أين مدارسنا الأهليّة من لغتنا العربيّة؟!/ أسعد موسى عودة
ذلك أوّلًا، وثانيًا: لو تيسّر لك مرّة أن تطّلع على كنز من كنوز علوم العرب الّتي لا تزال حتّى يوم النّاس هذا تُترجَم في الغرب لأدركت – يا أستاذ، أو لكان من المفروض أن تدرك – أنّ اللّغة العربيّة هي القالب الأصفى والبوتقة الأنقى والأداة الأرقى للتّعبير عن كلّ هذه العلوم وصوغ معادلاتها ودالّاتها، وضبط تعريفاتها الجامعة المانعة.
| أسعد موسى عودة |
قبل أيّام حصلت على – أو حصّلت – مدارسنا الأهليّة جرعة أخرى من الأكسجين من عطايا أورشليم، كيما تكون قادرة على الاستمرار ولو إلى حين. ولست هنا في معرِض الحديث عن ظلم الحاكم، فهذه مسألة فصل فيها فلّاحونا ورعاة أغنامنا وخِرافنا وأبقارنا وأبدعوا بحكمتهم بغير زيادة ولا نُقصان: “حاكْمَك ظالْمَك”. بل أنا هنا في معرِض الحديث عن ظلم المحكوم نفسَه (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ – قرآن كريم)، وإنْ في سياق آخرَ قد يبدو ليس ذا صِلة، لكنّه ذو صِلة حتمًا؛ ففي حديث أو بعض حديث لأحد الغيورين المخضرمين المنافحين عن هِبة الله للبشر، اللّغة العربيّة، مع أحد مديري مدارسنا الأهليّة (“الوطنيّة”) العريقة، سائلًا عن دواعي تراجع أو حتّى انحسار تدريس اللّغة العربيّة فيها – منذ سنين – إلى ما لا يتجاوز ثلاث وَحدات تعليميّة، فقط لا غير، لصالح مواضيع أخرى يُرى إليها، اليوم، اعتباريّة ومرغوبة ومطلوبة، من قبيل التّقنيّة العالية (“الهايتك”) أو تقنيّة الجزيئات المتناهية الصّغر (“النّانوتكنولوجيا”) أو الإعلام أو غيرها، الّتي ليس لعاقل أن ينكر أهمّيّتها، بَيْد أنّ الفرع لا يمكن أن يأتي على حساب الأصل – أجاب حضرة ذلك المدير من على مقعده الوثير أو الصّغير بما نصّه أو معناه نقلًا، وعلى ذمّة الرّاوي ومسؤوليّته، علمًا أنّه – في الأحوال جميعها – العبرة في الرّواية المعمول بها؛ الّتي نعلم يقينًا أنّها موجودة وممارَسة على أرض الواقع والحقيقة في السّواد الأعظم من مدارسنا الأهليّة (“الوطنيّة”) إلّا من رحم ربّي – أجاب حضرة ذلك المدير من على مقعده الوثير أو الصّغير: نحن مؤسّسة تعليميّة (مشدِّدًا على كلمة تعليميّة دون تربويّة – أ.ع.) تراعي متطلّبات العصر واحتياجات السّوق وميول الطّلّاب، وما يساعدهم على القبول للجامعات والكلّيّات (حيث إنّ هذه المواضيع تحظى بما يُعرَف في “العربيّة” – العبريّة – الإنـﭽـليزيّة بكلمة “بُونُوس”، وهي العَلاوَة في العربيّة يا حضرات – أ.ع.)، وإلى ما ذلك من اعتبارات وتسويغات استفاض حضرة ذلك المدير في طرحها من على مقعده الوثير أو الصّغير. فلحضرته، بصفته وشخصه و”فكره”، وبعيدًا عن الخطاب الإنشائيّ التّعبَوِيّ “الكربلائيّ” الّذي له مخاطَبوه الأبرار من الحرائر والأحرار، نقول:
إنّما الإنسان – يا أستاذ – في أصله وفصله وكينونته وصيرورته وسيرورته – إيقاع لغويّ، هكذا الله شاء، أو هكذا شاءت الطّبيعة لمن لا يؤمن بمن بلا عمدٍ رفع السّماء. وبفعل الإحساس بخامة الإيقاع هذه والاحتكاك بها، وهي الواجبة الصّقل والتّعليم والتّطوير والتّهذيب، أبدًا، تُضبط معارف الإنسان كافّة، الفطريّة الحسّيّة منها والعقليّة المُكتسَبة؛ فنحن – البشر – يا أستاذ – نحسّ بلغة ونفكّر بلغة ونحلم بلغة ونعبّر بلغة ونعمل بلغة ونتعلّم بلغة، ونتعلّم أيّ لغة أخرى بلغة (لغتنا الأمّ، إن شئنا أن نعلم اللّغة الأخرى، فعلًا) فنراكم ذاكراتنا وإدراكاتنا العلميّة والتّربويّة والسّلوكيّة والشّعوريّة والعمليّة بلغة، وعلى ذلك قِس. فإن حسُن ذلك الإيقاع اللّغويّ ورقا وطغى – يا أستاذ – حسُن معه ذلك كلّه ورقا وطغى، وإن قبُح وانحطّ وامّحى قبُح معه ذلك كلّه وانحطّ وامّحى، وعلى ذلك قِسْ.
ذلك أوّلًا، وثانيًا: لو تيسّر لك مرّة أن تطّلع على كنز من كنوز علوم العرب الّتي لا تزال حتّى يوم النّاس هذا تُترجَم في الغرب لأدركت – يا أستاذ، أو لكان من المفروض أن تدرك – أنّ اللّغة العربيّة هي القالب الأصفى والبوتقة الأنقى والأداة الأرقى للتّعبير عن كلّ هذه العلوم وصوغ معادلاتها ودالّاتها، وضبط تعريفاتها الجامعة المانعة.
ذلك ثانيًا، وثالثًا: التّربية – يا أستاذ – لا سيّما أنّك لا تزال تتقاضى ميزانيّات من وزارة لا يزال اسمها “وزارة التّربية والتّعليم” – هي الأداة الّتي نهذّب بها ما نراكمه من علوم، وبدونها تصبح هذه العلوم، عاجلًا أو آجلًا، ورمًا حميدًا أو خبيثًا ينال من عافية جسدنا الخُلُقيّ كلّه، أو يُتلف وجودنا الإنسانيّ كلّه؛ فلا بُدّ – أو من المفروض – أنّك قرأت مرّة قول الشّاعر العربيّ: “وإنّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بقيتْ / فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبوا”. والعربيّة، لغة وأدبًا، وثقافة وحضارة – يا أستاذ – هي المحلّ الهندسيّ لجميع الأخلاق الّتي تبعد بعدًا متساويًا عن نقطة المركَز – الله – الطّبيعة – مصدر هذه الأخلاق جميعها، وفي فلكها تدور.
ذلك ثالثًا، ورابعًا: إنّه لمن نافل القول إنّ انحسار العربيّة في مدارسكم/ مدارسنا بهذا الشّكل – وفي هذين الزّمان والمكان بالذّات – ينزع عنها صفة الأهليّة أو قناع الوطنيّة؛ فاللّغة عمومًا واللّغة العربيّة خصوصًا ليست مجرّد وسيلة للتّعبير عن علم أو فكر أو ثقافة، بل هي وسيلة لتشكيل الثّقافة وتحديد الهُويّة وبناء الشّخصيّة. ورضي الله عمّن قال: “تعلّموا العربيّة؛ فإنّها تثبّتُ العقلَ وتزيدُ في المروءة”.
