نتنياهو والمفتي: محاولة لإعادة تعريف الشرّ/ علاء حليحل
هناك من رأى في تصريحات نتنياهو حول المفتي الحسيني أكاذيبَ وهلوساتٍ أثارت موجات من التهكّم والسخرية، وهناك من رأى فيها مكيدة مدبّرة وذكيّة منحت نتنياهو نقاطًا على مستوى الشارع الإسرائيليّ الذي بات نتنياهو يخشى خيبة أمله منه كقائد يمينيّ في عجزه عن مواجهة الهبّة الشعبيّة الأخيرة.
| عن ملحق “فلسطين” - علاء حليحل |
أثارت تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، حول الدور المزعوم الذي أدّاه المفتي أمين الحسينيّ في حضّ هتلر وإقناعه بإبادة اليهود، ردودًا عاصفة وكثيفة على المستوى الدوليّ والعربيّ والفلسطينيّ والإسرائيليّ. ويبدو الآن في نظر الكثيرين أنّ هذا بالضبط ما كان يسعى إليه نتنياهو. إلّا أنّ الاكتفاء بهذا التحليل القائل بأنّ تصريحاته كانت مدبّرة ومدروسة لإزاحة اهتمام الرأي العام عن الهبة الشعبيّة التي تشهدها فلسطين في هذه الأيام، يجب أن يُرفَق ويتضافر بتحليل بُنية هذا الرجل الفكريّة وتأثّره الكبير بوالده المؤرّخ الصهيونيّ بن تسيون نتنياهو. وقد نشرت صحيفة “هآرتس” يوم الجمعة 30 تشرين الأول المنصرم، مقالة حول هذا الشأن، مسهبة في الحديث عن نتنياهو الأب والمعركة التي أدارها منذ 1941 ضدّ المفتي الحسيني ولقائه هتلر. نتنياهو الابن يردّد ويطوّر مقولات وأبحاثًا وضعها والده، وهو بهذا لا يختلف عن أريئيل شارون الذي تشبّع في منزله أثناء طفولته بالخوف من العرب وكراهيتهم، ما انعكس في كلّ سياساته وممارساته السياسيّة والعسكريّة.
بعد اندلاع العاصفة، تراجع نتنياهو قليلاً (فقط) عن المحادثة التي تخيّلها بين المفتي وهتلر، وركّز ردوده بعدها على أنّ كلّ المنتقدين باتوا يحاولون الآن نفي اللاساميّة عن المفتي الشرّير. وما أن نشر أحد محرّري موقع “واينت” الرائج في إسرائيل صورة له ببزّة ضابط نازيّ حتى انقضّ نتنياهو على هذه الفريسة مُحوّلاً كلّ النقاش إلى نقد التحريض الدّامي عليه، تمامًا كما حرّضوا على إسحق رابين وقتها. وهذه هي المشكلة الأساسيّة في ردود الفعل العربيّة والفلسطينيّة (وهوامش اليسار الإسرائيليّ) على كلّ هذه القضيّة: فالجميع تعامل مع تصريحات نتنياهو بمنظار تهكّمي-ساتيريّ واتّهموه بالهوس والجنون والهستيريا وفقدان البوصلة، مُحوّلين الموضوع إلى مادّة للتندّر، متناسين حقيقة قاسية وفظيعة في سياق الشارع الإسرائيليّ، كان نتنياهو ومستشاره الانتخابيّ في سنوات التسعين وحتى منتصف الألفين، آرثور فنكلشطاين، قد رسّخاها جيّدًا: “ردِّدِ الكذبة ما استطعت إلى أن تصبح حقيقة”.
ثم سجّل نتنياهو ذروة أخرى في الكذب والتصحيح الخجول: في 30 تشرين الأول المنصرم نشر على صفحته في شبكة “فايسبوك” نصًّا قال إنه “توضيح” جاء فيه: “لم أكن أنوي بأيّ حال من الأحوال أن أعفي هتلر من مسؤوليته عن المحرقة. هتلر وقيادة النازيّة هم المسؤولون عن قتل ستة ملايين شخص من أبناء شعبنا. قرار الانتقال من سياسة طرد اليهود إلى الحّل النهائيّ صدر عنهم ولم يكن منوطًا بتأثير جهات أخرى. النازيون رأوا في المفتي متعاونًا، إلّا أنّهم لم يكونوا بحاجة إليه لاتخاذ القرار بقتل يهود أوروبا الممنهج الذي بدأ في حزيران 1941″. هذا ليس توضيحًا: هذا نفي واضح لما قاله في تصريحاته الأولى. ولكن من يهتمّ بهذه الأمور الدقيقة الآن؟
مُريدو نتنياهو ونهجه في الشارع الإسرائيليّ تقبّلوا هذه التصريحات بإعجاب وبأنه “قبضاي” وساحر ويستطيع أن يضع النقاط على الحروف، ولو من باب أنّ الغاية تبرّر الوسيلة (فلا حاجة للأخلاقيّات عند التعامل مع العرب!)، تمامًا كما فعل في صبيحة يوم الانتخابات الإسرائيليّة حين نشر الفيديو المصور الذي أخاف به مصوّتي اليمين: “العرب يهرعون إلى الصناديق بالحافلات”.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يتطرّق فيها نتنياهو إلى المفتي. ففي كتابه “مكان تحت الشمس” الذي نشره قبل نحو 20 عامًا، كتب عن هذا اللقاء، لكنّه لم يتهم المفتي بأنه هو الذي أقنع هتلر بإبادة اليهود، بل اكتفى بالجملة: “للاثنين غاية مشتركة: إبادة يهود أرض إسرائيل”. وعلى هذا النسق، يردّد نتنياهو منذ سنوات تحريضه على الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس بأنّه مُنكر للمحرقة.
