ارتحال الأوطان… ارتحال الهويات/ روان شرف
يقدم هذا المعرض تتويجًا لمجموعات من المشاريع الفنية لفنان ساهمت تجربته كمهاجر في الشتات في تثبيت هويته في وضعية من التشكل، التحول، الترحال من محدوديات القوميات التي يعرفها السياسيون ومن المعاني والرموز التي يفرضها الخطاب القومي. إنه يواصل رؤية نفسه كفلسطيني مع إدراكه أن فلسطين التي يتواصل احتلالها منذ وقت طويل لم تعد وحدة زمنية مكانية، وإنما بنية تخيّلية.
| روان شرف |
“تصعب في الشتات صيانة الهوية بوصفها – من نحن، من أين جئنا، ماذا نحن -… نحن هو “الآخر”، النقيض، خطأ في هندسة إعادة التوطين، ترحال” [1]
يشير معرض “ارتحال”، ويؤشر على عودة بشير مخول إلى فلسطين – ولكن، أحقًا هذه ممارسة لفعل العودة؟ وما الذي يعنيه لمخول، بوصفه فنانًا ومهاجرًا برغبته، فعل العودة من خلال معرض فني، والذي هو بحد ذاته فعل احتفائي مؤقت لاستعراض الافكار والتعبيرات؟
حقيقة أن “ارتحال” هو المعرض الشخصي الأول لمخول في فلسطين، وأنه يأتي بعد عشرين عامًا من إقامته في المملكة المتحدة، تشير إلى عودة بشكل ما بالنسبة إلى الفنان. ولكن العنوان “ارتحال” يقدم بالأحرى معاني إضافية، لعلها مناقضة لمعاني العودة. فالعودة كمصطلح، وخصوصا في السياق الفلسطيني، تفترض يقينًا فيما يتعلق بسؤال إلى أين تتم العودة ومن أين. أما الارتحال، فلا يحفظ أو يصون هذا الوضوح. إن شأنه يخصّ أكثر اللايقين، الزعزعة وخلل الترابط.
كما أن العودة، في السياق الفلسطيني، تظل فكرة محمّلة بعبء التاريخ الحديث لاستعمار فلسطين، وبناء عليه فطرح ممارسة ما على أنها عودة لا بد وأن يتم بقدر كبير من الاحتراس ورهافة الحس، لأنه لا يمكن قراءتها بمعزل عن تداعياتها التاريخية. حيث أن هذا لا يجعلها تحيل فقط إلى توق اللاجئين الفلسطينيين لحق عودتهم إلى بيوتهم التي جرى طردهم منها في نكبة عام 1948، بل تحمل كذلك في طياتها معاني الرضّة والفقدان والمعاناة وكذلك النضال والمقاومة. كما أنها بلا محالة مرتبطة بخطاب منظمة التحرير الفلسطينية والدور الذي لعبه في بناء الهوية الفلسطينية الحديثة خاصة بربطها بقضية اللجوء والشتات، وبمخيمات اللاجئين والمقاومة والتمثيلات التي تحملها. كذلك بارتباطها بحق العودة، وصورة اللاجئ المناضل من أجل الحرية، الراني للعودة. في قصيدة محمود درويش “أحمد الزعتر”[2] يتّحد جسد أحمد مع المخيم، فيصبح هو الهوية ورمز الشتات والمعاناة والصمود.
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيّما ينمو، و ينجب زعترًا ومقاتلين
وساعدا يشتدّ في النيسان
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين
كان اكتشاف الذات في العربات
أو في المشهد البحري
في ليل الزنازين الشقيقة
في العلاقات السريعة
و السؤال عن الحقيقة
في كل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه
….
