غاتسبي العظيم: بين المدينة والألوهة/ د. عبد الله البياري
يقع فيلم “غاتسبي العظيم” (2013) المقتبس عن رواية بنفس الإسم (1952) لفرانسيس سكوت فيتزجيرالد (1896 – 1940) –ولا أؤمن بالتناسخ بين الأدب والسينما، أو حتى تمام مايسمى “مستوحاة من..”-، في ساعتان وثلاث وعشرون دقيقة، وهو لباز لورمان مخرجًا ومشاركًا في الكتابة السينمائية.
| د. عبد الله البياري |
يقع فيلم “غاتسبي العظيم” (2013) المقتبس عن رواية بنفس الإسم (1952) لفرانسيس سكوت فيتزجيرالد (1896 – 1940) –ولا أؤمن بالتناسخ بين الأدب والسينما، أو حتى تمام مايسمى “مستوحاة من..”-، في ساعتان وثلاث وعشرون دقيقة، وهو لباز لورمان مخرجًا ومشاركًا في الكتابة السينمائية.
أولًا: المدينة:
يمكن القول بأن للفيلم سردٌ مكانيٌ بامتياز، فلمدينة نيويورك كمكان/فضاء حاوي للشخصيات والحبكة والأحداث دور في السرد هي أيضًا، يكاد يكون جاعلًا منها شخصية بحد ذاتها، فلا يمكن للأخير –السرد- أن يستوي دونها، وتكاد تكون تلك الشخصية مرآةً للعلاقات المتشابكة في الفيلم، وفي بعض المواقع محركة لها، كما يقول “نك” (توبي ماغواير) إذ يصف وجهًا من أوجه نيويورك بأنها “مدينة رمادية”. فكلما تصاعد إيقاع الفيلم كلما إزدادت أنصال المدينة/نيويورك وأوجهها وشخصياتها المركبة حدة وبروزًا وحركة وتأثيرًا، في وجه المتلقي والشخصيات معًا، ولعل هذا الدور للمكان المديني/نيويورك في صورته المعمارية يعد تجسيدًا لما يقول به المعماري العراقي رفعة الجادرجي بأن “العمارة أداة حوار مثل الإيماءات البدنية كالرقص والأصوات التي يستعملها الخطيب، أو المغني أو الممثل”، ولأن “الحوار” جزء أساسي ورئيسي من بنية السرد السينمائي، بكل ما يحمله من تشابكات ومجابهات، فإن المكان/العمارة/المدينة/نيويروك في “غاتسبي العظيم” هي شخصية بدورها مثل باقي شخصيات الفيلم.
وكما لكل شخصية في السرد مشاكلها وإيقاعها وتوتراتها وأوجهها، وكل ذلك يتبدل ويتشابك ويتجابه على امتداد السرد، كذلك نيويوك/المدينة/المكان باعتبارها فضاءً جامعًا لكل هؤلاء، لابد له أن يؤثر فيهم ويتأثر بهم، بحيث غدت نيويورك مركز السرد وبؤرته حتى بين شخصيات لم تلتقِّ، ولعل كم المشاهد المدينية المركبة التي تأتي ضمن صورة الفيلم يؤكد ذلك، فمن قصور الطبقة الرأسمالية الثرية وأبهتها وسموها رأسيًا في السماء وانعكاسها أفقيًا على سطح الماء، ينعكس ضوءها للبعيد المتسع الشاسع إلى صخب هذا الجزء المديني وأهله، وكم البهرجة اللونية فيه وزخمها الذان يصلان بالمتلقي والسرد –معًا- لحالة متناقضة ومتقابلة من الإنضباط الحازم والدقيق في الحياة، وهو ماتبديه حالات الخدم الذين موضعهم لورمان (المخرج) كطبقة ضابطة لحياة الباذخين وحاوية لحواراتهم وحيواتهم (كما يظهر في حديث “توم بيوكانون” (جويل إدغرتن) زوج “ديزي” (اديلايد كليمنز) عن ضرورة عدم اختلاط الأعراق وانهيار العرق الأبيض في مقابل العرق الأسود الذي يراه “بيوكانون” -بعنصرية مقيتة- أدنى منه كأبيض)، برغم أنهم من احتواهم قصره لخدمته وانتصاب أبهته، وذلك في مقابل حالة الصخب والاحتفال والهرج والمرج التي امتلًا بها أيضًا هذا الشق المديني من السرد. هذا التعدد وتلك التراكبية المكانية تشي بوجه من أوجه وشخصيات مدينة نيويورك وساكنيها، في مقابل وجه آخر أو طبقة أخرى تمثلها منطقة المصانع والمناجم والتي كساها وأوجه من فيها الزيت والسواد والظلمة، وقد تموضعت كمنطقة وسيطة بين حيزين:
الأول: هو حيز القصور والألوان والاحتفالات والاتساع المكاني والزخم اللوني الذي وجدت به منازل وحيوات الشخصيات الرئيسية في السرد.
