“روح بيرزيت”: قراءة في كتاب “سيرة جابي برامكي وتجربته في جامعة بيرزيت” (1929-2012)/ قسم الحاج
وقد اشتمل الكتاب على خمسة فصول تناولت بدورها أربع حقب زمنية في سيرة ومسيرة جابي برامكي وجامعة بيرزيت، تتجاوز السيرة الفردية لبرامكي، الطالب في مدرسة بيرزيت بعد عشر سنوات من تأسيسها في عام 1924، إلى فاعلية الرمز الأكبر المتمثل بالسيرة الجماعية المعمّمة فلسطينيًا.
| قسم الحاج* |
تتزامن هذه القراءة في كتاب “جابي برامكي وتجربته في جامعة بيرزيت”، جديد أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية والعربية الحرّ في جامعة بيرزيت “عبد الرحيم الشيخ”، مع دنوّ الذكرى السنوية الثالثة لوفاة برامكي في أواخر آب من عام 2012.
والشيخ شاعر وأكاديمي فلسطيني نشأ في القدس، وينتمي لعائلة فلسطينية لاجئة من قرية بيت شنة بالقرب من الرملة و “يتمحور عمله البحثي على القومية وسياسات الهوية (وخصوصا تعبيراتها السمعية والبصرية، نظرًا وتطبيقًا) في سياق استعماري”.
والكتاب الصادر حديثا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والذي عقد حفل توقيعه في جامعة بيرزيت في العشرين من شهر حزيران الماضي، لا يسرد في ظاهرة ومتنه فقط سيرة غيرية لجابي برامكي في الجامعة التي ناب فيها رئيسا لمدة تقارب العشرين عامًا وإنّما يتعداها ليشمل سيرة الحالة الوطنية الفلسطينية العامة سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا والتي تشكل الجامعة بطبيعة الحال ركيزة من ركائزها.
ويناقش الشيخ، على امتداد 243 صفحة من القطع المتوسط، تتبعها 130 صفحة تتنوع بين ملاحق وصور عديدة لمناسبات وندوات في الجامعة بالإضافة إلى فهرست لأسماء الأشخاص والأماكن التي مرّ عليها الكتاب، في دور تكوين هيكل مؤسساتي جامعي وطني كجامعة بيرزيت، الأولى في التأسيس على مستوى الوطن، يساهم في التهيئة لتكوين إطار للهوية الوطنية الفلسطينية _المتوترة بالأصل_ ويهيكلها. بالإضافة إلى تشكيله بنية تحتية و دعامة فكرية_ ثقافية سياسية في سياق المواجهة مع العدو الصهيوني، وثقلا للتجربة الجمعية الفلسطينية كونها تشكل رمزا للمسيرة التعليمية والجامعية تحديدًا.
وقد اشتمل الكتاب على خمسة فصول تناولت بدورها أربع حقب زمنية في سيرة ومسيرة جابي برامكي وجامعة بيرزيت، تتجاوز السيرة الفردية لبرامكي، الطالب في مدرسة بيرزيت بعد عشر سنوات من تأسيسها في عام 1924، إلى فاعلية الرمز الأكبر المتمثل بالسيرة الجماعية المعمّمة فلسطينيًا. وعلى لسان مؤلفه، فالكتاب “ليس سيرة لبرامكي فحسب، ولا لبيرزيت بصفتها جامعة، ولا لبلدة بيرزيت وتاريخها الاجتماعي بين القدس ورام الله وشمالي فلسطين…. بل إنه تاريخ لفلسطين وللتعليم العالي فيها، وقصة مقاومتها للاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاحتلال العسكري الإسرائيلي على امتداد أربع حقب زمنية في تاريخ الشعب الفلسطيني”. تبتدئ هذه الفصول بعد “إشارات” محمود درويش حول جامعة بيرزيت ومقدمة الشيخ، بالمرحلة البينية بين بداية ونهاية الحكم الانتدابي البريطاني، ثم مرحلة الحكم الأردني في الضفة الغربية، المتبوعة بمرحلة الحكم العسكري الاحتلالي الصهيوني، المنتصفة بين فترتين؛ تمتد الأولى منذ النكسة حتى نفي رئيس جامعة بيرزيت حنا ناصر الى بيروت عام 1974، فيما تمتد الأخرى حتى توقيع اتفاقية أوسلو. وينتهي الكتاب في فصله الخامس والمعنون باسم “جامعة بيرزيت من جدلية الوجود إلى جدلية الجوهر” بالمرحلة الفلسطينية حتى عام 2012، العام الذي توقف فيه قلب برامكي عن النبض فيما روحه وسيرته تواصل انشغالها بما تبقى لها.
