” للشّاعر إلياس أبو شبكة وأخذ يتابع الأخبار المسموعة والمقروءة، والنّتيجة؟ حالة اختناق. اِختنق بما شاهده من دمويّة وجهالة، والـمَنظر يُغني عن الـمَخبر! ” كيف يستطيع الإنسان أن يبلغ هذه الدّرجة من الضّغينة والشّحناء؟” يقول في نفسه. “وكيف لنا أن نكون صالحين في هذا الزّمن الرّديء؟! وهل صدق المتنبّي حين قال: “وربّـما صحّتِ الأجسامُ بالعِلَلِ”؟ كيف تصبح الأجسام صحيحةً بالأمراض؟! ولكن “إن فَسَدَ الملح فبماذا يُـملَّح”؟! هل يُـملَّح بالدّم كما يحدث في هذه الأيّام؟”
في هذا التّلوّث الجوّيّ الأخلاقيّ الموبوء الخانق، قرّر سريعًا أن يزور صديقه نديمًا لينال جرعة من الأوكسجين.
- يا رَجُلْ! من يتنقّل في مدينة القدس في هذه الأيّام يرى الخوف والقلق معشِّشَيْنِ في العيون. النّاس يتلفّتون باهتمام إلى كلّ حيّ وجماد خوفًا من الاعتداء أو الأخذ على حين غرّة! والمقروص يا نديم بخاف من جرّة الحبل كما يُقال.
- وكذلك يقال يا وحيد “عْيُونِ الغريب بْتُنْطُرْ!”
- ماذا تقصد؟!
- هذا مثل! يعني أنّ الّذي يأتي أوّلَ مرّة مكانًا يتأمّل في كلّ ما تقع عليه عيناه كالأطفال.
- وهل نحن غرباء في بلدنا؟
- ربّـما يا وحيد. الشّعور بالأَنَسة أو بالغربة لا يباع في الحوانيت. إنّه يخرج من أعماقنا ويكون وطنًا لنا في داخل الوطن. في حالة الحرب نصبح غرباء، نصبح غائبين عن الآخر، نكون في حالة “بيتوتيّة” شعوريّة تموِّهُنا وتموِّهُ مَن حولنا فنراه غريبًا لأنّنا صرنا شعوريًّا بعيدينَ أو متباعدينَ عنه.
- قد يكون تعليلُكَ صحيحًا، ولكنّني أحاول بشدّة في هذه الأيّام الدّمويّة أن لا أكون غريبًا. وإذا كانت الكراهية تُعْمِي عن المحاسن فإنّ الحبّ أيضًا يُعْمِي عن المساوئ كما قال أحد القدماء. ألم تسمع ببيت الـمُقنَّع الكِنْدِيّ؟
- هات لشوف؟
- يقول لأبناء عمّه: “وإنّ الذي بيني وبين بني أبي / وبين بني عمّي لَـمختلفٌ جِدَّا”. في هذه الأيّام السّوداء خطر على بالي هذا البيت ألف مرّة. الحياة القبليّة التي تقوم على القرابة الدّمويّة جَعَلَتْهُ يعامل كلّ إنسان باعتبار درجة القرابة. العرب واليهود أولاد عمّ. وأنا أرى أنّ الذي بيني وبين بني أبي، وبيني وبين بني عمّي “متشابهٌ جدَّا” في عصر نلنا فيه ثقافة عالميّة، أو على الأدقّ، يستطيع الإنسان أن ينال فيه هذه الثّقافة، فلا مكان للمصطلحات القبليّة القديمة الّتي تجعل الآخر غريبًا عنك مثل “الحمى” “والدّيار” “والـمَضارب”، ولا نجد في مواقع الإنترنيت كلبًا صغيرًا يعوي كما كان يفعل كُليب التّغلبيّ إذا أراد أن يمنع الآخرين عن حماه فيضع كلبًا يدلّ عواؤه على هذا الحمى.