الثاني: مدينة نيويورك التي ينتم إليها هؤلاء ولكنهم لا يخالطونها إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك (والحاجة هاهنا تتضمن لقاء العشيقة مثلًا، أو/و مواجهة الحقيقة في علاقات بعضهم ببعض، كما هو في مشهد “العقدة” في الفندق حيث كانت المواجهة والبؤرة في العلاقات).
ثلاثية الطبقات تلك لمدينة نيويورك في السرد، لا نمر بها دون أن نتذكر مقولة لإدوارد سعيد عن نيويورك، بأنه أحبها لأنها كالحرباء تتلون وتتغير، هذا التلون تصفه بشكل تناصي “جوردان” (إليزابيث ديبيكي) عندما تتحدث عن الحفلات الصاخبة التي كان يقيمها “جيه غاتسبي” (ليوناردو ديكابريو)، بأنها “أكثر حميمية” من الحفلات الصغيرة التي لا تدع مجالًا للخصوصية، وهذه الفكرة انعكست تمامًا في مشهد الشبابيك والنوافذ من الشقة التي يستخدمها “بيوكانون” للقاء عشيقته “ميرتل” (إسلا فيشر) زوجة الميكانيكي عامل محطة الوقود “ويلسون” (جاسون كلارك)، فكل نافذة نظر إليها “نك” تحكي حكاية حميمية ما في هذه المدينة دونما أن تتدخل –بشكل مباشر على الأقل- فيها نيويورك/المدينة، إنما حوتهم جميعًا، كحفلات “جيه” الصاخبة بكل علاقاتها المتشابكة، والتي لا يتدخل بها بشكل مباشر(بل ويكاد المدعوون ألا يعرفوا من هو حقًا “جيه غاتسبي”، ولكنها جميعا مرت وتمر تحت عينيه، تمامًا كفكرة المدن التي تجمع البشر، ولكنها تفقدهم ترابطهم المباشر، فيما بينهم، بمنتهى السادية وبمنتهى الغفلة منهم، الغفلة التي نراها في وجه كل ساكن مديني، وكل محتفل في قصر “غاتسبي”.
وعن تلك العلاقة بين المدينة (كنموذج حداثي) والإنسان (كمُنتِج ومُنتَج حداثي) يقدم جورج سيمل إضاءات مميزة في مقالته “المدينة والحياة الفكرية” المنشورة عام 1911، يمكن أن نستشرف تمثلاتها في الفيلم، إذ قدم توقعاته عن “كيف يمكن أن نستجيب ونهضم، نفسيًا وفكريًا التنوع المدهش للتجارب و المؤثرات التي تعرضها الحياة الحديثة علينا. فلقد تحررنا، من جهة، من قيود التبعية الذاتية، وتوفر لنا بالتالي قدرًا أعلى من الحرية الفردية. لكن هذا لم ينجز إلا من خلال النظر إلى الآخرين بمفردات كمية وإجرائية. ولم يكن لنا من خيار آخر غير النظر إلى الآخرين “الذين لا وجوه لهم” عبر الحسابات الباردة والجافة للتبادل الحتمي للأموال، والتي كان في وسعها أت تنتج تراكمًا مطردًا لتقسيم اجتماعي للعمل. وخضعنا أيضًا لتنظيم جاف لإحساسنا بالزمان و المكان، واستسلمنا لطغيان عقلانية اقتصادية حسابية”. وهو ما أمكن رؤيته جليًا في التقسيم الحاد لتعددات نيويورك في الفيلم ضمن علاقات الإنتاج، وانعكس على أوجه المحتفلين في قصورها الفارهة؛ فقد “جلب التوسع السريع للمدينة ما أسماه سيمل الموقف الضجر (Blase’ attitude)” وهو ما عكسته “جوردان” في أغلب ظورها، و”ديزي” كذلك. ويذهب سيمل إلى أن محصلتنا الوحيدة “هي نشوء فردية زائفة من خلال الركض خلف الموقع والأسلوب وعلامات الاختلاف الفردي. باتت الأزياء على سبيل المثال تجمع جاذبية الاختلاف والتغيير إلى جاذبية المضاهاة والتجانس” (ولعل دور ملابس “غاتسبي” يوضح وبشدة الحمل الممهور بهذا المعنى السيميائي للملابس). “وبمقدار ازدياد توتر حقبة ما، تتعاظم درجة تغيير أزيائها، لأن جاذبية الاختلاف، وهي من بين الأهم في تصميم الأزياء، تسير جنبًا إلى جنب مع ذبول الطاقات العصبية”.
نيويورك تلك “الحرباء” الصاخبة هي المنتصرة في كل تلك المواجهات مع الشخصيات وتلك الإنكسارات التي حوتها، فكما أن “غاتسبي” بمجرد توقفه عن الحياة الصاخبة، هاجمته نيويورك وبات حديث أهلها ولغطهم وتعديهم على خصوصيته، وحريته الفردية التي خال أنها منحة من نيويورك –كما ظن ويظن غيره- تلك التي تباهى بأنه دافع عنها –وعما مثلته الولايات المتحدة وحداثتها- في الحرب، بل وخدم مفوضها العام –ونعني نيويورك- (وهنا أهمية مشهد شرطي المرور الذي لاحقه لتجاوزه السرعة المحددة في الشارع، ولكنه سرعان ما تغاضى عن تلك الجناية في الحق العام، بمجرد أن علم من “هو”!). فنيويورك المدينة، كمنتج حداثي، حذت حذو الحداثة؛ يقول ديفيد هارفي في كتابه “حالة مابعد الحداثة”: “حاولت الحداثية، في أحسن الأحوال، مواجهة الصراعات، لكنها حاولت، في أسوئها الهرب منها أو استغلالها (مثلما فعلت الولايات المتحدة في استثمارها الفن الحديث بعد 1945) لمصالح نفعية أو سياسية. والحداثية في النهاية تختلف بحسب الموقع والزمان الذي تكون في أو تضع نفسك فيه”، وليس أدلّ من ذلك من وجود “رئيس عصابة”، و”مدير بنك” و”مفوض عام” و”مضارب بالأسهم” في نفس الحيز المديني وهو منزل “غاتسبي” محتفلين بحميمية دونما تضارب وجودي/مصلحي بينهم.
ثانيًا: الألوهة:
بعيدا عن قراءة الروائية الإيرانية آذر نفيسي المتحيزة، لغاتسبي – الرواية، وكم التحيز الذي أسقطته عليه لتدعم سرد روايتها هي “أن تقرأ لوليتا في طهران”، يمكن تتبع خيطين أساسيين في السرد السينمائي للفيلم، لا تخلو منه الرواية، وهما خطين متضادين في ظاهرهما متقاطعين: مركزية الإله وموته معًا.
لا ينج المتلقي من رؤية انعكاس ما بين “غاتسبي” (ديكابريو) ولوحة العينيان الرزقاوان اللتان راقبتا كل السرد و المدينة، وتمر من تحتها/خلالها كل شخصيات الفيلم الرئيسية، حتى أن “ديزي” (اديلايد كليمنز)، قالت بذلك مباشرة، مشيرة إلى هدوء ما يجمع بين غاتسبي وصاحب تلك العينان، في لحظة شد ومواجهة. ذلك التماهي الذي يصفه “نك” (توبي ماغواير) متحدثًا عن العينين وكأنها تقول : “أنا أراكم جميعًا”، هكذا كان “غاتسبي” يرى “ديزي” وحياتها وزواجها من “توم بيوكانون” (جويل إدغرتون)، وكيف أنه اشترى منزله بالقرب منها، وكان يدعو “كل سكان نيويورك” لاحتفالات منزله الباذخة لأجل أن يلفت نظرها فقط، بل وأنه كان على علم بعلاقة القرابة بين “نك” و”ديزي” وصداقة “نك” و”ديزي” و”جوردان”.
