مسرحية “غربنا البحر”، حين نحكي نكبة العالم/ رشا حلوة
والأهم، أنّ العمل الفنّي هذا، بحديثه عن النكبة، نكبة الإنسان والمكان، قادر على أنّ يحكي أيضًا مع كلّ من عاش مأساة، كفرد في ظلّ مأساة جماعة، وكمأساة جماعة كبرى، في كلّ مكان على هذه الأرض. وهُنا تكمن الحكمة أيضًا، بقدرة عمل فنّي على أنّ يحكي قصّة يافيّة تهجّر أهلها، وبنفس الوقت قصّة حلبيّة لا زالت تبحث عن أصوات جيرانها في حدائق بيوتهم.
| رشا حلوة |
عند السّادسة مساءً من يوم الجمعة، الثالث والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2015، خرجنا أنا وصديقتي “جوجو” من حيفا باتجاه يافا لحضور مسرحية “غربنا البحر”. وكالمعتاد، وبما أنّ زياراتي ليافا قليلة للأسف، وبما أنّ ليس لي صلة بمستوطنة تل أبيب الكبيرة التي نهشت ولا زالت تنهش بلحم يافا، فإني لا أعرف شوارعها جيدًا، لذلك قمت بتفعيل الـ “جي بي إس” للوصول إلى المسرح.
وصلنا مسرح السرايا عند السّاعة 19:45، لم يكن قد وصل أحد. كان الصّديق الموسيقيّ فرج سليمان، مؤلف موسيقى المسرحية، أول من رأيته. سألته عن الناس، فقال أنّ ما زال هنالك وقت لموعد المسرحية في الثامنة والنصف. وأنا، من لهفتي، اعتقدت أنّ المسرحية ستبدأ عند الثامنة. والمعلومة أفرحتني، سيكون لدينا متسع من الوقت للقاء القادمين إلى المسرحية وللحديث معهم.
بدأت الناس بالوصول، كانت هناك وجوه لم أعرفها، ووجوه من يافا أو مقيمة فيها، التقينا في مناسبات متنوعة، وجمهور آخر وصل من حيفا خصيصًا لمشاهدة المسرحية، مثلنا.
داخل مبنى المسرح، وقبل بدء المسرحية، وُضعت أغاني كلاسيكيّة عربيّة. وعند السّاعة 20:40 دخلنا إلى المسرح الصغير والدافئ. والذي خرج من منصته لون أزرق كالبحر، وخارج المنصة وبجانب المدرج، وُضع “الدرامز” الذي سيعزف عليه الموسيقيّ فرج سليمان.
قبل أن أبدأ بالحديث عن انطباعاتي من المسرحية، من الجدير بالذكر أنّ “غربنا البحر” هي من تأليف أمير نزار زعبي والمجموعة، تمثيل كلّ من خليفة ناطور، ريم تلحمي، عامر حليحل، غسّان أشقر وفداء زيدان. الإخراج لأمير نزار زعبي، الإعداد والدراماتورجيا لخليفة ناطور، التصميم لأشرف حنّا، الألحان لفرج سليمان، عازف حيّ جونن فيزل، المستشار التقني معاذ جعبة والمنتج المنفذ محمد باباي وإنتاج “مسرح السرايا” في يافا. وصورة الملصق لهانية عَسوَد، وهي صورة من بحر بيروت.
قصص النكبة الصغيرة/ الكبيرة
المسرحية ابتدأت. دخل طاقم الممثلون إلى المنصة؛ خليفة ناطور، عامر حليحل، ريم تلحمي، غسّان أشقر وفداء زيدان. منذ اللحظات الأولى، أخذتنا المسرحية إلى الدراما؛ إلى المكان والزمان؛ يافا 1947. والأهم، بأنها أخذتنا إلى من عاش تلك الفترة، إلى يوم من أيام حياته العاديّة جدًا، إلى رجل عامل من يافا أنقذ حياة رجل آخر، من الطبقة البرجوازية اليافيّة. وبعدما أنقذه، كانت إجابته على سؤال المقابل أو التعويض النابع من الامتتان، بأنه يريد “بدلة” مثل “بدلته”، وهذا ما حصل.
