عِقدٌ من التعقيدات/هشام نفّاع
مشاريع إملاء، إخفاقات، جرائم حرب، أنصاف حلول، أخطاء، حديدٌ ونار وكلام، وضحايا، الكثير الكثير من الضحايا، خلال عشر سنوات منذ الانتفاضة الثانية، لا تزال فيها السياسة تراوح مكانها، ولا تزال الملفّات التي لا يمكن الخروج من الدوّامة بدون توفير حلول عادلة لها، على حالها أيضًا
عِقدٌ من التعقيدات/هشام نفّاع
|هشام نفّاع|
1
في أواخر أيار 2002 قتلت قوة من جيش الاحتلال الاسرائيلي قائد الامن العام الفلسطيني في حلحول، خالد ابو خيران. حركة “تعايش” العربية-اليهودية، إحدى اكثر حركات اليسار الراديكالي جرأة، قرّرت نشر تعزية لزوجته السيدة سارة كراجة باعتبارها “رفيقة في النضال المشترك لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي”. توجّهت الحركة إلى صحيفة “هآرتس” الاسرائيلية لنشر إعلان مدفوع الثمن، لكنها فوجئت بالرّفض. كانت الذريعة أنّ نصّ التعزية ضمّ الجملة التالية: “… الذي جرى إعدامه من دون محاكمة بواسطة دولة اسرائيل”، في اشارة إلى المسؤول الفلسطيني المغدور.
حاولت الصحيفة التملص في البداية عبر الامتناع عن تفسير رفضها نشر التعزية واختبأت خلف قسم الاعلانات الذي يفتقر لصلاحية البت في مسائل من هذا النوع، ولكنها عادت لاحقا وقالت إنّ المستشار القضائي للصحيفة يرفض نشر النصّ ولا يريد إعطاء تفسيرات، مع أنّ عددًا من موظفي الاعلانات قالوا صراحة إن المشكلة هي في الجملة المذكورة أعلاه والتي يبدو انها لا تتفق مع سياسة الصحيفة التي لم ترَ في الاغتيالات الاسرائيلية إعدامات من دون محاكمة.
توجهت “تعايش” إلى صحيفتي “معاريف” و”يديعوت احرونوت” حيث جرى رفض نشر نص التعزية أيضًا. ولكن الصحيفتين أعلنتا سبب الرفض صراحة، خاصة انهما معروفتان بمغازلتهما الدائمة والواضحة للاجماع الصهيوني، خلافا لـ”هآرتس” التي تحاول دائما الظهور عمومًا بمظهر التنور والانفتاح والمهنية! وهو ما لم يمنع هيئة تحريرها في حينه من منع معلّقها أفيف لافي بالكتابة حول الموضوع مع أنه متخصص في النقد الصحفي. وقد أخبر لافي يومها نشيطي “تعايش” بأنّ المسؤولين عنه منعوه من الكتابة حول ذلك!
لم تكن هذه حادثةً صحفية فحسب، بل كشفت أين يمكن أن تصله مؤسسات معروفة بالمهنية، على الاقل، حين تفقد جرأة وأخلاقية المعارضة في وجه حكومات جعلت من مواصلة احتلال اراضي الدولة الفلسطينية هدفها الاول وحتى المقدّس. فأن تُجمع كل وسائل الاعلام الاسرائيلية على رفض نشر تعزية يقول فيها مقدموها موقفهم من قيام جيش الاحتلال الاسرائيلي بالقتل ويؤكدون انها اعدامات بدون محاكمة، هو أمر يُفترض ان يقلق الاسرائيليين انفسهم، خصوصًا أعضاء منتديات المثقفين، ولكن حمّى الحرب سيطرت على عقول الغالبية الساحقة منهم.
لقد ازداد الخطاب الاسرائيلي ترديًا وعنفًا في هذه الفترة. ونتج، على امتداد مراحلها، فرز جديد داخل الضباب السياسي الاسرائيلي. لم تعد التسميات تلائم مقاييس المسمّى
وإذا كان هذا ما جرى في قصة التعزية فما بالنا بالتقارير والتحقيقات الصحفية، وكمّ المعلومات الهامة والخطيرة التي يمكن الاستنتاج أنه تم اعدامها بدون احتكام للاخلاقيات المهنية في غرف التحرير، من دون أن يعرف بها احد؟ هكذا تم إنتاج التأريخ الرسمي الاسرائيلي الإجماعي للانتفاضة الثانية: حرب اسرائيلية دفاعية. هكذا كان ولا يزال يجري استحضار الصناعة الرائجة، “الارهاب” طبعا، كخطابٍ اسرائيليّ دعائي مخطط ومحسوب.