أنا أحمد العربيّ – فليأت الحصار
جسدي هو الأسوار- فليأت الحصار
وأنا حدود النار – فليأت الحصار
وأنا أحاصركم
أحاصركم
يصبو مفهوم العودة أيضًا إلى ترسيخ الكينونة المؤقتة لمخيم اللاجئين، ويقترح بشكل نوسطالجي حضور فردوس الزيتون والبرتقال المفقود، يوطوبيا مؤلفة في مخيلة أؤلئك المثقلة حياتهم بالمعاناة التواقين إلى العودة حالما يصل مكوثهم المؤقت والمفترض في مخيم اللاجئين إلى نهايته. المخيم ليس أكثر من جسر مرور إلى فلسطين. بالرغم من ذلك، فإن هذا الوعي يختلج بالقلق من ديمومة مكانة ما كان يفترض أنه في وضعية مؤقتة، ليتولد تناقض بين ما يبنيه العقل وما هو قائم على الأرض، حيث أن غالبية اللاجئين الفلسطينيين، بعد ما يزيد عن 65 عامًا، لا زالوا يعيشون في ما يشبه أحياء الفقر عالية الاكتظاظ وما تزال تواجه مرارًا الحروب والاعتداءات والدمار والترحيل بشكل منهجي.
“عودة” كان كذلك عنوانا لأحد معارض بشير مخول عام 2007 والذي اعتبر نقطة تحوّل هامة في مسيرته وبداية على تطور مجموعات من المشاريع ترتبط جميعها بخيط واحد مغزول بمعانٍ وتمثيلات ومفاهيم تم تقصيها والتعبير عنها بكثير من الإبداع على امتداد السنوات الثماني التالية واجتمعت معًا في هذا المعرض “ارتحال”. تكون معرض “عودة” من سلسلة من اللوحات الكبيرة الحجم المطبوعة بتقنية العدسة المزدوجة التحدب والتي تقوم على استخدام نسق من العدسات المصفوفة، وتسمح باستخدام اكثر من صورة في ذات اللوحة. تلتقي هذه الصور وتتطابق في نقطة معينة ما لتعود وتتفكك بسرعة لتخلق بذلك أثرًا بصريًا صناعيًا، فتبدو الصورة في اللوحة وكأنها تتبدل اعتمادًا على زاوية النظر. وهذا النوع من الطباعة مألوف تمامًا في لوحات الإعلانات التجارية في المدن، ما يضفي عليها سمة استهلاكية إلى حد معين. وعلى الرغم من أن التقنية تطورت لتنتج أثرًا ثلاثي الأبعاد، فإن مخول قام بإثقال هذه التقنية بالكثير من الصور ما تسبب بنفي تأثيرها البصري الذي يخلقه تبدل الصور، وكل ما فعلته هو ترك المشاهد متلهفًا لإدراك الصورة الناشئة، ولكن من دون الوصول أبدًا هذه النقطة.
“الإحلال هو الكلمة الأساسية. هذا هو أثر العدسيّات – حيث أنها تتحوّل وتتشكل بنقطة النظر، هناك إحلال مستدام وتبادل متواصل، وكأن هناك شيئًا محققًا أمام عينيك يواصل التلاشي في اللحظة التي تنظر اليه.”
الصور التي استخدمها بشير كانت توليفة من الصور الفوتوغرافية القديمة في فلسطين الانتدابية وصور فوتوغرافية جديدة التقطها عند زيارته إلى فلسطين، لذات المواقع تحديدًا ومن نفس زاوية النظر. ويشرح في مقابلته مع غوردون هون قائلًا:
“لقد أردت أساسًا إنتاج صور من خلال فعل العودة، وبشكل ما إنتاج الاستحالة المفهومية لبيان العودة..[3]“
وهنا نعود إلى التساؤل، كيف سيكون بوسع فنان، هو مهاجر في الشتات باختياره، ويبيّن الاستحالة المفاهيمية للعودة، أن يمارس فعلا عودة من خلال معرض، خصوصًا أن هذه العودة تجري للقدس، بير زيت ورام الله، وهي مدن في الضفة الغربية تبعد أميالا عن بلدته في الجليل. هذا المعرض ليس عودة حرفيًا، بل هو فعل ارتحال؛ حيث يكون لديك ارتباط ضئيل أو معدوم لمكان عيني؛ استمرار التحرك من مكان لآخر، بلا ثبات أو مستقر في موقع أو دولة محددين. إن تكرار الرحيل من مكان إلى آخر، من بيت إلى آخر، يتماهي مع حال الهويات المتبدلة غير القابلة للتعريف بوضوح، تماما مثل الصور في الشاشات العدسية المزدوجة. وقد قام بشير مخول بتصوير طابع وموقع هذه الهويات المتحولة التي لا يمكن تثبيتها من خلال استعارة المقاومة المسلحة، حين حاول شرح التناقض الكامن في حيازة هوية قومية محددة في الوضعية الكولونيالية لفلسطين:
“ما يسبب الخوف وانعدام الأمان للقوة المحتلة هو عدم معرفتها من هو عدوها وأين موقعه. ماذا لو اسقطنا هذه الفكرة على مفهوم الهوية؟ فما الذي يمكن أن يشكل تهديدا أكبر للهوية القومية لدولة قومجية متغطرسة مثل إسرائيل أكثر من عدو لا يثبت في مكان، وهويته متحوّلة على الدوام؟[4]“
يقدم هذا المعرض تتويجًا لمجموعات من المشاريع الفنية لفنان ساهمت تجربته كمهاجر في الشتات في تثبيت هويته في وضعية من التشكل، التحول، الترحال من محدوديات القوميات التي يعرفها السياسيون ومن المعاني والرموز التي يفرضها الخطاب القومي. إنه يواصل رؤية نفسه كفلسطيني مع إدراكه أن فلسطين التي يتواصل احتلالها منذ وقت طويل لم تعد وحدة زمنية مكانية، وإنما بنية تخيّلية. إن تشتت الفلسطينيين على طول وعرض التصنيفات الجغرافية والإقليمية قد أنتج تنويعة من الهويات التي تتجلى بامتياز في سياق العالم المعولم. وعلى الرغم من أن النضال الفلسطيني لا زال يتمحور في أرض مستولى عليها، مناطق متشظية وشعب مفتّت، فإن الهوية مرنة بما يكفي لتخطي هذا، وقد تتجلى أفضل شيء في الثقافة والفن، القادرين على إنتاج أشكال من المعرفة البديلة وأن تستنطق معاني جديدة باتساع أكبر. خصوصا أننا نعيش في عالم معولم على نحو متزايد، حيث يمكن فيه للتكنولوجيا والاتصالات أن توفر حقولا جديدة من الإدراك، الأفكار والذكريات، ليتم تفحصها وتقصيها، وحيث يمكن تخيّل معان جديدة للثقافة والهوية. ومن هنا فإن تعقيد النضال على الأرض يمكن التحايل عليه ببراعة من خلال الخيالات التي لا يمكن احتلالها، كما وصف الأمر إدوارد سعيد:
“مثلما أنه لا يوجد أيّ منا خارج الجغرافيا أو خلفها، فلا يوجد شخص متحرر من الصراع على الجغرافيا. إنه صراع معقد ومثير للاهتمام لأنه لا يقتصر على الجنود والمدافع فقط، بل تنخرط فيه أيضًا الأفكار، الصور والتصوّرات”[5]
يقدم “ارتحال” أساليب جديدة لتصوير الجغرافيا، ويتقصّى قضايا الاستيلاء على الأرض والثقافة في سياق المجتمعات المعولمة – سواء كنا ننظر إلى اللوحات الزيتية الضخمة “بيت الورق”، أو المنسوجات الأرضية مع ثقوب الرصاص المكبرة “وجهة نظر”، أو المكعبات الخشبية “حصة متساوية”، أو المنسوجات اليدوية “صمت صارخ”، أو العمل الانشائي المكون من نصف كرات زجاجية “تردد متغير” أو العمل الانشائي “لبيت المفقود”.