تأتي المسرحية بمحاور حياتيّة لشخصيات عديدة ومتنوعة عاشت في يافا؛ منها شخصية “رجل البدلة” (خليفة ناطور)، هذا الاسم الذي حمله معه منذ النكبة عام 1948، حيث لم يبق له شيئ سواها، هي التي عاشت معه سنوات حياته الصّعبة بعد الاحتلال، وهي التي حين اجتاحه الجوع، لم يستطع أنّ يبيعها كي يأكل. وشخصية “سعاد” (فداء زيدان/ ريم تلحمي)، الفتاة الوحيدة التي بقيت من عائلتها بعد أنّ هجّرت عبر البحر واعتقد أفرادها بأنّها قُتلت أثناء القصف. “سعاد” التي وجدت لها طريقة بأنّ تكمل حياتها؛ تسقي زرع جيرانها الذين هجّرتهم القوات الصّهيونيّة، وتلتقي بعد فترة بـ “خليل”، الذي يصبح زوجها فيما بعد، وتنجب منه “طارق”، وبعد نكسة عام 1967، تسنح لأخيها فرصة زيارتها قادمًا من غزّة.. وتكبر وتشيخ ولا تفكر بشيء سوى أنّ تسقي زرع الجيران.
هذا بالإضافة إلى شخصيات عديدة، يقوم طاقم الممثلين بأدوارها المتنوعة بتقنية عالية، وكل الشخصيات تبدأ قصصها مع النكبة، مرورًا بفترة الحكم العسكريّ ومن ثم النكسة وصولًا إلى عام 2015. هذا بالإضافة إلى أنّ المسرحية استطاعت أيضًا أنّ تحكي عن حيوات الشخصيات ما قبل الاحتلال، استطاعت أنّ تُحضر يافا ما قبل العام 1948، من خلال تفاصيل صغيرة، وحنين الشخصيات إلى “الأيام القديمة”، وبقاء بعضها “هناك”.
تتميز “غربنا البحر” بمحاور عديدة، إلا أنّ أكثرها قوة، هو قدرتها على سرد النكبة من جديد، النكبة المستمرة التي لم نتنهِ منذ 67 عامًا، من خلال قصص الناس العادية، من خلال قصص الناس التي همشتها العناوين الكبيرة للأخبار والتقارير والمنصات والمؤتمرات. هذه القصص التي تشكّل إحدى الإجابات للسؤال: “ماذا حصل بحبّ عاشقين بقيّ أحدهما هُنا؟ وتهجّر الآخر؟”، ولسؤال: “كيف نجح أحد بأنّ يصيغ له معادلة لإكمال حياته؟ بلا أحلام كبيرة وانتظار طويل؟”.
“غربنا البحر”، هي مسرحية تعيد الاعتبار للفرد الذي بيننا، للفرد الذي وإنّ عاش قصّة مختلفة عنا، لا زال يشبهنا.
التجديد
الأمر الآخر الذي يميّز هذا العمل، هو قدرته على الحديث من جديد عن النكبة، النكبة التي لم نكف يومًا الحديث عنها؛ في المسرح والسّينما والموسيقى والصّور والفنّ التشكيليّ، وبحوارات البارات والمقاهي وسهرات البيوت. لكن قدرتها العظيمة بأنّ تعيد الحديث مرة أخرى عن حدث تعرفه جيدًا، رغم أننا لم نعش جميعنا حكاياته الأولى، أنّ تتحدث عنه مرة أخرى وتكشف عن طبقات الرواية، رواية الإنسان والمكان، لم تكن تعرفها من قبل. أنّ تضيف الجديد للرواية، أنّ تقول شيئًا لم يتطرق إليه أحد من قبل، أنّ تثير أسئلة جديدة، عن من نحن، وهذه هي وظيفة الفنّ الأبديّة.
والأهم، أنّ العمل الفنّي هذا، بحديثه عن النكبة، نكبة الإنسان والمكان، قادر على أنّ يحكي أيضًا مع كلّ من عاش مأساة، كفرد في ظلّ مأساة جماعة، وكمأساة جماعة كبرى، في كلّ مكان على هذه الأرض. وهُنا تكمن الحكمة أيضًا، بقدرة عمل فنّي على أنّ يحكي قصّة يافيّة تهجّر أهلها، وبنفس الوقت قصّة حلبيّة لا زالت تبحث عن أصوات جيرانها في حدائق بيوتهم.