2
بالنسبة للفلسطيني ولمن يوافقه الرأي والسعي إلى التحرر الوطني وممارسة حق تقرير المصير ككل شعوب العالم، كانت انتفاضة 2000 معركة تحرّرية لها اسبابها الموضوعية وأولها الاحتلال. هنا يجب أن أضيف: كانت معركة مفروضة/قسريّة/ردة فعل على العدوان الاسرائيلي المخطط.
عمومًا، تبدو نضالات الشعب الفلسطيني بالعين الاسرائيلية المجرّدة من التعمّق، مجموعة افعال عنيفة غير مترابطة لا يجمعها شيء، لا سياسة ولا غيرها. فالانتفاضة كانت في ذلك العرف السقيم بالاستعلاء، مجرّد فعل ادائيّ أحاديّ البعد وكأنه يقع خارج مسيرة التاريخ. وبالطبع فإنّ إخراج فعل التحرر من التاريخ يعني (أو انه اشتقاق من) إخراج الشعب نفسه خارج التاريخ، وهو ما يوازي إنكار إنسانيته.
لقد ازداد الخطاب الاسرائيلي ترديًا وعنفًا في هذه الفترة. ونتج، على امتداد مراحلها، فرز جديد داخل الضباب السياسي الاسرائيلي. لم تعد التسميات تلائم مقاييس المسمّى. فكل معسكر في هذه الدولة بات يسلك في العمق بشكل يطابق خصومه السياسيين الداخليين من حيث تعريف المصالح التي يزعم أنه يقتضي التشدّد حيالها، وكل هذا عبر تأجيج العنف العسكري المنظم. فـ “العمل” شارك “الليكود” الحكمَ لتشديد القمع، ثم صار شريك “الليكود الجديد” (كاديما) واليوم يجالَس أفيغدور ليبرمان. الجميع بعيدون بنفس المقدار تقريبًا عن الاعتراف بالحق الفلسطيني العادل. أو لنقلْ: جميعهم متفقون بنفس القدر على تعريف “مصالح اسرائيل الأمنية”، والتي تشكل التسمية الحركية للسعي الاسرائيلي إلى الانتقاص من حق الفلسطيني المتكافئ، بل من قيمته الإنسانية أيضًا.
لقد ساد السياسة الاسرائيلية على الدوام إجماع اسرائيليّ على عدم الخوض في مسألة احتلال عام 1967 كحالة متكاملة. بل الاكتفاء بالخوض التكتيكي المتقطّع في حيّزه، وفي كلّ القضايا: تلك التي سبقته وتلك التي أنتجها وكذلك التي ستترتب عليه مستقبلا. فمن جهته، خطط اليمين تاريخيًا لاستكمال “تأسيس الدولة” بالضمّ الكامل، بينما أراد “اليسار” تأسيس التسوية عبر فرض حدود اللعبة في أقل من حيّز احتلال 1967 وفي أقلّ من حجم ملفات الحق الفلسطيني. فماذا كانت النتيجة؟
عندما رأت جميع معسكرات اسرائيل السياسية الرسمية، المرة تلو المرة وصولا إلى انتفاضة 2000، أنّ الشعب الفلسطيني يرفض أن يبدأ عدّ التاريخ من بداية تقويم الاحتلال الاسرائيلي عام1967 بل يصرّ على فتح الملفّات القديمة، “الخطيئة الصهيونية الأصلية”، تمترست تلك المعسكرات جميعها في خندق البنادق كعادتها الاستحواذية. لأنها في الحقيقة ترفض الانتقال إلى عهد التسوية بمفاهيم التسوية، بل تتوهّم قدرتها على الانتقال اليه من خلال المراوحة فيما كان، في مساحات صنع السياسة بالقوة العسكرية.