وبين رئتيْ الكتاب ترجمة الشيخ لتقديم وختام الكتاب الخاص الذي ألّفه برامكي حول “المقاومة السلمية: إقامة جامعة فلسطينية تحت الاحتلال”، وفي قلبه رسالة يراوح فيها الشيخ بذكاء، وأخذا بعين الاعتبار خيار جابي برامكي في دعمه وتأييده للمقاومة السلمية، بين الخيار السلمي الذي انتهجه القائمون على تأسيس الجامعة، والمتمثل بالاهتمام بالتربية والتعليم لمجتمع كان يخضع حينها لسلطة حكم عسكري صهيوني احتلالي، همّه نفي الوجود الفلسطيني وبين خيار الكفاح المسلح الذي اختاره عن دراية واقتناع عديد الطلاب في جامعة بيرزيت والشعب الفلسطيني بشكل أعمّ، جماعات ووحدانا. و وإن كانت تتجه الصفة المؤسساتية للجامعة نحو الخيار السلمي في مواجهة الاحتلال واحراجه عالميا فهي قد خرجت كوادر نضالية انتهجت العمل السياسي والنضالي المتعدد الوجوه، من الانخراط بالخيار السلمي في المفاوضات الى انتهاج العمل المسلح كطريقة وسبيل للتحرر. ويعبر مروان البرغوثي عن نهج الكفاح المسلح “إن استدعته حالة تاريخية أو وضع سياسي أو في حال توفر إمكاناته الحاسمة”، وذلك في طرحه لفكرة المقاومة الشاملة.
والمقصود بالحالة التاريخية الملائمة والإمكانيات الحاسمة، كما تقرأها كاتبة هذه السطور، هو خيار الكفاح المسلح المنظم مع تبنيه من قبل الرسمية السياسية وتبنيه من قبل الحاضنة الشعبية والحزبية وان يكون هدفه تحرريا بالأساس لا مجرد مقاومة لحظية تقصيها وتدنيها الفواعل السياسية ذات الخيارات السلمية في المقاومة. ذلك ان خيار الكفاح المسلح المتقطع زمنيا لا يساهم الا في اطالة عمر المعركة، على بالغ أهميتها، لا ا كتساب الحرب مع العدو الصهيوني الذي كلما أُمهل مزيدًا من الوقت أمعن في استعماريته وفي إضعافه للمجتمع الفلسطيني ومحاصرته.
ومن ناحيتها، فإن المؤسسة التعليمية بشكل عام وجامعة بيرزيت بشكل خاصّ تتموقع في خندق المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني سيّما أن الجامعة ليست تعليمية وتعلمية فحسب بل إنّها تؤسس رمزيا وجوهريا لفعل وطني تحرري، وهو ما أسمته تلك الفترة ب” روح بيرزيت”، حيث كان العمل الوطني التحرري على رأس أولويات الجامعة ومن أسس إنشائها. وفي مقابلة أوردها الشيخ مع أول رئيس لجامعة بيرزيت: حنّا ناصر، فإن الأخير يرى أن روح بيرزيت هو التفكير الثوري و الحرّ، وينطوي ذلك على تحذير صريح من فقدان روح المؤسسة بفقدانها للهدف الذي أُنشئت من أجله، وخاصّة في كنف تحولات فلسطينية_ سياسية رديئة وقاتلة، بالمعنى الحرفي، للقضية التحررية. وهذا تماما ما عبّر عنه حنا ناصر، بقوله: ” ما يميز بيرزيت والتعليم العالي فيها هو هذا الفكر الحرّ، الذي اذا انعدم من الجامعة ستهوي، والمهم الانتباه على ما يعني التفكير الحرّ…. إنّه روح بيرزيت”. [1]
ومن المهم الإشارة إلى أن تكوين مثل هذه المؤسسة الأكاديمية_ الجامعية في فترة حرجة من التاريخ الفلسطيني، وحسب الشيخ، يعمل على استكمال بناء الحداثة الفلسطينية التي أعاقتها الحركة الاستعمارية الصهيونية ونظيرتها البريطانية والتي توّجت إعاقتها بالحدث النكبوي عام 1948 وما جرّه لاحقا من ويلات صبّت أسوأ ما فيها على رأس الشعب الفلسطيني في البلاد والمنافي، كما يعمل على بلورة الهوية الفلسطينية الحديثة التي تشكل الحركة التحررية قلبها النابض. وفي استحضار لقول فيصل دراج عن المعرفة_ النواة للهوية، وهو الذي يمحور في كتاباته ميزان الهوية الفلسطينية حول المنفى والكفاح المسلح، كأساسين من أسس تعريف الهوية الفلسطينية الحديثة، فإنّ المعرفة ليست “في وجهيها النظري والعلمي، إضافة خارجية إلى الهوية، كما لو كانت الأخيرة نواة، والمعرفة قماطاً لها، بل المعرفة هي ما يعطي الهوية قوامها وماهيتها. وهذا ما يسمح بالتمييز بين هوية شكلانية، لا تلتفت إلى مستجدات التاريخ، وهوية تاريخية تبني ذاتها بمضامين متجددة، وتتعرف على ذاتها بقدر ما تعرف الآخر المختلف الذي تواجهه”. [2]