الذاكرة
بعد كلّ عمل فنّيّ جيّد عن النكبة، نخرج بشعور بأنّنا تعلمنا شيئًا جديدًا عن أنفسنا، تلك التي تعيش في ذاكرة موروثة، التي تحوّلت مع الوقت إلى أكثر ما نعرفه، رغم أنّ القسم الأكبر منا لم يعشها فعليًا، لم يعش الاحتلال عام 1948، وعن أنفسنا اليوم، عن أنفسنا التي تعيش في الحاضر من أجل الحافظ على الذاكرة وبقائها، كي تبقى حيّة.
نحن، وهُنا أتكلم عن جيلي أنا، الجيل الثالث، كان لنا “الحظّ” بأنّ نسمع القصّة من الجيل الأول، الجيل الذي عاش النكبة، والجيل الثاني الذي عاش الحكم العسكريّ والنكسة، أنّ نسمعها من مصادرها الأولى، والتي في غالبيتها عبارة عن ذات القصص مع فارق في التفاصيل الصغيرة، رغم أنّ تفاصيل كثيرة لم يسردها أحد، هذه المشاهد الخاصة الذي حافظ الجيل الأول على خصوصيتها ووجعها ورفض الحديث عنها، ونحن لم نسأل كثيرًا كي لا نزيد الوجع.
في “غربنا البحر”، استطاع طاقم العمل أنّ يبحث عن تفاصيل الذاكرة الموروثة هذه، التي ليس بالضرورة أنّ يكون هنالك من عاشها حرفيًا كمشاهد وقصص المسرحية، لكنها بالضرورة حقيقية تمامًا، فهي من وحي نتائج الحرب والدمار والتهجير والقتل، من وحي الذاكرة الموروثة بعناوينها الكبيرة. ومع كلّ مشهد من المسرحية، المُشاهد قادر أن يتفاعل ويتأثر، يبكي ويضحك، لا فقط لأنّ التمثيل متقن والقصص مؤثرة، بل لأن كل منا يقول لنفسه: “أنا أعرف هذه القصص التي لم يحكها أحد.. لأني كل ما سمعت قصّة احتلال قرية أو مدينة فلسطينيّة، سألت نفسي: ماذا حدث لصاحب بيارة حرقت الحرب برتقالها؟”.
تمشي المسرحية معنا بالزمن، وتحضرنا إلى عام 2015، إلينا نحن، المحمّلين بالذاكرة والحاضرين بالنكبة المستمرة والمليئين بتناقضات الدُنيا كلها. استطاعت المسرحية أنّ تأخذنا إلى رحلة مع الوقت الذي مرّ، الذي لم يعشه فعليًا قسم كبير منا، وإلى الوقت الذي نعيشه اليوم، كشريط سينمائيّ لا يعطيك إجابات مباشرة عن السؤال: “ماذا حلّ بنا اليوم؟”، بل يضع الحاضر المليء بتفاصيل بشعة في سياقه، هذه التفاصيل التي تجعلك غاضبًا ومستاءً، التي سرعان ما تشعر بأنها هامشية وقابلة للاختفاء طالما لا زال هُنالك من يشم روائح ذاكرة المكان والإنسان الحيّة، وإنّ غاب أصحابها، وينقلها باستمرار.
الروائح الحيّة
في مونولوغ لـ “طارق” (عامر حليحل)، ابن “سعاد” و”خليل”، وهو مونولوغ يحدث في العام 2015، بعد رحيل والدته التي رحلت بعد وفاة أبيه “خليل” بفترة قصيرة”، يحكي عن اللحظة التي فتح خزانة ملابس والدته وحمل بعضها ليشمّها. يحكي كيف نقلت له الملابس روائح كلّ المراحل التي مرّت بها والدته منذ الاحتلال عام 1948 إلى يوم رحيلها.
لن أحكي كثيرًا عن هذا المشهد، لكني سأقول شيئًا واحدًا فقط: لم أشاهد في حياتي مشهدًا مسرحيًا، ولا نصًّا ولا أداء، كأداء عامر حليحل، قادرًا على أنّ ينشر الروائح الحقيقية للأزمنة والمكان والبحر في قاعة مسرح صغيرة ودافئة.
الديكور، الملابس والموسيقى
ضمن هذه الفقرة، سأتطرق بشكل مختصر إلى عامل الديكور، الذي عمل على تصميمه أشرف حنّا، وإلى الموسيقى، التي قام بتأليفها فرج سليمان. المسرح هو عمل جماعيّ تمامًا، كلّ عنصر فيه يساهم في شموليته. الأهم، بأنّ كل تلك العناصر؛ من نصّ وتمثيل وأداء وموسيقى وملابس وديكور في حوار دائم فيما بينها. وهذا ما يجعل العمل الفنّي أكثر تميزًا. حيث خلال مشاهدتي للمسرحية، بكل تفصيل فيها، شعرت أنّ كلّ الأفكار الإبداعيّة التي تجمعت على المنصة أمامي كانت نتاج حوارات مستمرة، أعطى فيها كل عضو في طاقم العمل إبداعه ورؤيته الفنّيّة، بالإضافة إلى شعوره بالانتماء للفكرة والمقولة والأسئلة التي يحملها العمل الفنّيّ إلى أنفسهم، كطاقم أولًا، وإلى الناس.
الممثلون والممثلات
سأقول شيئًا واحدًا عن أداء الممثلين والممثلات؛ حين يكون قد مرّ وقت على حضورك لمسرحية، سواء ساعات قليلة أو أيام أو أسبوع، وأنت تعرف بأنّه لوّ مرّت سنة أيضًا، ولا زالت الشخصيات حاضرة في ذاكرتك، وكلما فكرت في إحدى الشخصيات، شعرت بدفء ما في قلبك، تأكد بأنّك وجدت كنزًا.
شكرًا خليفة ناطور، ريم تلحمي، عامر حليحل، فداء زيدان وغسّان أشقر.
يافا والبحر
قليلة هي الأعمال الفنّيّة التي تحكي عن نكبة المدينة، حيث تحضر نكبة القرية بقوة أكثر في روايتنا الفلسطينيّة. وتسليط الضوء على يافا/ المدينة في هذا العمل المسرحيّ، هو بالغ الأهمية. من جهة، إعادة الاعتبار لتاريخ المدينة الذي قتله الاحتلال قصدًا، سواء في يافا أو أي مدينة فلسطينيّة أخرى، إلا أنّ قتل يافا كان الأهم بالنسبة للحركة الصهيونيّة، لأهمية “عروس البحر” سياسيًا وثقافيًّا ما قبل النكبة، على المستوى الفلسطينيّ والعربيّ كذلك، المدينة التي كان عدد سكانها 120,000 نسمة وبقي منهم 4,000. ومن جهة أخرى التأكيد على هويتها في ظلّ طمس إسرائيليّ مستمر لمعالمها الأولى ولهوية الفرد/ الجماعة فيها. وذلك من خلال قصص ترويها المسرحية وشخصياتها المتنوعة.
المحور الثاني هو علاقة المدينة بالبحر، وعلاقة أهلها بالبحر، سواء أهل المدينة نفسها أو أهل المكان/ الجغرافيا، الذي يشكّل البحر بالنسبة لهم أمرين نقيضين تمامًا؛ الموت/ والحياة. الموت المترجم بالتهجير والترحال والفقدان، والحياة بما يشكّله البحر من مصدر معيشة (ولوّ لفئة صغيرة)، لكن أيضًا ارتباطه بالأفق والمدى، بما في ذلك من “حياة” لمن يختنق تحت الاحتلال ولأي ابن لمدينة بحر.
المحور الثالث هو أنّ علاقة أهل يافا/ فلسطين بالبحر اليوم، لا تختلف عن علاقة اللاجئين، اليوم، الذي يعبرونه للبحث عن الحياة، رغم احتمالات الموت الكثيرة فيه. وفي هذا، ما أشبه الأمس باليوم، وكم تشبه قصص شخصيات “غربنا البحر” شخصيات الآلاف في العالم. ولذلك، بإمكاننا اعتبار العمل المسرحيّ هذا، عمل كونيّ ووجوديّ، يحكي ألم الكثيرين، أحلامهم وأسئلتهم.