أحد العناصر الحاضرة والمتكررة في جميع الأعمال هو بيت اللاجئ. وقد سبق حضوره في أنساق مختلفة ضمن عدد من مشاريع الفنان خلال السنوات الثماني عشرة الماضية. إن بيت اللاجئ، المعبَّر عنه بصناديق الكرتون، بأبوابه ونوافذه المنحوتة يدويًا على أوجهه المبسطة، يتحول إلى موتيف بصورته المعمارية المجردة وبالطاقة والتاريخ والتداعيات التي يحملها. وهو يتجاوز الوجود المادي لوظيفته كمأوى للاجئين بحيث يتم – من خلال التكرار والمعالجة لصوره المتعددة الجوانب – تطويعه كاستعارة تتمفصُل حولها السياسة الحديثة، العولمة، الثروة، الأسواق والاقتصادات النيوليبرالية.
إن خلق موتيفات وتفحصها ببراعة ضمن توجه بحثي وتواصل العمل على معالجتها واستعراضها بصريا هو أحد سمات العمل الفني لمخول منذ البداية. ففي أعمال سابقة قام باستخدام رموز مستخدمة للتعبير عن القومية، الهوية والاحتكار الاقتصادي، مطورًا الموتيفات الخاصة به، والتي يمكن رؤيتها في مجموعة أعماله “Who is Who“ والمستوحاة من الفنون والزخارف الإسلامية. وكذلك في مجموعة أعماله المستمرة والتي تتناول صور ثقوب الرصاص. ويحاجج الفنان أنه من خلال إنتاج موتيفات متكررة، فإنه ينفي فرداويتها كما لو أنه يرفع القداسة عن هذه الرموز. ولكن موتيف بيت اللاجئ في هذا المعرض يحمل معاني ورمزيات مختلفة على امتداد الأعمال المستخدمة فيها، سواء كانت صناديق كرتون، لوحات، نسج، أو طباعة بمعالجات رقمية للبيوت، وأخيرًا بيوت ذهبية مصغرة.
إن بيت اللاجئ – المختزل في صندوق الكرتون سبق تقديمه لأول مرة في العام 2012 في العمل الإنشائي الضخم والذي تم عرضه في غاليري يانغ في بكين. قدم الفنان الإنشاء في استخدام ثانٍ للشاشات العدسية المزدوجة، لكن تم تطويره على مستوى تعبيري مختلف. يتألف الإنشاء مما يشبه متاهة خنادق طويلة، بجدران مغطاة بشاشات عدسية مزدوجة، تحمل صورًا متأرجحة ومتبدلة بشكل مشوّش للقدس ومدن وقرى ومخيمات لاجئين أخرى في الضفة الغربية. المتاهة مبنية بمقياس مصغر جدًا عن مقياس الشوارع الفعلي، ليعيد إنتاج أزقة بشعور عال من الضيق، وهو شعور تعمقها الصور الباعثة على الاستغراق فوق الجدران. في النهاية، تنفتح المتاهة على نموذج، إعادة إنتاج لمدينة عربية أو قرية عربية مصنوعة من الكرتون البني. هذا المشروع يحوّل كامل العلاقة مع العمل إلى تجربة امبيرية من رهاب الاحتجاز (الكلاستروفوبيا) والتيه، وهي أحاسيس مألوفة لدى من يعيشون في مخيمات لاجئين. هنا يتحول العمل الفني بحد ذاته إلى البقعة الجغرافية، الأرض المتنازع عليها، ويصبح المشاهد أما الضحية أو المحتل، ويعتمد ذلك كله على المشاهد وكيفية استيعابه للعمل ورؤيته من أية منظور. وفي نهاية المطاف تقف بيوت اللاجئين الكرتونية الصغيرة هناك، كالشاهد. تقف باردة، ثابتة وهشة وكأنها المدينة المحظورة.
إن بيت الصندوق الخشبي بشكله البنيوي الحرفي، هو أيضًا تمثيل للجغرافيا، وهي جغرافيا تظهر مرارًا في هذا المعرض بكل زاوية من زواياه وبأشكال متنوعة. الأكثر جلاء للعين هو اللوحات الزيتية الضخمة شديدة الواقعية “بيت الورق”، واحد وعشرون لوحة زيتية ضخمة فوق المقياس المعهود تصور مشاهد من العمل الإنشائي Giordano Occupato الذي كان قدم كجزء من المعرض ‘Otherwise Occupied’ في المعرض الدولي الخامس والخمسين في بينالي البندقية. في هذا الإنشاء المخصص في موقع حديقة مدرسة الفنون في البندقية Artistico Liceo Statale di Venezia تحولت الحديقة إلى منطقة محتلة، يمارس فيها الجمهور الفعل الاحتلالي من خلال مشاركته في وضع نماذج البيوت الكرتونية بشكل عشوائي في أرجاء الحديقة. يتحول المشاهدون إلى محتلين، ليحشدوا الحديقة بالمزيد من البيوت الكرتونية.
ولكن في “بيت الورق” يتحول قماش الرسم إلى البقعة الجغرافية التي يقع فوقها مخيم اللاجئين. هذه اللوحات مرسومة بتقنية شديدة الواقعية، ولكن مصوّرة بمقياس مكبّر يجعل من المواضيع المرسومة غالبًا بمقياس واقعي، حتى أكبر في بعض الأحيان من الصورة الأصلية المنقولة عنها. إن جمالية اللوحات واتقانها بالألوان الدافئة بتدرجات الأصفر والأحمر والبني، يقفان على نقيض ما تصوره من واقع أليم وبشع.
إن عبثية هذه اللوحات تكمن في حقيقة أنها تكرر بشكل فتان وبتقنية واقعية فوتوغرافية صورة غرض غير حقيقي بجوهره، بل هو نموذج مصطنع لما يبدو كأنه مدينة عربية، ولكن يمكنه أن يكون أي شيء آخر أيضًا. ولكن هذه اللوحات، التي هي صورة عما كان يفترض أن يكون بالكاد مسكناً مؤقتا لللاجئين الفلسطينيين، وباستخدامها لأكثر أساليب الفن ديمومة وتقليدية، تتحول في اللوحة الزيتية إلى حالة الخلود. هذه اللوحات تقف كشهود، على فظاعات البشرية، ولكنها في ذات الوقت تشكل مقولة حول وسائل الاتصال والإعلام القادرة على تحريف المعاني والصور وفقًا للمنظور الذي تختاره لكي تؤسسها عليه والسياق الذي تضعه فيه وتستحضره لها، تماما كما استحضر بقوة في شاشات العدسات المزدوجة ذات السمة المتأرجحة. ولكن على النقيض من هذه الأخيرة، فإن الصورة في اللوحات الزيتية ثابتة، ذات استمرارية وصفة خالدة وجذابة بشكل ساخر ومؤلم.
الشيء المفقود دائمًا في تجربة أن تكون فلسطينيًا هو الشعور بالكمال. شعور بأن لا احد وكل واحد يعيش داخل الحدود التي ترسم صورة مثالية متكاملة عن الأمة[6]
في حين تحول قماش الرسم في “بيت الورق” إلى بقعة جغرافية، وعليها تتمفصل سياسة الاقتلاع، البؤس وألعاب القوة، ففي “حصة متساوية” تتقلص الجغرافيا برمّتها إلى بيت اللاجئ. “حصة متساوية” هي سلسلة من المكعبات الخشبية، المماثلة بحجمها لموتيف بيت اللاجئ، تقدم صورًا مشابهة لتلك التي في لوحات “بيت الورق” مرسومة بالزيت على أسطح المكعب الخشبي ومستخدمة لتقنية التصوير الواقعي الفوتوغرافي.
فقط، مكعب ما، وبيت ما، يصبحان كل التضاريس التي تمثل جغرافية الصراع والبؤس، مستحضرة لحالة العولمة ومؤكدة على نسبية المعاني ومحدودية الرؤيا للأشياء وطاقتها للتبدل وفقًا للزاوية التي تجرى رؤيتها منه. عنوان هذه السلسلة “حصة متساوية” يفترض بسخرية معاني للمساواة وهواجس ترتبط بضيق مفاهيم حقوق الإنسان واختلاف نسب الحد الأدنى لظروف العيش الكريم. المساواة بهذا المعنى تتناول فضاء صغيرًا يحمل كل الوجع والصرخات والتراكم الدبق للتاريخ.
“هيمنة” هي كرات خشبية معالجة بالرسم بالزيت، تقدم أيضًا بحجم ملائم للمكعبات الخشبية، وهي تستحضر مباشرة صورة نموذج الكرة الأرضية الخاص بالمكاتب الشخصية والمنازل. ولكن في هذه الكرات، خارطة العالم تتوه، تختفي فيها مساحات المياه واليابسة المميزة بتدرجات الأزرق والبني، وتختفي كذلك إشارات خطوط الطول والعرض. إن نماذج الكرات الأرضية تلك، تماما كما العمل الفني “هيمنة” تشكل استعارة لصغر العالم وقابليته للخضوع للسيطرة، وللصورة المرتبطة بالمطامع الامبريالية للهيمنة على العالم.
في هذا العمل لا يمكن للمشاهد أبدًا أن يرى الصورة بكاملها؛ بل إن ما يواجه المشاهد من زاوية نظره هو وحده المرئي فعلا، وبالتالي، فإن هذا يرسم استعارة عن ضيق وانتقاص الرؤيا المحليّة في حال انتزاعها من السياق الكوني، وخاصة في السياق المعولم الذي نعيش فيه اليوم. جميع الأمور مترابطة بشكل متناقض، من الاقتصاد الدولي حتى الجيوسياسي وتأثيرهم على قضايا الحرب والنزاعات والثروات ورؤوس الأموال والمجاعات والأوبئة وأزمات اللاجئين ومدن الفقر المنتشرة حول العالم.
أما مجموعات “صمت صارخ” و”ترسيم” فيعرضان صورة مختلفة تمامًا عن “بيت الورق”، حيث أن الوضوح الفوتوغرافي الماثل في اللوحات الزيتية يختفي في سلسلتي المنسوجات والطباعة الليثوغرافية. كلاهما يعرضان صورًا عديدة الطبقات معالجة ومحورة رقميًا من مدن صناديق الكرتون، بالرغم من اختلاف المواد والتقنيات المنتجة لكل منهما. اللايقين، غياب الوضوح والارتباك الذي يردد صداه المفعول الناتج عن شاشة العدسات المزدوجة في مشروع “العودة” 2008، يعود هنا باعثاً على شعور بعدم الارتياح لدى محاولة تعقّب سير اتضاح الصورة بأكملها، ولكن بلا طائل.
في كلا المجموعتين، الموتيف الذي يعود على نفسه ليس لبيت منفرد، بل مجموعة أحياء لبيوت لاجئين، تصطف المرة تلو الأخرى لتزدحم بشكل لانهائي في وضعية من رهاب الاختناق. هذه الصور، وبالرغم من السكينة التي تواجهنا بها وجمالها المذهل، فإنها تحمل خفية صرخة مكتومة حول تفاقم أزمات اللاجئين الناتجة عن الحروب والنزاعات في منطقة الشام، وخصوصًا في إطار فشل المشاريع القومية للدول العربية التي نشأت بعد الاستعمار في حدود اتفاقية سايكس بيكو، وما أنتج هذا الفشل من اشتعال المنطقة بأكملها وسفك هائل للدماء. هي صور تستفز أيضًا تراكم الهزائم التاريخية الثقيلة في المشرق.
على الرغم من ذلك، فإن غياب صوت عموم الناس من هذه التواريخ الخاصة والسير الذاتية، هو خسارة فادحة في الحقيقة. ومهمة الباحثين الجدد هي توفير هذه الأصوات مع منبر وأدوات ملائمة (مثل التاريخ الشفوي) بحيث يمكنها الإفصاح عن نفسها.[7]
في مجموعة النسيج “صمت صارخ”، يضفي استخدام المادة طبقة أخرى من التعقيد والمعنى على العمل. المنسوجات المشغولة يدويًا نعهدها كقطع فاخرة وباهظة الثمن في ديكورات القصور كتمثيل للرفاه الاقتصادي. الصور التي تكون في العادة لمناظر طبيعية هادئة وأشخاص مبتهجين، تتحول هنا إلى بقعة للتعبير عن التهجير، والمعاناة ومساحة لاستقراء العلاقات ما بين الحروب والاقتصاد العالمي.
يحضر في المعرض كذلك مجموعة منسوجات “وجهة نظر” وهي استمرار لمشروع (2007) قام فيه الفنان بتصوير ثقوب تركها الرصاص على جدران بيروت ما بعد الحرب. ثقوب الرصاص التي وصفها مخول بالندوب على جسد المدينة وروح سكانها، تم تحويلها في هذا المشروع السابق إلى ورق جدران يمكن أن يكون معروضًا للبيع على أنه سلعة زخرفية. الصور المكبرة لثقوب الرصاص في “وجهة نظر”، تعرض على شكل سجاجيد أرضية تعطي إيحاء بأن هذه الثقوب هي حفر عميقة بالأرض، وفي وصف العمل من مقالة سابقة “تنسج السياسية داخل الوسيط/ المادة بشكل حرفي، تحاك ضمن أساليب إنتاجه ومضمونه التمثيلي التصويري. الفقر والحرب هي سداة ولحمة نسيج الحياة الغني في عالمنا الرأسمالي المتقدم الحديث. يبدو هذه الأيام انه حيثما ننظر فسنرى الإفراط في الثروة والترف وكذلك مشاهد الفظاعات والمعاناة الإنسانية .[8] من خلال إحضارها إلى فضاء الفن، يعيد مخول مساءلة التخوم والتراتبية الضمنية بين الفن وبين السلع التزيينية، مذكرًا إيانا بتورط الفن واسع النطاق في المشاهد الناجمة عن القوة والثروة.
يجري التعبير عن هذا أيضًا في “البيت المفقود” وهو إنشاء جديد مخصص الموقع مكون من النفط الخام وبيوت من الذهب. هو عمل بارع يجمع عناصر الدعابة، السحر الأسود والسخرية. بركة من النفط الخام مرفوعة فوق منصة تقعد ساكنة تحت تشكيلة من بيوت الذهب المكعبة المحلقة في الهواء. يحفز هذا العمل الانشائي حواس النظر والشم والسمع من خلال صوت الصمت، وذلك لغرض إعادة تعريف العلاقة ما بين الجسد والفضاء بأكثر التركيبات إدهاشًا. يستعيد العمل إنشاء سابق للفنان، هو “عطش” من العام 1999، خصوصًا في الخطوط العامة للإنشاء. يحتل كل من الانشاءين غرفة كاملة بوضعية دراماتيكية، مما يجعلها أشبه بالنصب التذكاري المتحفي ويجمع عددا من المعاني معًا بالتزامن. يشرح مخول في مقابلته مع غوردون هون[9] كيف ينتهك هذا العمل (أي عطش) حدود العمل الفني ليخلق موضوعًا فنيًا نحتيًا بجوهره لكنه أيضًا عمل ذو بعد مسرحي حين يصل اليه الجمهور ويدخله، وكلما قطع خطوات أكثر فيه يدخل ضمن اطر وحلقات العمل المتعددة. مثلما في “عطش” فالمشي داخل غرفة يتجاوز فعليا الاطار الأول حتى يصل الشخص إلى الطاولة والبركة، مما يخلق اطارين إضافيين، وعندها البيوت الطائرة المحلقة فوق المنصة، وانعكاساتها في النفط اللزج.
يقدم مخول في هذا العمل عملا ذا طابع مسرحي، يستعرض فيه تضاريس متعددة، كل منها تحمل استعاراتها وتداعياتها. إن الجمع ما بين الذهب والنفط الخام يعبر عن العلاقة الملحمية بين القوة والمال والاقتصاد المعولم في إطار علاقتهم في الصراعات والحروب المتجاوزة للقوميات. ويستحضر العمل صور متناقضة للثروة والتبذير والبذخ الذي يمثله الذهب، في مقابل صور العبودية الحديثة، الاستغلال والحرب التي يقترحها النفط الخام الاسود اللزج. إنه ينظر في على أساليب وادوات الهيمنة الكولونيالية المعاصرة، والتي تتجاوز استخدام عولمة الأموال، الامبريالية الثقافية وزعم الدمقرطة في الممارسات العسكرية الراهنة، المتجسدة والمتكررة في الحرب على الارهاب. إن موتيف بيت اللاجئ يظهر مجددًا في هذا العمل، على الرغم من كونه ذهبيًا يترنح في الهواء هذه المرة، فوق تضاريس النفط مقترحًا احتمالين اثنين: البقاء عالقين للأبد في وضعية البرزخ، أو السقوط والغرق في لزاجة النفط الأسود. ينطوي العمل على صمت ثقيل يزيده توترا تأرجح بيوت الذهب وسقوطها المتوقع في كل لحظة. إن الخاصية المتهورة والثملة للنفط الخام تعزز الشعور بالقلق الناجم بلا شك من عواقب البتركيماويات، النار والأسلحة. يجمع “البيت المفقود” طيفًا واسعًا من الأفكار، المخاوف والتعبير محولاً إياها إلى تعبير حسي، جمالي ومستفز للعقل.
“ارتحال”، المعرض الذي يعود بشير مخول معه إلى فلسطين، يبدو كما لو أنه يقبض على الخيط الذي ما انفكّ يربط أعمال مخول على مدى ما يربو عن ثماني سنوات؛ وهو خيط قد نسج ببراعة مسيرة يلتقي فيها السياسي والفني، ليستنطق محدوديات الجغرافيا، الهوية، الانسانية والأخلاقيات، من خلال مناقشة طبيعة الفن ووظيفته في ظل العولمة، وعالم تهيمن عليه السوق.
ترجمة المقال: هشام نفاع
ملاحظة: ارتحال، معرض للفنان بشير مخول يتم تنظيمه من قبل حوش الفن الفلسطيني وبالشراكة مع متحف جامعة بيرزيت، بالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني وبتمويل من الاتحاد الاوروبي ومؤسسة عبد المحسن قطان.
الافتتاح في جاليري الحوش في القدس بتاريخ 8 تشرين أول الساعة السابعة مساءً.
الافتتاح في متحف جامعة بيرزيت بتاريخ 10 تشرين أول الساعة الخامسة مساء.
[1] ترجمة غير رسميّة من Edward Said,After the last Sky, New York: Pantheon, 1986. (p:16–17)
[2] درويش، محمود (١٩٩٣). اعراس (الطبعة الخامسة). بيروت: دار العودة.
[3] ترجمة غير رسمية منAugust Jordan David and Jonathan Harris (, eds.), Bashir Makhoul, Jerusalem: Al Hoash, .2013, p. 191.
[4]August Jordan David and Jonathan Harris (, eds.), Bashir Makhoul, Jerusalem: Al Hoash, .2013, p. 150.
[5] ترجمة غير رسمية منEdward Said, Culture and Imperialism, New York: Vintage Books, 1993.
[6]Bashir Makhoul and Gordon Hon,The Origins of Palestinian Art, Liverpool: Liverpool University Press, 2013, p.216.
[7]SalimTamari, ‘Bourgeois Nostalgia and the Abandoned City’, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, 23(1–2), 2003,pp. 173–180.
[8]Bashir Makhoul. (2014) House of Cards- Forthcoming launch of two exhibitions in Manchester. 2014[Online] Available from: http://www.bashirmakhoul.co.uk/houseofcards.html [Accessed: 10 August 2015]
(onl;ine
[9]August Jordan David and Jonathan Harris (, eds.), Bashir Makhoul, Jerusalem: Al Hoash, .2013,