في عرض موسيقيّ لأعمال كلاسيكية: “جوقة سراج تسترق يومًا من إذاعات فلسطين”/ أسماء عزايزة
إلا أنّ ما يميّز هذا الحفل الإذاعي، هو أنّ الغالبية الساحقة من الأغاني غير معروفة، وأنّ الملحنين الفلسطينيين الذين تم اختيارهم ليسوا مألوفين لكثيرين، حتى أولئك الذين لا يزالون ينبشون في الكلاسيكيّات.
| أسماء عزايزة |
“هنا يافا”.. صوت “الخشخشة” ضروري، لا تنظّف الصّوت من خربشاته الصّادرة عن جهاز الراديو الخشبيّ، الذي يبدو وكأنه ينقل صورةً وحسًّا وعالمًا بأكمله. يجلس كملكٍ في صدر الدار، وتتجمع العائلة حوله وكأنه خطيب سيمنح سامعيه لحظة مسروقةً من الزمن، ولن تعاد. كأن يكون رئيس قسم البرامج شاعرًا؛ إبراهيم طوقان. كأن يكون “أبو سلمى” على رأس القسم العربي في الإذاعة. عند الثانية ظهرًا، سيحضر الأخطل الصغير لمتابعة سير الأمور. وعند الرابعة، سنجهّز الاستوديو لتسجيل أغنية لفليمون وهبي القادم من لبنان، يليه فريد الأطرش برفقة الملحن العكيّ يحيى اللبابيدي، في تسجيل لأغنية “يا ريتني طير”. الإعلانات التجارية، أيضًا، ضروريّة؛ لا تخفض صوت الراديو حين يعلو إعلان غنائي لفروع شركة في نابلس وغزة وحيفا. وعند حلول المساء، سنستمع إلى حفل موسيقيّ تنقله الإذاعة.
قد يبدو ذلك يومًا متخيّلا في إذاعة فلسطينية، وقد يقارب الفانتازيا بالنسبة لمن فاته أن يسمع أو يقرأ عن يوم كهذا، صار فعلاً وأرّخه الوقت دون تأتأة. وعن مرحلة كان الحراك والإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ فيها مركزًا ومحطًا في قلب الجغرافيا العربيّة. وعن لحظة كانت الثقافة العربية امتدادًا لهذا المركز وليس العكس، كما نقول اليوم “إننا امتداد” لهذه الثقافة.
إذاعة الانتداب: مدرسة الموسيقى الفلسطينية
جوقة “سراج” من قرية الرامة في الجليل الأعلى، تحيي اليوم هذه اللحظة المسروقة من الزمن، بإحيائها لأعمال ملحنين فلسطينيين هجروا عام 1948، وكانوا انطلقوا من إذاعات فلسطينية، كإذاعة “هنا القدس” وإذاعة “الشرق الأدنى”، إلى الفضاء الفني العربي ونحو إغناء الأغنية العربيّة وأرشيفها. والمؤسسة الإذاعية الأولى، التي أسسها الانتداب البريطانيّ في فلسطين عام 1936 بهدف إرسال رسائل الحكومة البريطانية إلى الناس، ترك لنا روّادها الفلسطينيون من كتاب ومذيعين ومطربين وشعراء أرشيفًا قد يضاف إلى ما نسميه بـ”التراث الفلسطينيّ”، لكنّه مختلفٌ عن الأغنية الشعبية أو الأهزوجة. فهو محكم اللّحن والكلمة، ومتنوّع في انفتاحه على الإرث الموسيقيّ الشرقيَ بعامّة. يعود هذا الإنتاج إلى مسامعنا عند نهاية الشهر الحالي، من خلال عرض بعنوان “الحفل الإذاعي: يا مروّح بلدك”. تقدمه جوقة سراج التي تأسست عام عام 2005، والتي تضم عددًا من الموسيقيين المحترفين والموهبين، الذين يعملون، بقيادة الموسيقي سامر بشارة، على إحياء الموسيقى العربية وإعادة توزيع أغان قد تذهب طيّ النسيان إن لم يتم إحياؤها. وعرض “سراج” هذا ممثّل في وكالة “عمل فني”؛ وهي وكالة تسعى إلى تقديم وتمثيل الفنانين الفلسطينيين أمام المنصات والمهرجانات الفنية في العالم.
فلسطينيون وراء عمالقة الفنّ
كثيرون يعيدون تقديم أغان كلاسيكيّة، سواءً من باب نقلها بلحنها وأدائها الأصليين، وبالتالي توريثها دون أيّ تجديد أو تصرّف، أو من باب السعي نحو إعادة توزيعها. وفي كلتا الحالتين، بات مملّاً للمستمع أن يتلقاها، سيما وأنها متوفّرة بكثرة على الانترنت. إلا أنّ ما يميّز هذا الحفل الإذاعي، هو أنّ الغالبية الساحقة من الأغاني غير معروفة، وأنّ الملحنين الفلسطينيين الذين تم اختيارهم ليسوا مألوفين لكثيرين، حتى أولئك الذين لا يزالون ينبشون في الكلاسيكيّات. هؤلاء الملحنين، الذين عُرفوا في فلسطين وقتئذٍ، عبر إذاعة “هنا القدس” وإذاعة “الشرق الأدنى”، التي بدأ بثها من مدينة جنين لتنتقل بعدها إلى يافا ثم القدس، وإن لم تعلق أسماؤهم في الذاكرة الفلسطينية بعد ذلك، إلا أنهم كانوا وراء شهرة أغان عربيّة فارقة، وربما وراء شهرة بعض المطربين العرب الذين لمعوا عند منتصف القرن الفائت. لذلك، تأتي هذه المعرفة الجديدة، العامة، والخاصة؛ في أسلوب التلحين واختيار الكلمة وغيره، لتكون إضافةً نوعيّة على مشهد إعادة تقديم الأغنية الكلاسيكيّة.
هي، أيضًا، معرفة تضيف إلى خارطة الأعلام العالقة في الذهن والذاكرة، الموسيقيّة على الأقل، أسماءً جديدة. “إن هذا اللحن هو بمثابة مدرسة فنيّة كاملة”، يقول رياض السنباطي معلقًا على لحن أغنية “يا عيني عالصبر”، الذي وضعه الملحّن رياض البندك، ابن بيت لحم. تقدّم جوقة سراج عددًا من الأغاني من تلحينه، هو الذي لحّن لوديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات وجورج وسوف، وكان أول من رافق المطربة فايزة أحمد في سلّم نجاحها. يحييى اللبابيدي، ابن عكا، يقدّم كنموذج آخر لملحّن انطلق من إذاعات فلسطين إلى بيروت، وهو من لحّن أولى أغاني فريد الأطرش؛ “يا ريتني طير”. أما حليم الرومي، والد ماجدة الرومي، الذي يعتقد كثيرون بأنه لبنانيّ، فولد في مدينة الناصرة، وترأس القسم الموسيقي في إذاعة الشرق الأدنى الفلسطينيّة، تليه قائمة طويلة بملحنين بارزين تنوّعت أعمالهم بين الأدوار والموشحات والأغاني كيحيى السعودي ومحمد عبد الكريم وغيرهم، ممن تركوا رصيدًا غنيًا وسيرًا مثيرة في المشهد الموسيقيّ أواسط القرن الماضي.
يضاف إلى مسألة اختيار جوقة سراج لهذه الأعمال، تصرّفها في التوزيعات التي تتيحها التركيبة الموسيقيّة الواسعة في الجوقة، والتنوّع الذي تتمتع به في أصوات كورالها، الذي يقدّم غناءً منفردًا (سولو) في عدد من أغاني العرض. صحيح أن “الخشخشة” التي تصدر من جهاز الراديو، أو حتى من الأغاني القديمة بصيغة إم بي 3، ضروريّة، وقد تكون جزءًا عضويًا من عملية التلقي. لكنّ عرضًا حيًا كهذا، يعيد لك التفاصيل، البشرية والموسيقيّة، يعيد لك شيئًا من الحياة في صوتٍ آتٍ من بعيد، وتخاف أن يتصلّب.