ستّي سارَة!/ أسعد موسى عودة
قضت أمّ أمّي في نواحي التّسعين، قضت – ويا لَغُصّة قلبي – وأنا عنها بعيد، بعيد على قرب قريب على بعد، لكنْ عزائي بأنْ ما كنت مشغولًا عنها هناك – في بلاد أخرى غير البلاد – إلّا بما تحبّ هي وترضا، وعزائي بأعزّائي.. وقبلُ وبعدُ عزائي بأنّي ذاكرها ما حييت وهي تذكرني حتّى أموت.
| أسعد موسى عودة |
قضت أمّ أمّي قبل نحو واحدٍ وعشرين صُبحًا في نواحي التّسعين، قضتها وهي تُدلّي للنّحل أجراس الياسمين. كانت ستّي سارَة العودة (أم زياد) خير جليس وخير ونيس، حاضرة الذّهن والذّاكرة، فكم كنّا نحن – خرّيجي جامعات اليوم – نَفيد منها، خرّيجة نحو أربعة صفوف أوّليّة أو أقلّ (لا بل أكثر بكثير)، في ما كانت تُعرف، يومًا، المدرسة الأحمديّة (الأهليّة) – “مدرسة الكبابير (الرّسميّة)”، اليوم – حيث نتعلّم منها ما غاب عنّا من دروس القرآن والحديث؛ والشّعر والنّثر؛ والمثل المَحْكِيّ العامّيّ والعربيّ الفصيح، غير ما كان يجري على لسانها العذب القريح من معرفة عامّة، ومن تاريخ شفويّ لا يعرف التّحريف.. لأحوال البلاد والعباد.. وعن الآباء والأجداد.. وعمّا فعله بالصّيد صلف الصّيّاد في “ملح الميعاد”.. وكيف لا وهي الأميرة والسّيّدة النّبيلة (معنى اسمها الآراميّ أصلًا (سارَة)، دون سارّة العربيّ أيْ المُسِرّة أو الباعثة على السّرور)؟
قضت أمّ أمّي في نواحي التّسعين، قضتها وهي تصوغ تفانين الجمال والكمال؛ ما غار لونُ الورد، يومًا، إلّا من خدّيها الزّهريّين، وما اشتهى زيت اللّوز، يومًا، إلّا ضفيرتيها الخرّوبيّتين، وما عرف زيتُ الزّيتون، يومًا، إلّا طبّها النّبويّ؛ تتناول كلّ شيء بمَهارة النّمل وأناقة الخيل الأصيلة، كلّ ما حولها تخاله يتكلّم من فرط ما هو نظيف ورهيف وشفيف وخفيف، وكلّ من حولها مأخوذ برائحة ذلك الرّغيف.. المعجون بطيب روحها الطّيّبة، فلا غَروَ أنّنا كلّما تناولنا لها طعامًا أو شرابًا أو شممنا لها ثيابًا كنّا نشعر كأنّا نأكل أو نشرب أرواحنا لذّة وطيبة وسخاء، أو نشمّ حبقًا أو عبقًا من نسيم رياض النّعيم.
قضت أمّ أمّي في نواحي التّسعين، قضت – ويا لَغُصّة قلبي – وأنا عنها بعيد، بعيد على قرب قريب على بعد، لكنْ عزائي بأنْ ما كنت مشغولًا عنها هناك – في بلاد أخرى غير البلاد – إلّا بما تحبّ هي وترضا، وعزائي بأعزّائي.. وقبلُ وبعدُ عزائي بأنّي ذاكرها ما حييت وهي تذكرني حتّى أموت.
أنجبت أمّ أمّي ليَ أمّي.. وأربعة أخوال وخالتين، أحدهم هو عزيزنا جميعًا، الـﭙـروفسور ماجد محمّد عودة، الّذي ما غادر المشفى ليلتها، ما غادر سرير أمّه الرّؤوم حتّى غادرتها الرّوح فجرًا إلى حيث هي الآن طُهرًا؛ “في جَنّةٍ عالية، لا تَسمعُ فيها لاغية، فيها عينٌ جارية، فيها سُرُرٌ مرفوعة، وأكوابٌ موضوعة، ونَمارِقُ مصفوفة، وزَرابِيُّ مبثوثة”.
شكرًا أيّها الأعزّة – شكرًا لكم جميعًا – على كلّ هذه المواساة بهذا الفقد العزيز، لا أراكم الله مكروهًا بعزيز، ورجاؤنا أن نظلّ نصدقكم حبًّا مثلما صدقتمونا.
هي المُعاوَضة يا صديقي..
بينما جمعتني بصديقي أبي الطّيّب، النّائب أيمن عودة، في عيد الفطر الأخير جَلسة هي جِلسة، سألني عن عربيّ العبريّ “קִזּוּז” (“كِزُّوز”) في لغة البرلمانيّين؛ حيث يتغيّب هذا النّائب ثمّ يتغيّب – في المقابل – ذاك، لإحداث التّوازن المطلوب في عدد الأصوات في هذا التّصويت أو ذاك. فأجبته بعد طول بحث وتفكير: “هي – في هذا السّياق والسّباق – المُعاوَضة يا صديقي”، وحرّضته مازحًا: “بلّغ ما أُنْزِلَ إليك”! فما رأي مجمعنا الموقّر أو مجامعنا الموقّرة في ومضِ ذي الفكرة؟