“إسبانيا” دالي : عن الذاكرة و الهواجس والمدن/ د.عبد الله البياري
تبدو الذاكرة/الخزانة ها هنا، بناءً سلطويًا قمعيًا، فهي –تبدو وكأنها- تبدأ من نقطة واحدة، أو لها منفذ وحيد، وهو الدرج بالأعلى، في حين أننا إذا أمعنّا النظر، سنجد تراسيم أدراج سابقة تحته، يبدو أن دالي يخبرنا أن الذاكرة تعاضد ذاكرات، ولكنها قمع ذاكرات لذاكرات، لتنتصر الذاكرة الأقوى بالنهاية، كيف هي الأقوى؟ بقمعها لسابقاتها باللغة والتاريخ والضوء.
| د.عبد الله البياري |
لطالما أصابتني لوحة “إسبانيا” (1936 – 1938) لسلفادور دالي بمسٍ ما غير مفهوم ولا محدد المعالم والسيرورة، وغرست في طينة عقلي بذور تساؤلات وجودية حية أثقلت عليّ علاقتي بذاتي بقدر ما حررتها، فتشقق فيها الممكن و المجهول معًا. بدأت تلك العلاقة في الجامعة، حيث كنت طالب طب أسنان، ولا زلت أتذكر ماكان يعلق بي من نظرات زملائي في الجامعة المتعجبة وتندراتهم –أحيانًا-، لأنني كنت دائمًا أحمل دفتر رسم من نوع “كانسون أو فابريانو” كل صباح وأنا ذاهب إلى الجامعة، حيث قضيت أول سنتين تقريبًا لا علاقة لي بأحد من زملائي، فقد كنت أقضي جل وقتي في كلية الفنون التطبيقية (لكم يضايقني المسمى، بما فيه من نفعية ونخبوية)، وتحديدًا في المكتبة، حيث تعرفت هناك إلى Spain ومن حينها ولا أزال أسيرها، أسمع لها هدير ريحٍ بداخلي (كما أسمع لأجساد إيغون شيليه أصواتًا، ولأجساد غوستاف كليمت موسيقا)، تعيرني تلك اللوحة لا مكانها، وتفتح أبوابًا لا قبل لي بها على داخلي، لتغدو هي أيضًا جزءً من مسامي التي أقف عليها كحيزٍ طرفي/بيني (بتعبير إدوارد سعيد) بيني وبين خارجي من ناحية، و بيني وبيني من ناحية أخرى، كلما استطعت الوصول إليها، استطعت الوصول إلي، هذه اللوحة هي قيامتي المستهجنة، في زمان ومكان مغايرين.
في اللوحة ثمة صراع/حوار بين كيانين إثنين: الذاكرة و الهواجس. الأولى تكاد تكون الثيمة الأبرز في أعمال دالي، ففي لوحة “استمرار الذاكرة” 1931 (وتسميها بعض المصادر الأخرى “إصرار الذاكرة”، وثمة فارق)، التي بحث فيها دالي عن مفهوم الزمن هل يستمر أم يفنى؟ فكيف للذاكرة أن تكون بلا زمن؟ الزمن هو سؤال الذاكرة الأساس. إذ “ليس ثمة ذاكرة واحدة، ثمة ذاكرات بقدر الذكريات، وثمة ذاكرات بقدر الإبداعات. ثمة ذاكرات بقدر صمودنا في وجه الذاكرة الجمعية النمطية الجاثية سلفًا على أقدارنا تحت راية الإنتماء إلى جماعة أو ثقافة أو تراث ما، وثمة ذاكرات بقدر قدرتنا على بعثرة الزمن الرياضي الذي يدقع بالجميع كلما إنقضت لحظة ما إلى الموت”.
تبدو الذاكرة هي الخزانة التي وضعها دالي في منتصف اللوحة، بما اختبأ فيها من عوالم وأسرار ومجاهيل وكلمات، ما يثير في المتلقي السؤال، لمن هي تلك الذاكرة/الخزانة، و ماذا يمكن أن يكون في الذاكرة/الخزانة من ذاكرات؟ فهي الحيز الوحيد غير المكشوف للمتلقي/العين الثالثة.
تقف الخزانة صلبة ثابتة بشكل مركزي في اللوحة/السرد/التشكيل، من دونها تنهار اللوحة، وتفقد اتجاهاتها، فبمجرد أن نتخيل غيابها، يتيه نظر الرائي/العين الثالثة/المتلقي في الأبعاد، فنغدو بلا ذاكرة مع اللوحة، ومن بلا ذاكرة هو بلا زمن، ومن بلا زمن بلا وجود، الذاكرة وجودنا الزمني، وبالتالي فهي وجود اللوحة الزمني لدينا.
من تلك الخزانة ووقوفها مركزيًا، تخرج الفضاءات المكونة للوحة/الحكاية، فتمتد الصحراء والمدينة وعلاقتهما المتواشجة في أعلى اللوحة، ونهايتها (المتلقي/الرائي/العين الثالثة). تلك الفضاءات التي بها توجد فكرة دالي وتأويلاتها معًا، هي في النهاية امتداد لتلك الذاكرة، التي يمكن القول بأنها بؤرة السرد/التشكيل ككل.