- ضحك نديم وقال… كيف لك أن تربط كلّ هذه الأشياء؟! إنّك تحاول أن تهرب من الواقع الّذي نشهده. هذا الكلام ينفع حينما “كانوا حْبابنا خْفاف وهَوَاوِين” (يعني large) “وعنّا جْرار في البيت وهَوَاوِين” كما غنّى فلمون وهبي. التّاريخ مثل الأشجار تتساقط أوراقه ولكنّه يكتسي بحلّة مشابهة، وفي أكثر الأحيان لا يمكن اجتناب الواقع يا وحيد. إنّني أسأل نفسي منذ أيّام عن معنى الجملة “كلُّ واقفٍ إلى النّقصان أَقرب”، فهل المعنى أنّنا إذا كنّا مُقصِّرين وتوقّفنا عن العمل نَقَصَتْ وتراجعتْ أحوالُنا؟ وكيف يمكن أن نتراجع إذا كنّا واقفين؟!
- أنا لم أقصد اجتناب الواقع. لا يمكن أن يكون الإنسان أنبوبًا في مختبر. ونحن الشّعراء، لا كما يدّعي الشّاعر الفرنسيّ فاليري (Valéry)، نكون دائمًا منفعلين لا فاعلين. نحن لا نكتب ساعة نشاء بل نكتب ساعة ما يشاء الوحي الدّاخليّ-الخارجيّ. ولكنّ المشكلة في التّقوقع الفكريّ وفي السّور الّذي يبنيه الإنسان حول ذاته دون أن يفتح ولو كُوَّةً واحدة فيه. هذه هي الغربة الحقيقيّة التي نشهدها عند الأغبياء الذين يطلبون الدّم. والمثل الّذي يقول “زِوَانِ بْلادَكْ ولا قَمْحِ الغريب” هو مثل الأغبياء الّذين يُفضّلون هَبَاءهم على ما عند الآخر. ومن هو الآخر إذا كنت أتحدّث إليه بمكالمة هاتفيّة تُوصلني إليه من هنا إلى الصّين!
- هذا صحيح، ولكنّ العلاقات الإنسانيّة ليست مسألة تطوّر تكنولوجيّ. القراءة مفتاح العالم. قبل عشر سنوات كنت نديمًا آخر، أمّا اليوم، فأقرأ كلَّ ما يقع بين يديّ وأبحث عن الإنسان مجرّدًا من الهوّيّة الّتي ألصقوها عليه بعد قطع حبل المشيمة. هل تَعلَم أنّ في الدّين اليهوديّ ما يُسمّى بـ”פיקוח נפש”؟ أي فريضة إنقاذ الإنسان المعرَّض للموت وإن كان “أُمّيًّا” (גוי) أو من “الأغيار” بالاصطلاح الشّائع. يجب أداء هذه الفريضة وإن كان اليهوديّ مضطرًّا إلى تحليل يوم السّبت. هذا يعني أنّ الإنسان هو الجوهر، هو القطب الذي تدور عليه الرّحى. ولكن أين الّذي يقرأ وأين الّذي يعمل؟!
- نعم، الواتس أب، والفايبر، والفيسبوك، واليوتيوب… النّاس “تنقّرت عيونهم” من استعمالها. يمشون مُتطامِنِين، يجلسون مُتطامِنِين، يسوقون مُتطامِنِين، والرّأس مزروع في هذا الجهاز وذاك، كأنّهم كما قال الشّاعر “وَقَدْ شَرِبُوا حتَّى كَأَنَّ رِقَابَهُمْ / مِنَ اللِّينِ لَـمْ تُـخْلَقْ لَـهُنَّ عِظَامُ”! وهذا هو المقصود في رأيي بالجملة “كلّ واقفٍ إلى النّقصان أَقرب”. التّاريخ يعيد نفسه كما ذكرتَ ولكن كيف نستطيع أن نستنبط العبرة؟ الأديب الألمانيّ هرمن هسه (Hesse) يُعبِّر في “ذئب البوادي” عن معاناة الإنسان الأوروبيّ واكتئابه بعد الحرب العالميّة الثّانية. هذه الشّعوب أَفضتْ في النّهاية إلى أنّ حمل القلم أهمّ بكثير من حمل البندقيّة، وانتقالك اليوم في الاتّحاد الأوروبيّ من فرنسا إلى ألمانيا مثلًا دون أن تمرّ بحاجز واحد دليلٌ على الحضارة الّتي تقوم على الإنسان المطلق، وبهذا قد “أصلَحَ العطّارُ ما أَفسَدَ الدّهرُ”.