وحين “استصعب” الفلسطينيون استيعاب الدرس المقدّم بالدبابة والأباتشي، سعى جيش الاحتلال إلى العثور على مهرب. لكن العقلية العنيفة التي تحكمه ترفض إعادة النظر، ترفض الاعتراف بالخطأ – الخطيئة
ولنترجم هذه الكلمات: إنّ قضايا كاللاجئين وحقوقهم، والاملاك الفلسطينية التي جرت السيطرة عليها ونهبها، والتطهير العرقي عام 1948، والاعتراف بالمسؤولية عن ذلك، هي قضايا خارج مساحة المسموح به في العرف الاسرائيليّ الاجماعيّ الراهن. على هذا انفجر “كامب ديفيد”.
ستظل الصورة ناقصة تمامًا من دون التأمل في الموقف من الاستيطان والمستوطنين، وهذا يقتضي العودة بضع سنين إلى الوراء. إلى يوم اغتيال رئيس الحكومة الاسرائيلي الاسبق يتسحاق رابين عام 1994. فبعد هذا الفعل القاصم في الواقع السياسي الاسرائيلي، والذي كان مدفوعا بحالة عامة من الهوس الاستيطاني والمسيحاني الغيبيّ لوأد أية امكانية للخروج إلى فضاء سياسي مختلف، ولو بقليل فيما يتعلّق بالعلاقة مع الفلسطيني، سارع المعسكر الذي قاده رابين إلى اقتصار كل ذلك على “عمل فرديّ” ارتكبه “شخص متطرف” ضد رئيس حكومة اسرائيل. وهكذا انسجم “معسكر أوسلو الاسرائيلي”، في محاكاة للسينما، داخل عملية اخراجٍ وعرضٍ للحدث بالاشتراك مع المنتجين المنفّذين من اليمين المتطرف. يومها ألغى “معسكر أوسلو الاسرائيلي” فعل الاغتيال وألغى ذاته السياسية. ولم تمرّ فترة طويلة حتى رأينا حكومة ايهود براك تضم الآباء الروحيين لمنفذ اغتيال رابين، من زعماء القوميين المتدينين الاستيطانيين.
ما كشفته انتفاضة 2000 هو أنّ جميع أجزاء الإجماع الاسرائيلي، بما فيه “معسكر أوسلو” اصيبت بنوع فتّاك من عمى الألوان السياسي، لأنه لم يفقدها رؤية الألوان فقط، بل أفقدها ألوانها (الخارجية) هي أيضًا. أصلا، فهذه الانتفاضة انطلقت بمسؤولية “معسكر أوسلو الاسرائيلي” الذي قاده إيهود براك. والذي أراد في البداية ممارسة الاملاء السياسي على الفلسطينيين، بأدوات الترهيب الدبلوماسي، وعندما فشل في “كامب ديفيد” (بفضل صلابة ياسر عرفات) اتجه إلى الاملاء العسكري المتوحّش والمخطط مسبقا بأدقّ التفاصيل، قبل ان يتسلم منه البندقية (والدبابة الأمريكية) اريئيل شارون، ليرتفع منسوب البطش ومنسوب الدماء المسفوكة بما يتلاءم مع تاريخ شارون.
بعد تلك الفترة جاء مشروع الإحتلال الأضخم: اقامة جدار الضم والفصل العنصري. وهو صيغة مستحدثة لتنفيذ أشكال من “الترانسفير الداخلي” بغية تمرير مشروع “الحفاظ على كتل استيطانية” تتساوق مع “تطهير” خطوط الانسحاب الاسرائيلي أحادي الجانب، من الفلسطينيين.
3
لقد بدأت الانتفاضة بالتزامن مع وصول الحال السياسية الاسرائيلية إلى درجة تطور سياسيّ (منكفئ!) جديد، في مركزه اجماع اسرائيلي مترامي الاطراف يمتد من “حركة العمل” التاريخية حتى طليعة المستوطنين اليمينيين. بهذه العدة استعدّ “معسكر اليسار الرسمي” بقيادة براك للسلام مع الشعب الفلسطيني! ووسط تداخل الحدود هذا، تبيّنت الحدود السياسية التي يخطط لها: مترامية الاطراف إلى درجة غياب أيّ مضمون وأية حدود لأية” دولة” فلسطينية محتملة.