تلك السلطة و السطوة والقدرة التي تمثلت في غاتسبي، يمكننا أن نضيف إليها إرثًا من “الوحدة “، فتحمل “غاتسبي” لخطايا البشر جميعًا، بين خيانة “ديزي” له واستهتارها به وبمعاناته وبكل مافعل من أجلها، بل وحتى تحمله هو لعبء جريمة الدهس التي قامت بها هي، دافعًا ثمنًا لذلك حياته، جراء إتهام “توم بيوكانون” (جويل إدغرتون) له بقتل”ميرتل” (إسلا فيشر) زوجة الميكانيكي عامل محطة الوقود “ويلسون” (جاسون كلارك)، بعد أن أوهم زوجها أن “غاتسبي” عشيقها، في حين أنه هو كان كذلك، كل تلك الأوزار، هي مادفعت “نك” (توبي ماغزاير) لوصف غاتسبي بأنه تحمل كل أوزار هؤلاء، بطيبة؛ كل تلك الأحمال، مجتمعة تجعل من “غاتسبي” إلها “يرانا جميعًا” وبه من الكمال، مايعجز عنه البشر.
وإذا كانت منظومة الحداثة –التي ينتمي إليها الفيلم- قد قامت على بقايا فكرة الإله/الإله، باعثة الحياة في فكرة الإله/الإنسان، فقد كان لمشهد المواجهة في الفندق زخمه التأويلي:
- ندية البشر للإله، ما انعكس جليًا في المواجهة بين “توم” و”غاتسبي”، ومامثلته من السؤال البشري العتيد : “ماذا يفعل الله؟” أو/و “كيف يفعل ما يفعل؟” “لم هو وحيد هكذا؟”.
- تعود بنا عبارة “ديزي” التي قالتها ل”غاتسبي” : “أنت تريد الكثير، ياجيه!!” إلى الفكرة الطاغية في الفنون السردية (سينما، رواية، قصة قصيرة، مسرح…وغيرهم) بأن مايريده الله/الكاتب/الراوي “كثير” من شخوصه، وخلقه، أوليس هو من خلق الشر والفساد والشيطان في هذه الدنيا؟، هنا اتهام “توم بيوكانون” ل”غاتسبي” بأنه جمع ثروته من تجارة الخمور والعمل مع العصابات، يذكرنا بتيارات اللادين التي تنتقد فكرة الثيولوجيا الدينية التوحيدية بأن الله/الإله هو من خلق الشر في الدنيا، ولولا الشيطان لما كان للإله/الله قيمته، وبالتالي فهو الله/الإله/غاتسبي بحاجة للفساد و الخمور وغير ذلك.
- لم يفقد الإله/غاتسبي ثقته في البشر، فهو لم يكن كراهية ل”توم”، بل أنه دفع حياته ثمنًا لخطيئة الأخير، وخيانته لزوجته مع زوجة الميكانيكي، وتحمل كذلك ثمن جريمة دهس “ديزي” لزوجة الميكانيكي، والتي لم يفقد الأمل طوال الأحداث بعودتها إليه، وهي التي تجاهلت موته.
- في خضم تلك المواجهة التي جسدها ذلك المشهد وما ترمز إليه من معضلة/عقدة بين الإله والإنسان، ينسى الأخير لما جاء ومتى، يقول “نك” في آخر ذلك المشهد: “نسيت… اليوم عيد ميلادي”!!
ينتهي الزمن/السرد بموت الإله/غاتسبي؛ يقول “نك” : “في تلك الليلة، صرح لي أخيرًا بالحقيقة”، وفي تلك الليلة أيضًا يموت غاتسبي الإله، فينتهي السرد، أوليست فكرة “آخر الأزمان” و”يوم القيامة” قائمة على موعد الإجابة عن كل تلك الأسئلة العالقة: “ماذا يفعل الله؟” “أتراه وحيدًا؟” “ماذا يريد الله/الإله منا؟” “أوليس مايريده منّا كثير؟” “ماهي الحقيقة؟”.