صراع العشاق على أسوار عكا/ د. صلاح فضل
نرى أنّ وداع كل من القائد الفرنسىّ الذي يقول لها بلغته «أورفوار» ووداع القائد التركيّ الذي لم يثب إلى نفسه سوى في تلك اللحظة، يقدم لنا رؤية تاريخية خصبة، وأمثولة فنية بديعة، لم تجعل السفينة محورها سوى في الظاهر فحسب، بل قدمت رواية أدبية بالغة الوجازة والكثافة الشعرية الرائقة
.
|د. صلاح فضل|
هل يستطيع المبدع الفلسطيني أن يقبض على جمر الواقع دون أن يمسك بملقط التاريخ؟ خصوصاً إذا كان يكتوى بلفح العيش داخل الأرض المحتلة، مثل الروائي الأربعيني الموهوب علاء حليحل، المولود في الجليل والذي يمارس الكتابة الصحفية الرقمية والإبداعية من المدينة التي أصبحت أسطورة التاريخ الحديث -عكا- بدحرها لنابليون وتبديدها لأوهامه. يطلع علينا الكاتب بروايته البديعة «أورفوار عكا» المنشورة في الدار الأهلية بعمان، ليقدم رؤية دامغة ومثيرة لأخطر حصار جمع بين الشرق والغرب، وبرزت فيه كلّ فنون الحرب، أثناء الحافة المدبّبة لالتقاء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بين أعتى القوى الاستعمارية حينئذ الإنجليزية والفرنسية والعثمانية، إذ يواجه السفاح البوسني الأصل أحمد باشا الجزار أسطول نابليون ويصدّ عن المدينة المحصنة، ولكن الطريف الذي يعطي الرواية مذاقاً حريفاً منذ مطلعها وطابعاً مشوقاً مرتبطاً بالحافز الذي دفع الكاتب لوصفها، حيث أشار عليه أحد أصدقائه بأن «يكتب رواية عن حصار عكا وعن سفينة النساء التي أرسلوها من باريس إلى جنود نابليون أثناء حملته على الشرق، متخيلاً أنها وقعت في أسر المحاصرين وقتها»، ثم يعقب الكاتب محدداً طبيعة عمله بأنه «ليس رواية تاريخية، بل يتخذ الحدث التاريخيّ مسرحاً للخيال والفانتازيا والافتتان بالاختلاق والمناورة»، وهذا شأن الإبداع الحقيقيّ في كل صوره.
ومع أن الكاتب -والقارئ معه- انطلق من هذا الافتراض العبثيّ للوقائع، فإنّ ما تزخر به الرواية في «وقعاتها» -أى فصولها المركزة التي تبلغ خمسة وثلاثين- يتجاوز ذلك بكثير، حيث يقوم بترميم عوالم وعرض نفوس، وتجسيد قوى وصراعات، وكشف آليات السلطة المطلقة على الرقاب والنوايا، وفضح أساليب الخوزقة وبثّ الرعب واستعباد البشر، ونبش مناطق الضعف والهشاشة في الكيانات التي تبدو صارمة جبارة من الخارج، وفوق كل ذلك تحديات أفتك الأوبئة وهو الطاعون، إلى جانب الطموحات المهلكة في كلا الجانبين. ويظل عشق المرأة المحبوبة الذي ينفر في أعماق الأبطال هو الذى يتحكم طبقاً لهذه الرؤية في توجيه المصائر والأقدار. ولأنّ الوقعات مؤرخة بأيام الحصار التي تبدأ في 24 آذار/ مارس عام 1798م، فإنها تبدأ بمشهد ذي طبيعة سينمائية لدسيسة أطلقها الفرنسيون لاغتيال الجزار باشا، فاقترب من مخدعه عبر السرداب السريّ وأوشك أن يطعنه، كان «عليه أن يقترب عدة خطوات فقط ليطعنه بالسكين المسمومة في قفصه الصدريّ، ناحية اليسار بأصبعيْن كما قالوا له وعندها سيموت فوراً، سيطعنه كما علموه في الرزداق (المعسكر) قرب حيفا أمس.. لقد سقطت حيفا بسهولة وسلم أهلها نابليون مفتاح المدينة بلا قتال، وسيدخل بونابرت عكا بسلام، نابليون يريد قتل الجزار بسرعة وسيحفظ أهل عكا كما فعل في حيفا، سيدخل المطابع والجرائد والمسارح وسيجعل من أهل هذه البلاد أمة تقرأ.. لماذا يكرهون الفرنساوية إلى هذا الحد، هل الأتراك أفضل منهم؟ فَكَّر مضطرباً ولم يكن يملك جواباً حاسماً». وهو لم يقم بالخطوة الحاسمة؛ غلبته هيبة النائم وأرجفت قلبه، لكن ظلت أسئلته معلقة في فضاء الرواية لتشهد على موقف الأدوات التي يوظفها الفاعلون الأصليون في مجرى تاريخ المنطقة في تلك الآونة وفيما تلاها حتى اليوم.
سفينة ورسائل
يبتكر الراوي أسماء ومواقف لا مجال للبحث عن حقائقها التاريخية، لأن قيمتها رمزية ودلالتها على الحقيقة لا تتوقف على مصداقيتها بقدر ما ترتبط بمدى تمثيلها الجماليّ للحياة. وقد جسد الكاتب خبراً لسفينة بطريقة حيوية، ابتداءً من عجب القبطان من المهمة «العسكرية» التي كلف بها، مع أنّ اسم سفينته «جوزفين» -وهو اسم محبوبة نابليون- وكانت تحمل قرابة 150 امرأة، معظمهن ممتلئات جميلات غضات، يملأن ظهر السفينة وبطنها، «يحرسهن» حوالي 50 بحاراً وجندياً ويحومون حولهن منذ اللحظة الأولى، ولم تلبث بعد أن تهادت في عرض البحر أن أصبحت نموذجاً «مهنياً وجدياً متقناً لبعض أيام سدوم وعمورة» في الفسق والفجور، الذي انتهى بالقبطان إلى قتل إحداهن لفرض النظام على السفينة، لكن السفينة لم تكد تقترب من ميناء عكا الذى كان يسمى حينئذ عند الفرنجة «سان جين دى إيكر» حتى أطلق عليها الأسطول الإنجليزيّ المتربص قذائفه الثقيلة فشقتها نصفين وأوقعتها في أسر الحامية التركية بعد أن رفض القائد الإنجليزي الاستيلاء على الحمولة الملغومة الخطيرة، أمر الجزار بحبسهن في خنادق السّراي، وحرّم على الجنود الاقتراب منهن خوفاً من الفوضى والأمراض بعد أن تداول مع معاونيه في أمرهن، وأهمهم ضابط فرنسي يعمل مستشاراً له يسمى «دى فيليبو» ومساعد يهوديّ يقوم على بيت المال وهو «فرحي»، وإبراهيم الترجمان الذي سنعرف حقيقته باعتباره مسيحياً متنكراً في خدمة الوالي الطاغية، الذي نكّل بكل الطوائف وهجّر النصارى وحكم الشام بالحديد والنار والرعب المقيم.
يعترض جواسيس الحامية رسالة بعث بها نابليون إلى معشوقته جوزفين، علّهم يعرفون خططه في الغزو ويترجمها إبراهيم الترجمان بلغة شامية على مسامع الجزار باشا فتثير مكامن غيظه، حيث يقول القائد الفرنسيّ لمن يطلق عليها «قاتلتي.. كم أشتاق لريحتك يا جوزفين، لجوا ذراعيك البضات، فكتفك المدور الأبيض وظلها فوق حمرة بشرتك أشم ريحتها فيرتعش جسمي بنشوتك الضايعة في هذا الحر الشبقيّ هنا». يستعيد الوالي قراءة نص الرسالة ويركبه الغيظ ممتلئاً بالاحتقار الهائل لهذا الفرنسيّ الذى يرابط تحت سوره ليهدم حصنه وهو يشهق مثل الإناث، فيمتشق سيفه ويهتف بقوة: «إيش مهزلة هاذي، يحاصرني مخنث عشاق!!».
ومع ما في هذا المشهد من افتتان خلاق -كما يقول الكاتب في مقدّمته- فإنه يكشف صمود الوالي التركيّ وسر تماسكه أمام مدافع وخطط نابليون؛ إحساس بالتفوق المعنويّ عليه واستقواء بالأسطول الإنجليزيّ الذى استولى على إمداداته الحربية، وأهم من ذلك تلك الشخصية الغريبة (دي فيليبو) الذي كان رفيقاً لنابليون وانشق عنه لكرهه للجمهوريين وكرّس نفسه لخدمة الحامية الشرقية وإحكام تحصينات عكا، يشرح مثلاً للجزار أهم أخطاء نابليون في هذا الحصار من استهتاره بمعنويات الحامية التركية لظنه أن العسكر الشرقيين أقل تدريباً ومهارة، ثم قيام نابليون بارتكاب مجزرة في يافا بقتل مئات الأسرى من الجنود لعجزه عن حراستهم وإطعامهم، ما ألهب حماس جنود الحامية لخوفهم من المصير ذاته لو تهاونوا في الدفاع عن حصونهم، ثم مساعدات الأسطول الإنجليزي بعد استيلائه على المدافع الفرنسية الثقيلة، إلى جانب مهارة دي فيليبو ذاته في تشغيل وتصويب الدفاعات، وهي المهارات التي اكتسبها مع نابليون ذاته في المدرسة العسكرية الفرنسية، ما جعله يتوقع الخطوات التالية ويستعد لها بما يعرفه عن زميله من نزق وحب للمفاجآت واعتماد على الكاريزما الهائلة التي يتمتع بها بين جنوده.
من هنا نرى الرواية وقد كشفت لنا أسرار الأساطير التاريخية الثلاث: أسطورة الجزار باشا وكيف صنع أفدح نموذج لطاغية جبار؛ وأسطورة الأسطول الفرنسيّ الذى لا يقهر وقائده صانع الفتوحات العظمى في التاريخ الحديث؛ ثم أسطورة عكا التي قهرت بأسوارها وإرادة أهلها الفولاذية أعتى الجيوش الحربية.