إذن فما كان سيجري في مرحلة انتفاضة 2000 هو أشبه بالمتوقع: لقد واصل “معسكر أوسلو الاسرائيلي” الافتقار إلى تميزه، حتى بصيغته المتخيلة، لصالح انخراطه النهائي في الاجماع الاستيطاني حول مائدة جاوره فيه دعاة الترانسفير والضم ورافضو أدنى شكل للتسوية السياسية مع الشعب الفلسطيني، قبل أن ينجرّ خلف أريئيل شارون، وليصل إلى نهاية الطريق، لأنّ مقوّماته الأولية لم تكن تسمح بأكثر من هذا. ومع أنه يدعي العلمانية وأنه لم ينطلق من الفضاءات الغيبية لـ “يهودا والسامرة” فقد واصل التمسّك بما اسماه “كتلا استيطانية”؛ الوجه الثاني للعملة نفسها. لم نسمعه يتحدث ولو مرة واحدة عن حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني بل صاغ المسائل فيما اعتبره ضرورة “التنازل” عن “أجزاء من أرض اسرائيل” لصالح الحفاظ على التفوّق الديمغرافي؛ لم يغادر مساحات عقلية صنع السلام بالحراب ولم يستوعب ان للفلسطيني حقوقا وطنية. بل رأى فيه مجرد مصدر إزعاج يجب ازالته.
رغم البطش المتواصل، رغم قتامة الصورة السياسية، ورغم دوّامة الانقسام التي تُغرق النضال الفلسطيني، فقد بدا واضحًا أنّ السفينة السياسيّة الاسرائيلية فقدت الاتجاه. مثلا، في أكتوبر 2004 نُقل عن جنرالات اسرائيليين تقديرات مفادها أنّ “الحرب الدائرة لم تعد قادرة على خدمة هدفها”. والهدف كما عرّفته قيادة الجيش هو: “فرض حلّ الدولتين”، مثلما تم تفصيله في “كامب ديفيد” طبعًا. ولذلك فقد بدأوا بطرح “الحلّ الاقليمي”، أي العودة إلى حل الهدنة منذ العام 1949. كيف؟ مصر تأخذ قطاع غزة، والأردن “تستعيد” الضفة الغربية، وسوريا (بعض) هضبة الجولان. أما اسرائيل فتنجز “معاهدات ثابتة مع دول مسؤولة”.
موشيه يعلون كان قال في مقابلة مع توليه قيادة جيش الاحتلال، في صيف 2002 إنه يجب أن “نطبع في وعي الفلسطينيين” خلاصة أنه لا يمكنهم تحقيق أهدافهم بالعنف. لكن “الحل” الاسرائيلي لم ينطبع في وعي الفلسطينيين. وحين “استصعب” الفلسطينيون استيعاب الدرس المقدّم بالدبابة والأباتشي، سعى جيش الاحتلال إلى العثور على مهرب. لكن العقلية العنيفة التي تحكمه ترفض إعادة النظر، ترفض الاعتراف بالخطأ – الخطيئة. لا تستوعب حكمة “حدود القوة”. وهكذا بدئ بطرح حلول مختلقة.
لم تعكس هذه الواقعة تعارضًا بين مؤسسة الجيش وبين مؤسسة الحكومة. فنظرية شارون المُعلنة كانت تقوم على تجزئة الحلّ وإرجائه إلى عشرات السنين عبر فرض “حلول مؤقتة طويلة الأمد” (تمثّلت لاحقًا بخطة “فك الارتباط مع غزة”، التي عرّفها مستشاره دوف فايسغلاس على انها ليست أكثر من “فورمالين” لحفظ جثة العملية السياسية). وهكذا، فإنّ قيادة الجيش كثّفت النظرية عبر دفن القضية برمتها، والعودة البهلوانية إلى ما قبل 1967 وكأنّ شيئًا لم يكن! هذا النكوص إلى الوراء، الهرب من الحاضر، هو بمثابة الحالة الأصولية الكلاسيكية: عجزٌ عن مواجهة الحاضر، بكل ما فيه من صعوبات وتحديات. وبدلا من الإعتراف به يجري الهرب إلى الوراء.
مقابل محاولة الهرب الفاشلة على مستوى الزمن، كان لا يزال يجري العمل المكثّف للهرب على مستوى المكان. فجاء جدار الفصل العنصري، وإعادة انتشار الجيش الاسرائيلي حول قطاع غزة، بعد اخلائه من المستوطنات والابقاء عليه محاصرًا برًا وبحرًا وجوًا، من خلال التوهّم ان هذا سيضع حدًا “للكابوس”. لاحقًا سنستمع إلى وزيرة القضاء والخارجية تسيبي ليفني (2005) أن الجدار “سيشكـّل الحدود المستقبلية لإسرائيل”. بعد ذلك بسنة ستخوض اسرائيل ايهود أولمرت حرب الحسابات الخاطئة في لبنان (2006)، ستنطلق مبادرة جورج بوش من “أنابوليس” وستموت (2007). سيشن أولمرت حربه الوحشية على غزة (2009)، وسيعود بنيامين نتنياهو إلى الحكم. دالّة واحدة تعود إلى نقطة الصفر بالرغم من جميع انثناءاتها.
4
لقد نالت حكومات اسرائيل في العقدين الأخيرين من حظوظ الطروحات والمبادرات والمقترَحات والعروض لأجل تحقيق تسوية، ما لم تنله أية قلعة محصّنة بالخوف والكراهية في التاريخ الحديث. لكنها مع ذلك ظلّت تختار التمادي العسكري وحماقة الغيّ. رفست بحوافرها العسكرية كل مقترح عربيّ ودوليّ للتسوية. أطلقت آلة حربها المتوحّشة حتى حين أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي أوضح مبادراتها/أكثرها تنازلا/واقعية والتي قبلت فيها بتقسيم فلسطين كمبدأ للتسوية. قمعت انتفاضة أولى وثانية، من دون أن تحقّق نصرًا أو بعض نصر. داست دومًا جميع محاولات محاصرة النيران عبر توسيعٍ مخططٍ لدوائر النار. رفضت بصلافة استعلائية بشعة أية محاولة للحوار المتكافئ بل دأبت على اغتيالها بالحديد والنار.
لقد عاشت اسرائيل الرسمية على حرابها دومًا. منذ أن نفذ مؤسسوها حربهم التطهيرية الأولى عام 1948، وحتى ثملت مؤسستهم بقوّتها الاحتلالية بعد 1967. وعنها قال الراحل اليهودي الكبير يشعياهو ليبوفيتش مرة: “في اليوم السابع، اللاحق لسادس أيام تلك الحرب، ستبدأ نهاية إسرائيل إذا لم تستيقظ”. وها هي حتى اليوم، بعد مرور آلاف الأيام لم تستيقظ بعد، بل تواصل ابتلاع جرعات سمّ وهم القوّة. وحتى حين تدخل “مفاوضات مباشرة” جديدة، اليوم، فإنها ترفض الفطام عن سمّ الاستيطان. في جميع المرات اتهمت العرب بأنهم “لا يفهمون سوى لغة القوّة”، لكن ممارساتها أثبتت أنها هي من يعاني هذا التشوّه؛ فلم ينقلع الاحتلال من غزة لأنه استوعب الدرس بل لأنه تألّم. وهو كذلك في لبنان 2000.
كان يمكن لهذا الاحتلال أن يوفّر على الشعوب الوقت الدامي الطويل، من أجل سلامة جميع البشر، من دون تفرقة بينهم على أية خلفيّة. لكن الحقيقة هي أن قباطنة اسرائيل لم يغيّروا استراتيجية الهرب من السّلم بل غيّروا الأساليب فقط. فبعد نهج الهرب من التسوية إلى الحرب، جاءت طريقة الهرب من ثمن الحرب نحو “حلول وإملاءات من طرف واحد”. وهي لا حلول ولا يحزنون. بل تكريس أشدّ خطورة لمفعول جمر انفجار الحروب القادمة من تحت رماد وهم التفوّق المحصّن خلف الترسانات والجدران.
لا توجد مؤشّرات على قرب حدوث طفرة في السياسة الاسرائيلية. فقد استشرى مرض الغطرسة وتورّم وبات عضالا! وبعد مرور قرابة الستين عامًا على قيام هذه الدولة انزرعت لغة وممارسة العنف في كافة مفاصلها.
إن السّلام لا يلوح في الأفق لأنه، ببساطة، ليس غيمة ولا حمامة.. هو مشروع سياسيّ يحتاج إلى سياسيّين قادرين على التمعّن في الماضي والتعلم من التجربة – فلسطينيًا أقصد!
لا حاجة للأوهام. فلا يمكن للسّلم أن يحلّ بالتمني الذي يعيش أصحابه على أمل استفاقة مفاجئة كالطفرة لدى من غيّبت الهيمنة وعيهم ورشدهم السياسي والأخلاقي. يجب أن يصبح السّلم “صخرة نجاة المتعجرفين الأخيرة” حتى يلجأوا إليه، حين يرون أن البديل هو سقوطهم في غياهب النهاية التي يحيكونها بأيديهم لأنفسهم وسواهم. لو لم تكن الأنظمة العربية بهذا الانحطاط لقُلنا إنه لا مفرّ من شنّ “هجمة سلام” على إسرائيل المتعجرفة كي تتوقّف عن غيّها وعن صنع المآسي في كل زرعٍ وبور، في موارسها هي وفي ما بعد حدودها، تلك المعترف بها وتلك المغتصبة. لكن المصيبة مزدوجة، فمن طرف لدينا عدوانيّة حكّام اسرائيل ومن الطرف الآخر هناك انهزاميّة أنظمة العرب داخل حظيرة واشنطن. وبما أنّ تحقيق الأهداف بشكل سليم يحتاج إلى وضع فرضيات صحيحة، فلا بدّ من النظر بجرأة إلى هذه الفرضيّة: إن السّلام لا يلوح في الأفق لأنه، ببساطة، ليس غيمة ولا حمامة.. هو مشروع سياسيّ يحتاج إلى سياسيّين قادرين على التمعّن في الماضي والتعلم من التجربة – فلسطينيًا أقصد!
5
لقد جرت في السنوات الأخيرة محاولات للتوصّل إلى نوعين من التسويات، ولا اقول إلى سلام، المؤقت منها والدائم. كان أوسلو محاولة للتسوية المؤقتة، وكامب ديفيد تلك الدائمة. كلاهما تعرّض للإفشال الاسرائيلي. جرى اغتيال اوسلو عبر سيرورات تسريع وتكثيف الاستيطان وبناء علاقة فوقية مع الشعب الفلسطيني، استغلتها بعض الاوساط المتنفّذة للفساد والإفساد. وهكذا فإنّ الشعب الفلسطيني، الذي لم يحقق اوسلو حقوقه ولم يحسّن أحواله، فقدَ الثقة بالسيرورة ومسيّريها جميعًا! اما في كامب ديفيد فقد كانت المسألة بمثابة قصة فشل مُعلن سلفًا. فقد ظنّ الجنرال ايهود باراك بغباء أن معارك السلام تُحسم بالمدفعيّات الثقيلة!
هناك استعارتان: الاولى تجسّد مصير اوسلو عبر الانتقال من صورة الرصاصات الاسرائيلية التي اغتالت اسحاق رابين وصولا إلى صورة تتويج مرشح اليمين والاستيطان بنيامين نتنياهو رئيسًا للحكومة. والاستعارة الثانية تجسّد مصير كامب ديفيد عبر الانتقال من صورة باراك وهو يدفع ياسر عرفات دفعًا إلى قاعة التفاوض، وصولا إلى صورة الدبابات الاسرائيلية تجتاح المدن الفلسطينية وتزرع الموت والدمار منذ أيلول/تشرين الاول 2000، ومحاصرة عرفات في المقاطعة واغتياله، كما يُرجّح.
على الرغم من كافة التحوّلات والتطوّرات والانهيارات لا يزال أكثر مسارات التسوية (ولا أقول الحل الدائم أو الأخير) قابلية للتطبيق هو انسحاب اسرائيل، بجيشها ومستوطنيها وجدارها وحواجزها وسيطرتها البريّة الجوية والبحرية، حتى حدود الرابع من حزيران 1967، بما يشمل القدس الشرقية بوصفها عاصمة للدولة الفلسطينية كاملة السيادة، وحل قضية اللاجئين عبر احترام وتطبيق حقهم بالعودة و/أو التعويض، وفقًا لإرادتهم الحرّة، وبموجب القرارات الدولية ذات الصلة. فبعد التجارب المريرة الفاشلة السابقة، كل حلّ لا يرتقي إلى هذه المبادئ لن يكون سوى لعب على حبال الوقت، ومن جهة اسرائيل هو اقتناص للوقت، لعبة سياسييها المفضّلة – وهو ما يفعله نتنياهو الآن بالضبط. بقي ألا يمنحه الفلسطيني تمديدًا للوقت الضائع، لا عبر التفاوض المُفرغ من المرجعيات، ولا عبر المقاومة المسلحة العشوائية، التي لا تحتكم إلى برنامج أهداف سياسي وطنيّ وموحّد.. وسيظلّ الأمل بالتأكيد في الشعب الفلسطيني وفي عدالة قضيته أولاً.