ويشير الشيخ إلى أنّ الفكرة من تأسيس الصف الجامعي الأول في بيرزيت عام 1973، على الرغم من كل الصعوبات والصدامات المحتدمة التي واجهها حنّا ناصر وجابي برامكي وغيرهما من مؤسسي الجامعة مع الحاكمية العسكرية الصهيونية، كما يطرحها برامكي هي كسر الحصار الفكري الذي بناه الصهيوني ومؤسساته حول فكرة الفلسطيني كفاعل سلبي، الأمر الذي من شأنه أن يعمل على تنشئة أفراد فلسطينيين “متساوِين مع الإسرائيليين في المستوى المعرفي” ويدفعهم بعيدًا عن أفعال “العنف”. ويعقِّب على فكرة برامكي هذه بحنكة وطنية بأنْ لا سبيل لمقابلة حركة مقاومة وتحرر وطنية فلسطينية مع حركة استعمارية استيطانية_صهيونية. مع الأخذ بعين الاعتبار الأهمية الشديدة لتأسيس مَعين معرفي منظَّم يُعرِّف ويدرس العدو من منطلق مواجهته لا المساواة معه.. ولأنّ المعرفة قوّة، تبعا لميشيل فوكو وغيره من المفكرين فإنّ المعرفة وحدها لا تكتفي بذاتها ما لم تؤسِّس لفعل ماديّ على أرض الواقع مهما طال زمن تحققه.
يسرد الكتاب تجارب برامكي وحنا ناصر في صداماتهم مع الحاكمية العسكرية الصهيونية، ومن أهمها مواجهتهم للأمر العسكري 854 الصادر عام 1980 والذي يحوّر في قانون التعليم الأردني رقم 16 لسنة 1964 ويجعل الجامعات تابعة لمسؤوليات الحاكم العسكري. وهو القرار الذي يستثني بالأصل الجامعات من مسؤولية وزير التربية والتعليم وبالتالي فهي مستثناة أيضًا من صلاحيات الحاكم العسكري اللاحق. ويتكون الأمر العسكري رقم 854 من البند 18 الذي هو بمثابة يمين الولاء لحكومة الاحتلال والذي أيضا يجرّم التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو البند الذي حذفه برامكي عن وعي وإقدام من نسخ مصوّرة عن الأمر العسكري لتجنيب أساتذة بيرزيت القادمين من خارج البلاد الخضوع لحلف يمين الولاء لدولة الاحتلال، على الرغم من خطورة هذه الخطوة من قبل برامكي واحتمالية تعرضه لتهمة التزوير. وهذا غيض من فيض من سلسلة الصدامات بين إدارة بيرزيت والحاكمية العسكرية الصهيونية، مثل تأسيس مجلس التعليم العالي عام 1977، و إنشاء خلايا التعليم (غير القانونية) “بيرزيت تحت الأرض”، وبرامج التعليم البديلة “من بيرزيت إلى غزة” في فترة إغلاق الجامعة الطويلة في الثمانينات، بالإضافة إلى استكمال البرنامج التدريسي التعويضي في مؤسسات مقدسية، مثل جمعية الشبان المسيحية وجمعية الشابات المسيحية ومدرسة سان جورج (المطران). وذلك عدا الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل PACBI التي نشط فيها برامكي بحثاثة حتى آخر لحظاته. وذلك يشير إلى ضرورة نزع صفة الاسطورة عن العدو، حتى تسهل مواجهته، فالمقاومة السلمية التي انتهجها برامكي وإدارة بيرزيت بشكل أوسع لم تكن لتعني المهادنة والاستسلام لحكومة الاحتلال ولسياسة الأمر الواقع، بل مقارعتها وانتزاع حقوقها منها وترك المؤسسة التعلمية الوطنية تبني ما تستطيع بناءه.