السياق التاريخيّ
يضع المؤرّخ الفلسطينيّ عادل منّاع، في لقاء مع ملحق “فلسطين”، المسألة في سياقها التاريخيّ: “كما هو معروف، هرب المفتي من القدس وفلسطين عام 1937 حتى لا تضع السلطات البريطانية يدها عليه، كغيره من القياديّين الذين نفتهم وسجنتهم في سبيل قمع الثورة. وصل الحسيني إلى لبنان وقضى فيها حوالي العاميْن، ووقع في خطأ رفض الكتاب الأبيض البريطانيّ الصادر في أيّار 1939. لقد قبلت بريطانيا بمطالب الفلسطينيّين جزئيًّا وكان من الممكن للحسيني أن “يتصالح” معها عشية نشوب الحرب العالميّة الثانية. اختار الحسيني طريق رفض المساومة واستمرار معاداة بريطانيا والهاشميّين، فوصل إلى بغداد وكان من المشاركين في ثورة الكيلاني عام 1941، لتزداد العداوة بينه وبين الهاشميّين وبريطانيا. ولما قمعت تلك الثورة الدامية، هرب المفتي إلى إيران ومنها إلى ألمانيا معتقدًا أنّ مناصرة “عدو أعدائه” هي الخطوة الصحيحة في ذلك الزمن الذي بدأ فيه النازيون بتصفية يهود أوروبا ومحاولة كسر شوكة بريطانيا”.
ويضيف منّاع: “أنا طبعًا لا أرى أيّ تبرير لتلك الخطوة أخلاقيًّا وإنسانيًّا؛ لكنّ السياسة تقوم على المصالح لا الأخلاق كما نعرف. ورأى الحسيني في هزيمة بريطانيا واليهود مصلحة فلسطينيّة قد تحقّقها ألمانيا. ومرّة أخرى، لم تتمتع هذه الرؤيا ببُعد النظر، ناهيك بالأخلاق وفهم أنّ “عدوّ عدوّي ليس بالضرورة صديقي”. صار هذا الخطأ الفاحش وصمة عار على جبين القيادة الفلسطينيّة حينذاك، وكانت له تبعات وخيمة على مستقبل قضيّة فلسطين. لقد وافق المفتي على انتهاج سياسة مُهادنة مديدة منذ عيّنه هربرت صموئيل الصهيونيّ مفتيًا عام 1921 وحتى نشوب الثورة عام 1936، ثم انتقل إلى النقيض في زمن كُنّا فيه بأشدّ الحاجة للدّهاء السياسيّ والحكمة القياديّة. هكذا وجد الحسيني نفسه منبوذًا وملاحَقًا (عالميًّا وهاشميًّا على الأقلّ) ساعة الحسم في 1947-1948. والبقيّة تاريخ معروف”.
على حدّ السيف
في المقابل، قالت الباحثة هنيدة غانم، مديرة مركز “مدار” للدراسات الإسرائيليّة في رام الله، لملحق “فلسطين”، إنّ تصريحات نتنياهو “ليست زلّة لسان؛ لقد قالها وقصدها وخطّط أن يقولها، وهو استند إلى بحث جديد وضعيف صدر عن باحث أميركيّ. هذا لا يعني بالطبع أنّه مخطط ذكيّ كما يقول البعض، بل هو خليط من العنصريّة المتجذّرة والعماء الأيديولوجيّ. وهو بتصريحاته يقول إنّ الفلسطينيّين شعب عنصريّ وشرّير وإنّ هناك خطًّا رابطًا بين الشرّ النازيّ والشرّ الفلسطينيّ الذي تتجلى صوره بأعمال “العنف والإرهاب الفلسطينيّ” كما يسمّيها”.
وتقول غانم إنّ ما سعى إليه نتنياهو هو طرح مقولات أو أفكار تفيد بما يلي: “لا علاقة بين العنف الفلسطينيّ والاحتلال، بل إنّ العنف سببه كره عرقيّ أعمى متأصّل بالدين والثقافة، وأيّ تنازل لهذا الشرّ سيؤدّي الى محرقة جديدة، من هنا لا أمل في أيّ حل، ويجب الوقوف بالمرصاد له، والعيش فعليًّا في صراع دائم بينه كممثل للخير وبين الظلاميّين (وهو ما صرّح به فعلًا يوم 26 تشرين الأول المنصرم في جلسة الخارجيّة والأمن في الكنيست، حين أكّد “أنّنا سنعيش على حدّ السيف للأبد”- ع.ح.). وترى غانم أنّ ما حدث “سيعود عليه بالنفع في الشارع اليمينيّ لأنّ اليمين الإسرائيليّ يؤمن بانحطاط الفلسطينيّ وبأنّه كائن منزوع الإنسانيّة وحيوانيّ، ويجب أن يتمّ التعامل معه بالقوّة”.
ردود الفعل الفلسطينيّة
على مستوى الشارع الإسرائيليّ، ترى غانم أنّ ردود الفعل المندّدة والرافضة لما قاله نتنياهو “كانت على مستوى النخب المثقفة ومفصولة عن الشارع وعن صُنّاع الرأي العام. وقد تفاوتت ردود الفعل الفلسطينيّة بين رسميّة وشعبيّة، إلّا أنّ أكثرها حضورًا كان في الشبكات الاجتماعيّة. وقد تركّزت الغالبيّة الساحقة لهذه الردود، كما أسلفنا أعلاه، على التهكّم واتهّام نتنياهو بالجنون والهَسترة. الشاعر والناشط الفلسطينيّ علي مواسي متابعٌ لنبض الشبكة، وخصوصًا على مستوى الحَراكات الشبابيّة الفلسطينيّة والعربيّة، وهو يقول لملحق “فلسطين”: “لم يكن ليتصوّر أحدٌ أنّ تصريحات نتنياهو ستعيد إلى الحياة بقوّة، شخصيّةً فلسطينيّةً، سياسيّةً ودينيّةً، غُيّبت عقودًا، رغم أنّها كانت الأكثر مركزيّةً وتأثيرًا في حركة التّحرّر الوطنيّ الفلسطينيّة ما بين عشرينيات القرن الماضي وحتّى النّكبة، بل تقف على رأسها، ألا وهي شخصيّة مفتي الدّيار المقدسيّة، الحاجّ أمين الحسينيّ”.
وقال مواسي إنّ هذا “الإحياء” انعكس في “صور الحسينيّ، واقتباساتٌ من تصريحاته ومذكّراته، ومقتطفاتٌ تعريفيّةٌ به، وفيديوهاتٌ حوله توفّرها الشّبكة، وتصميماتٌ تتعلّق به وبلقائه بهتلر. وقد فُرضت على مدار أيّامٍ شخصيّة الحسينيّ في شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وعرّفت قطاعاتٍ واسعةً من مستخدميها – وهم في غالبيّتهم العظمى من شريحة الشّباب – بالحسينيّ وتاريخه النّضاليّ المغيّب، بالإضافة إلى كمٍّ كبيرٍ من مقالات الرّأي والحوارات التّلفزيونيّة الّتي شاركها روّاد الشّبكات الاجتماعيّة بكثافة. وقد شاعت في تلك الشّبكات نبرةٌ تهكّميّةٌ وساخرةٌ من الخطاب الصّهيونيّ الّذي يحاول، بإصرار، تحميل الفلسطينيّين المسؤوليّة عن الهولوكوست، وغدت تصريحات نتنياهو مادّةً للتّندّر والطّرافة، ما زاد من التّفاعل مع القضيّة وشيوعها”.
ويرى مواسي أنّ مستخدمي شبكات التّواصل الاجتماعيّ، من الفلسطينيّين وغير الفلسطينيّين، وبأكثر من لغةٍ وشكلِ نشر، استطاعوا أن يحوّلوا فرية نتنياهو إلى أضحوكةٍ ترافق المواقف السّياسيّة والتّأريخيّة الرّسميّة الغاضبة والمستنكرة، فلسطينيًّا وإسرائيليًّا وألمانيًّا، فانقلب سحر السّاحر عليه. فنتنياهو الذي استحضر شخصيّة الحسينيّ مجرمًا، أحياه لدى الأجيال الفلسطينيّة الجديدة بطلًا نبيلًا، وإذ أراد تحميل الفلسطينيّين مسؤوليّة “الحلّ النّهائيّ” (المحرقة) لشيطنة انتفاضتهم الحاليّة، فإنّه وجدهم أكثر النّاس اعترافًا بالمحرقة ودفاعًا عن أنفسهم من هذه الفرية. ومن المفيد والمهمّ أنّ شبكات التّواصل الاجتماعيّ كانت مساحةً لإثارة مختلف القضايا المنبثقة عن هذه القضيّة، مثل مدى جدوى لقاء الحسينيّ بهتلر وموسوليني وأخلاقيّة هذه اللّقاءات، وكذلك استغلال الصّهيونيّة لمعاناة اليهود في أوروبا لتحقيق مآربها السّياسيّة الاستعماريّة، وتغييب القيادات الفلسطينيّة اللّاحقة للحسيني، وعلى رأسها ياسر عرفات، لشخصيّة الحسيني وإرثه”.