من كلّ معلّميّ تعلّمت ومن طلّابي تعلّمت أكثر
جاء في العبريّة: “מכל מלמדי השכלתי ומתלמדי יותר מכולם” (مِكُول مِلَمْداي هِسْكالْتِي أُمِتَلْمِداي يُوتِر مِكُلّام) وبترجمة إلى العربيّة بتصرّف: من كلّ معلّميّ تعلّمت ومن طلّابي تعلّمت أكثر. وكثير من طلّابي أنا من هم أصدقائي وأترابي، ومنهم أتعلّم؛ حيث إنّ حسن سؤالهم نصف العلم.
فردًّا على سؤال صديقيَ الشّاعر مروان مخّول حول معنى الاسم رَسْلان أجبت بما يلي: “رَسْلان: اسم علم مذكّر تركيّ ومعناه الأسد، وهو مخفّف من أرْسَلان وهو الأسد الهَصور. وإن شئته عربيًّا فاعتبر الألف والنّون في الأخير (رَسْلان) تفيدان النّسبة، ليكون المعنى المنسوب إلى أو صاحب الرَّسْل أي سهولة السّير أو السّهولة إطلاقًا، وإن لفظته رِسْلان (بكسر الرّاء) يكن اسمًا عربيًّا، إذًا، أي ذا الرِّسْل أي الخِصْب والرَّخاء؛ فمن إفادات الألف والنّون في أواخر الأسماء في العربيّة النّسبة، كاسمك (مروان)، مثلًا، فأنت المنسوب إلى الصُّوّان أو إلى نوع من الرّيحان، فأنت كريم كحجر الصُّوّان وجميل كالرّيحان يا صديقي…”
وردًّا على سؤال صديقيَ المعالج شربل بلّوطين حول عربيّ المصطلح العبريّ “סוגנות” (سُوﭼـانُوت) بكلمة واحدة، أجبت بما يلي: “هو أصْلًا في الإنـﭽـليزيّة Speciesism (سْـﭙِـيشِيزِيزِم) ومعناه التّمييز بين الأنواع أو تفوّق النّوع البشريّ، وبكلمة واحدة ابتكرتها لك، لغة واصطلاحًا، “الصِّنْفَوِيّة”.” فما رأي مجمعنا/مجامعنا الموقّر/ة؟ علمًا أنّ المصطلح في الإنـﭽـليزيّة قد صاغه عالم النّفس البريطانيّ ريتشارد رايدر عام 1970، في سياق الدّفاع عن حقوق الحيوان.
هذا وقد كان صديقي، قبْلًا، وبتصديق لغويّ متواضع منّا، قد ابتكر مصطلح “الخُضْرِيّة”، ترجمة للمصطلح العبريّ “טבעונות” (طِـﭭْـعُونُوت) وفي الإنـﭽـليزيّة Veganism (ﭬِـﭽـانِيزِم) أي النّباتيّة الصِّرْفة، حيث لا يدخل في الغذاء أيّ مركِّب حيوانيّ، لا لحم، ولا لبن، ولا حتّى غائط النّحل، العسل.
هذا وإنّه لمن الطّريف اللّافت أنّ هذه الأفكار الحداثيّة، غالبًا، كان قد سبق إليها، قبل أزيَدَ من ألف عام، الشّاعر العربيّ الفيلسوف، أبو العلاء المَعَرّيّ، حيث قال: “غدوتَ مريضَ العقلِ والدّينِ فالْقَني / لتَـعلمَ أنبـاءَ الأمـورِ الصّـحائحِ / فلا تأكلنْ ما أخـرجَ المـاءُ (البحرُ) ظالمًا / ولا تبغِ قوتًا من غَريضِ الذّبائحِ / وأبيضَ أُمّاتٍ أرادتْ صريحَه / لأطفالِها دونَ الغواني الصّرائحِ / فلا (ولا) تفجعنّ الطّيرَ وهي غوافلٌ / بما وضعتْ فالظّلمُ شرُّ القبائحِ / ودَعْ ضَرَبَ النّحلِ الّذي بكّرتْ له / كواسبَ من أزهارِ نبتٍ فوائحِ”.
فما رأي أستاذنا “أعلاه” في كلّ ما جاء أعلاه وأدناه؟