تبدو الذاكرة/الخزانة ها هنا، بناءً سلطويًا قمعيًا، فهي –تبدو وكأنها- تبدأ من نقطة واحدة، أو لها منفذ وحيد، وهو الدرج بالأعلى، في حين أننا إذا أمعنّا النظر، سنجد تراسيم أدراج سابقة تحته، يبدو أن دالي يخبرنا أن الذاكرة تعاضد ذاكرات، ولكنها قمع ذاكرات لذاكرات، لتنتصر الذاكرة الأقوى بالنهاية، كيف هي الأقوى؟ بقمعها لسابقاتها باللغة والتاريخ والضوء.
الذاكرة/الخزانة، راسخة بقوة في منتصف اللوحة، تفتح لنا طرفًا قليلًا منها، وتمد النذر اليسير من بواطنها: قطعة قماش حمراء، لا نعلم أهي منديل تلطخ بالدم، أم علم دولة ما سقط في حرب ما (وهنا يمكن أن نطرق باب دلالة التسمية: “إسبانيا” والحرب الأهلية التي حدثت وقت رسم تلك اللوحة)، أو ثمة طمث ودم ولادة عليه، بقية القصة في الذاكرة، الذاكرة بكل ما حملته من ذاكرات، هنا تكمن الحكاية، فالحكاية ليست لذاتها، بقدر ما هي محض ذاكرة، والذاكرة قمع على غير حياد، فعندما نستعيد حكاية ما من ذاكرتنا ستتغير بتغير موقعنا وزماننا..
الهواجس، تلك السيدة الأنثى الجميلة بأثرها لا بذاتها، والتي تكونت من تهويمات دالي خارج الذاكرة، يبدو أن الإتساع خارج الذاكرة لم يشفع لتلك السيدة أن تكون، فما هو خارج الزمن والذاكرة لا وجود له، هو تهويمات وخيالات وجنون (بالمنطق الفوكوي للجنون وهو خروج الفكرة عن منطق القمع الممأسس للعقل، والعقل أحد أبنية الذاكرة). هي –السيدة- توجد فقط بقدر تماسها مع الذاكرة/الخزانة، لها أقدام تقف عليها فقط بقرب الذاكرة ولها ذراعان على غير تمامٍ، ولها ظل يشي بوجودها، لا بما هي عليه، ولكن بقدر ما تمسها الذاكرة فقط، فلا ظل لتلك الهواجس بلا ذاكرة، ولا ذراعان ولا أقدام.
هواجسنا نتذكرها فقط، وتغدو جزءً من هويتنا فقط إذا كانت ثقيلة كثيفة كالذاكرة، وإلا باتت نارًا وأصبحت رمادًا، تهويمات لاندرك أولها ولا هيئتها. الهواجس في إسبانيًا بالكاد تأخذ شكلًا، وإن بدت مغوية من تهويمات، فالهواجس حكايات ضبابية، كالأحلام التي نستيقظ منها فلا “نتذكرها” وتترك بقاياها في أعيننا وأرواحنا وأطراف أصابعنا، ما أن يتكثف الوقت وعيًا وصحوًا حتى ننساها، وإن فتح بابًا لها فرويد.
لكن هنا هواجس دالي بَنت مدنًا في البعيد، المدن تبدأ أنثى لدى دالي، بها حنين مكسور (كما يوضح وجه السيدة بصعوبة) إلى الذاكرة، حنين إلى المنتهي التام، الأساطير؟ ممكن، فالأسطورة كما هي مبتدأ الجماعة المتخيلة في المدن، هي جزء من ذاكرتها، تهويمات إتحدت مع الذاكرة والزمن، فبات لها قدم وذراع وظل، بل وتماثيل في ساحات المدن.
المدينة في أعلى “إسبانيا” تذكرني بمقطع من رواية “عالم بلا خرائط (لعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا) يقول متحدثًا عن مدينة “عمورية”:
” ليس من حقي أن أدين المدينة فأقول أنها لم تكن موجودة قبل عام 1948، وأنها لم تستطع أن تصل عام 1967، وأنها لم تقتنع عام 1973 . لا أريد أن أقول هذا، لأنه ليس دقيقًا، ولأن المدينة الضجة، الإذاعة والصحافة وبعض القطع العسكرية الرمزية، كانت موجودة – أو حاولت أن تكون موجودة!
في أعماقها كانت المدينة غافية، ولعلها ماتزال كذلك. إنها تشعر بنوع من الإستقرار والثقة وتحاول أن تتهرب أو تؤجل الكثير من الأمور، لعلها تنام ليلة وتقوم فتجد كل شيء وقد وجد حلًا له!
إطمئني أيتها المدينة… أنت مدينة من هذه المنطقة، وأنت موجودة لأنك امتداد لها، ولن تستطيعي أن تبقي أو تستمري إلا إذا كنت كذلك. “
هنا سؤال الذاكرة في المدينة –عمورية- ، من أتى قبلًا الزمن أم المكان؟ 48، 67، 73 أم عمورية؟ بلفظ آخر المدينة هاجس أم ذاكرة؟ وهل للهواجس من ضجيج وإذاعات وبعض القطع العسكرية، ما لم يكن كل هذا جزءً من الذاكرة؟، ذاكرة السكان أم المكان أم المدينة؟ أي جزءٍ من المدينة يمنحها وساكنيها الظل والذراعين والقدمين، هو ذلك الأقرب للذاكرة، ولكن أي ذاكرة تكتبها الإذاعة والقطع العسكرية؟ تلك الذاكرة الجمعية القمعية، الدرج الأعلى من خزانة الذاكرة؟ أم تلك الذاكرات الصغيرة لأهالي المدن؟ هواجسهم فيها، قبلاتهم المسروقة؟ ثوراتهم المنتهبة؟.
يقول عبد الرحمن منيف في “ذاكرة للمستقبل”:
“إن المدن الجديدة بقدر ما تشكل إضافة لنا ونحن نكتشفها، فإنها تجعلنا نكتشف مدننا، المدن التي ولدنا وعشنا فيها، والتي تشكلت منها ذاكرتنا، وأعطتنا جزءًا من ملامحنا ودربت أعيننا وأسماعنا على أشكال وألوان وإيقاعات أصبحت جزءًا منها. وهكذا تصبح المدينة، أية مدينة، تعرفًا وإعادة اكتشاف معًا، فنحن نعرفها ولا تعرفها، رأيناها، ولم نرها، جديدة وقديمة في آن واحد، وهي بكل المقاييس إضافة لذاكرتنا. وبهذه الطريقة يصبح للمدن مشهدًا جديدًا ومختلفًا، وتصبح أكثر من مجرد مكان”.
أتراه كان يعني أن المدن تواشج ذاكرة وهواجس معًا، وأن هذا التواشج يخلق لنا مجهولًا ما فينا وفي مدننا وأماكننا، لا ننته من مطاردته؟ هذا ما قاله دالي في لوحته، فثمة مجهول في تلك الذاكرات المتراكبة بعضها فوق/داخل/في بعض، تلك الخزانة الذاكرة التي تقف منتصبة في منتصف السرد/اللوحة، ماذا يوجد فيها؟ ماذا يوجد في ذاكراتنا؟ أيعقل أن نتذكر ما لا نعرف؟ (الديجافو) ما هو؟.
وتلك الهواجس، أيمكن أن نهجس بما نجهل؟ ألا يجعل هذا للمجهول جمالية ما تغوينا؟ من هؤلاء الذين شكلوا بوجودهم الأنثى الهواجس في اللوحة؟ أين هم؟ ذلك المجهول من الهواجس، والمهجوس بالمجهول يضيف جمالية ما إلى وجودنا، ويجعل مدننا/أماكننا ذاكرتنا بكل ما لا نعلمه (نهجسه) وما نعلمه (نتذكره) منها، الميدنة في أعلى “إسبانيا” هي خليط هواجس دالي وذاكرته، أهي إسبانيا؟!
يمكن القول بأن الأنوثة هاجس دالي، وليس هاجسًا بالمعنى الإيجابي الدافع للكلمة بقدر ما هي هاجس بالمعنى التهويمي للكلمة، فالأنوثة هناك دائمًا، لا تُرى لذاتها ولكن لأثرها على المتلقي، وذلك قمع من شكل مغاير، وإن كان متواترًا في الثقافة الغربية (والشرقية) بأن صور رؤية الأنثى مصدر لتفاعلات عدة تقع على المتلقي/الرائي كالجنون وفقدان العقل والموت (ميدوسا) .
فتصبح سردية دالي التشكيلية سردية واقعة (على الأقل في هذا العمل الفني، و”أحلام ذبابة”و”الطفل الجيوسياسي” وغيرها من الأعمال) تحت سطوة نحت/خلق الأنثى ومنحها الحياة بيد/أداة/لغة/ريشة/سردية ذكورية. فالهاجس هنا – في “إسبانيا”- مؤنث، لا يُكتب له الوجود لمجرد أنه موجود (ووجوده مؤنث)، فذات الأنثى لا تكون من دون أن يمنحها المعنى الذكر، والهاجس مؤنث، ووجوده سابق على تأنيثه، بينما الذاكرة التي هي كينونة زمنية هي موجودة ولها ظلها و أثرها وهيراركيتها وتراتبيتها لأنها صنيعة تعاضد أكثر من بنية ذكورية فحولية أولها الزمن (لاتسبوا الدهر فأنا الدهر). ماذا تحتاج الأنثى لتصبح أكثر من مجرد هاجس، وداعٍ للجنون والتهويم؟ الذكر/ دالي.
لعل هذا اللوحة تحديدًا هي ما دفعني إلى حدود الوهم.