- صحيح، ولكن “لو كانتْ بَدْها تْشَتِّـي كانت غيَّمَتْ”. المطر بدأ ينزل في الأيّام الأخيرة، ولكنّ غيوم الأمل لا تلوح في الأفق يا صديقي. قد سَبَقَنا حنّا مينه إلى السّؤال هل نتخلّص من الشّرّ إذا تخلَّصنا من شرّير واحد أو اثنين؟ وهل نستطيع إيقاف الفساد بمعاقبة فاسدَيْنِ أو ثلاثة أو أربعة؟ وإذا كان المجتمع بأكثره فاسدًا فهل نطلب القضاء عليه؟! الطّبيب لا يستطيع معالجة هذا الورم إلّا إذا قام بعمليّة جراحيّة شاملة لاستئصاله. ونحن بحاجة قصوى إلى النّظر في السّبب لا في النّتيجة، إلى التّعليم والتّعلّم، إلى الإرشاد والاسترشاد، إلى قراءة مخزوننا الأدبيّ ومخزون سائر الشّعوب. والقراءة في نظري ليست وقفًا على الكتاب. السّياحة قراءة، التّعرّف إلى إنسان قراءة، اللّقاء قراءة، السّير في الطّبيعة قراءة، التّأمّل قراءة.
يستنيم وحيد كعادته إلى محاورة صديقه نديم، ولكنّه استذكر بغتةً ديوان “أفاعي الفردوس” و”القصيدة الحمراء”، فأحسّ بوجع حرّاق إزاء الفحيح الّذي يسعى في الشّوارع ويضحك من سذاجته. والسّذاجة أن لا يكون الفساد في نظرك أمرًا مفهومًا ضمنًا. هل يُعقَل أن تكون ساذجًا في معمعان الشّرّ؟! وإذا كان المحنَّكون يُفلِتون بصعوبة من براثن الشّرّ، فما ظنّك بالسّاجذين؟ ولكن هل الذين يطالبون بالاعتدال ورفع المظالم في المظاهرات ساجذون؟! أولئك المؤمنون بأنّ “للظّلم يومًا وللمظلوم يومين”! أليس الـمجال كلّه أصلًا للمحنَّكين، ومع ذلك لا يزال الحبل على الجرّار؟! المأساة أنّ الصّراع مستمرّ ومستحرّ بين هذين الشّعبين سنواتٍ طويلة، ولا بَدْها تْغيِّم ولا بَدْها تْشَتِّـي كما قال نديم. بنك الدّم مفتوح دائمًا، ليلًا ونهارًا، أمام الّذين يريدون إطفاء الغليل وإيقاده. بناتُ العقول عذراواتٌ وما من أحد يُقدِم على استئصال الورم، و”حَسْبُكَ داءً أن تَصِحَّ وتَسْلَمَا”. الحكمة أوّل مراتب الشّجاعة، و”الرّأيُ قبل شجاعةِ الشّجعانِ / هو أوّلٌ وهي المحلُّ الثّاني” كما قال المتنبّي. ولكنّ الغريب أنّ النّاس الذين يحبّون الجلوس في المحلّ الأوّل لرؤية المسرحيّة بوضوح، يريدون في مسرحيّتنا هذه الجلوس في المحلّ الثّاني أو حتّى الأخير دون إعمال الرّويّة إذ لم تبق لديهم “مُسْكَةُ عَقْلٍ” إزاء ما يجري. الشّهوة تحول دون الدّخول من الباب الضّيّق لأنّه “قليلون هم الّذين يجدونه” (إنـجيل متّى، 7: 14).