فلسطين في القلب
مهما كان الإطار التاريخيّ المُبْكر للصراع الضاري على أسوار عكا، فإنّ المشكلة اليهودية التي صبغت تاريخ المنطقة كلها بالدم في القرنين التاليين لم يكن لها أن تغيب عن المشهد، لكن المؤلف يجسدها في طرفين: أحدهما شخصية فرحي اليهودي الذى حافظ على سلطته كمدبر للشؤون المالية والمكائد الإدارية مع الجزار حتى في أحلك الظروف عندما نقم عليه مرة وفقأ إحدى عينيه، ليضع عليها عصابة ظلت تميّز شخصية قواد اليهود حتى اليوم، لكن الأخطر في الرواية هو هذا النداء الذي تزعم أن نابليون قد وجهه لليهود في عكا ليبشرهم بالدولة الفلسطينية التي يرثونها بمعرفة الأسطول الفرنسيّ الذي «أرسلته العناية الإلهية في هذه اللحظة المناسبة للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين، وهي وجودكم السياسيّ كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعيّ المطلق في عبادة إلهكم (إلوكيم) افعلوا ذلك في العلن وإلى الأبد». ومع أنّ الكاتب ينطلق في توظيف خياله ويزهو بما في روايته من فانتازيا واختلاق، فإنه قد عمد إلى تسجيل بعض مصادره التاريخية مثل كتاب تاريخ أحمد باشا الجزار للأمير حيدر أحمد شهاب، الذي نقل منه بعض الفرامانات حرفياً، فإنه لم يشر إلى أيّ مصدر اعتمد عليه في نداء نابليون هذا، مع أنه لا يستغرب منه، حيث دأب على مداعبة أحلام من يغزوهم والتقرب إليهم بادعاء تبنيه لطموحاتهم وحتى معتقداتهم، لكن هذه الوثيقة إن صحت ولم تكن مجرد مناورة روائية -كما يقول المؤلف في تبرير تخيّله- لأصبحت إيذاناً بالكوارث التي تلاحقت بعد ذلك في الوعد المشؤوم.
وقد أثار المؤلف على أيّ حال مكامن الشجن في الوضع الفلسطينيّ وذكّرنا بأنّ عكا هذه بعد أن صدت نابليون خرجت عصمتها من أيدي أصحابها، لكن يظل طابع الحصار الذي تلعب فيه الحيل والمكائد دوراً أساسياً هو المهيمن على الرواية. ولعلّ نموذج «الوقعة العشرين» الذى يمثل اجتماع خمسين شخصية من أهل عكا بأوامر الجزار والإشارة بأصبع الاتهام بالتآمر لخمسة عشر منهم جزافاً وقطع رقابهم من دون أيّ دليل وسط جزل وهتافات الناجين بالصدفة البحتة، لعلّ هذا يجسد رهبة الديكتاتورية الأسطورية التي تمتع بها بعض طغاة الحكام في منطقتنا بعد ذلك.
ونعود إلى مصير النساء لنجد الرواية تصوّر لجوء الجنود الفرنسيين لإحضار بعض النساء المسلمات وانتهاكهن تحت أسوار المدينة لاستفزاز الحامية المسلمة ودفعها للاشتباك وإعطاء الفرصة لاقتحام الدفاعات، فترد عليهم الحامية بإحضار من تبقى من غانيات السفينة بعد توزيع معظمهن غنائم وقتلهن على الأسوار وإلقاء جثثهن إلى السهل، ما يدفع الجنود الفرنسيين لإطلاق النار على ضحاياهم العربيات، وهكذا تدفع المرأة في كلا الجانبين كرامتها بل وروحها ثمناً لإشباع شهوة الافتراس لدى الرجال من الجانبين، بينما تعتمل في نفس كل من القائد الفرنسيّ نابليون أشواقه إلى محبوبته جوزفين.
وتعاود الجزار باشا هلوساته الذاهلة فيتخيل نابليون وهو يحاوره ويقول له «لقد هرمت يا صديقي وتعبت ولا بدّ أن تعود لحبيبتك العجوز دارينكا لتجد أسنانها قد سقطت»، فيرد عليه الجزار: «إلا دارينكا»، فيسخر منه نابليون بأنه عاشق بدوره، ويقرر الجزار أن يعود بمفرده إلى مسقط رأسه في البوسنة. ومع تشابك الوقائع والخيوط التاريخية والعاطفية والفكرية في هذا الصراع الذى احتدم على أسوار عكا، نرى أنّ وداع كل من القائد الفرنسىّ الذي يقول لها بلغته «أورفوار» ووداع القائد التركيّ الذي لم يثب إلى نفسه سوى في تلك اللحظة، يقدم لنا رؤية تاريخية خصبة، وأمثولة فنية بديعة، لم تجعل السفينة محورها سوى في الظاهر فحسب، بل قدمت رواية أدبية بالغة الوجازة والكثافة الشعرية الرائقة.
(عن “المصري اليوم”)