إنّ عمر جامعة بيرزيت (المتطورة عن مدرسة وكلية مجتمع متوسطة) تساوي بالعمر الموازي، بلغة الأسير الفلسطيني في السجون الصهيونية وليد دقّة، نهاية الامبراطورية العثمانية وبدايات الاستعمار البريطاني (1924) وثورة البراق (1927) والثورة العربية الكبرى (1936)، والنكبة (1948) والحقبة الأردنية الممتدة منذ (1947_ 1967) والحقبة الصهيونية الأولى بين (1967_ 1974)، والحقبة الصهيونية الثانية بين (1974_ 1993)، وانتهاء بالحقبة الفلسطينية بين (1993_ حتى عام وفاة جابي برامكي 2012)، والأعوام اللاحقة وما تتضمنه هذه الحقبة من أحداث أثّرت بشكل عميق على القضية الفلسطينية التحررية، وربما أقصتها عن هدفها التحرري. تقوم جامعة بيرزيت بين هذه الأرقام، وهو ليس امتيازا على غيرها من الجامعات الفلسطينية ولا انتقاصا للأخيرة..، بدور الرائي ورواي حكاية التجربة الجمعية الفلسطينية، التي لم تكتمل بعد الا بالتقاء نصفي الوطن؛ شماله وجنوبه طويًا على القلب والروح.
بيرزيت في صور
يشتمل الكتاب أيضا على عدد كبير من الصور التي تؤرّخ وتوثّق لتاريخ جامعة بيرزيت، ومسيرتها وحضور جابي برامكي فيها. وهي صور ذات فاعلية لا تعبر فقط عن الذوات الفردية المصوّرة، وانما تعبر بأوسع من ذلك عن الذات الجمعية الفلسطينية التي تشكل الجامعة ومحيطها انعكاسا لها. وبحسب تعبير عصام نصار في عمله حول الصور العائلية والسير الذاتية فإن “ألبومات الصور سجل يتضمن الاثنين: المذكرات والصور الفوتوغرافية. وطبيعتها، من حيث هي وثائق منظمة وفق التسلسل الزمني، تعكس روايات كاتب السيرة، وقد تقدم بعض الاستبصارات التي ربما لم تستطع الصورة وحدها أن تتيحها”، حيث تكون الصورة ابنة للواقع والتاريخ وإن كان استيضاحها لهما بدرجات متفاوتة. والصور المضَّمنة بالكتاب إنما تعكس سيرة عائلة جامعة بيرزيت وسيرة مؤسسة تعليمية وطنية فلسطينية وروايتها للذاكرة الفلسطينية في الحقب التي عاصرتها.
ويختم الشيخ كتابه الثمين في أحد الملاحق بقائمة طويلة باسم 26 شهيدًا من شهداء الوطن وطلاب جامعة بيرزيت، وهم: شرف الطيبي، عيسى شماسنة، جواد أبو سلمية، صائب ذهب، موسى حنفي، عبد الله علاونة، إبراهيم قاسم، جمال غانم، حازم عيد، عماد كلاب، عبد المنعم أبو حميد، محمد أبو شقرة، فتحي الشقاقي، يحيى عياش، ياسر عبد الغني، عبد الله صلاح، خليل الشريف، ناصر عريقات، ضياء الطويل، أيمن حلاوة، صالح تلاحمة، جمال الفقيه، إيهاب أبو سليم، عمر أبو الظافر، عبد اللطيف حروب، وأخيرا وليس آخرًا ساجي صايل درويش. وهم من يرددون نشيد البلاد ومعناه، بكلام معين بسيسو: ” أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح”.
[1] الكتاب، ص 80
[2] دراج، فيصل. ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001: ص 31.
*طالبة ماجستير في برنامج الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت