أين نحن من “الزمن الموازي”؟/ عامر حليحل
هل سننهض جميعًا ونتكاتف بخطوات فعليّة ترفض بشدّة ما يحدث، حتى لو وصل الأمر إلى إرجاع كلّ فتات الميزانيّات الذي تعطيه الوزارة لنا، رافضين ككتلة واحدة ومن دون استثناء أن نتعاون مع ما يحدث أو أن نتحايل عليه؟
>
|عامر حليحل|
في منتصف عام 2013 كنتُ أعمل مستشارًا فنيًا في مسرح “الميدان”، عندما اجتمعت بالمخرج بشّار مرقص وتناقشنا العمل القادم (في حينه) لمسرح الميدان، والذي يتمحور حول الأسرى السياسيّين، ووضعهم في السجون الإسرائيليّة. قلت حينها لبشّار: “ماذا مع وليد دقة؟ لديه مادّة جدًا مثيرة عن تجربته في السجن”، فقال بشار إنّه سيبدأ بحثه في كتابة العمل من هناك، وهذا ما حدث؛ انغمس بشار في البحث والقراءة واللقاءات مع أسرى سابقين ومع محامين وتوصّل في نهاية المطاف إلى أنّه سيكتب مسرحيّة تستند إلى قصّة وليد دقة وزملائه في العنبر (غرفة رقم 4)، لكنها لن تحكي قصتهم الواقعيّة بل ستكون من وحي قصصهم، وذلك كي يعطي مساحة للتعبير الفني أكثر من التعبير الوثائقي في العمل. ومع قراءة أوّل صيغة للنصّ أدركنا أنّنا أمام عمل إنسانيّ عميق بامتياز، يبتعد عن سطحيّة السياسة العاديّة، ولا يدخل في عموميّات وكليشهات سئِمنا طرح قضايانا من خلالها.
وبالمحصّلة، خرج الطاقم الفني للمسرحية بعملٍ فريد، شُهِد له، يحترم المشاهد كما يحترم الأسير الإنسان قبل كلّ شيءٍ؛ يغوص في عمق القضيّة وليس في دعائيّتها وسطحيّتها؛ يفرض التأمّل بالحالات الذهنيّة والعاطفيّة والفكريّة لشخصيّات المسرحيّة، وليس الانشغال بما إذا كانوا على حقّ أم لم يكونوا، أم أنّهم رموز أم مخطئون، لأنّ السؤال الإنسانيّ أكبر من السياسيّ، ولأنّ المسرح الإنسانيّ يؤثر أكثر من السياسيّ، ولأنّه يقضّ مضاجع المعتدي الحقيقيّ أكثر من مسرحيّة تمجّد الأسير سياسيًا وتمحو معالمه كإنسان؛ لأنّ التمجيد في الفنّ يفعل فعل التحقير: يمحو الإنسان.
وها هي السلطة من كلّ جانب تحارب “الزمن الموازي” منذ مدّة، إن كان عن طريق بلديّة حيفا وتجميدها للدعم الذي تقدّمه للمسرح، أو عن طريق وزير معارف دولة إسرائيل، نفتالي بينت، الذي أعلن وبخطوة فرديّة، فاشيّة أقلّ ما يُقال عنها، عن إخراج مسرحية “الزمن الموازي” من السلّة الثقافية. لماذا تتصرّف السلطة بهذا النحو؟ لأنها تخاف من الفنّ الحقيقيّ، لأنّها تخاف من التعبير الصادق ولأنها تخاف من مواجهة نفسها كسلطة قامعة محتلّة.
لكن لن أناقش “بينت” في هذا المقال، لأنّ النقاش معه لن يُجدي، ولن أحاول إثبات فاشيّة وعنصريّة الآلة الإسرائيليّة، لأنها تثبت نفسها بنفسها. ما أودّ الحديث عنه هنا هو دورنا نحن اتجاه هذه القضية؛ القضية التي تعدّت “الزمن الموازي” ومسرح “الميدان”. فالأمر يمتدّ بدءًا بشروط الدعم السينمائيّ الجديدة التي وقّعت عليها ليمور ليفنات قبل رحيلها من الوزارة، وتصريحات ميري ريغيف بعدم دعم أيّ جهة أو شخص “يسيء” إلى صورة إسرائيل، عبورًا بتهديد مسرح “مينا” في يافا الذي أسّسه نورمان عيسى بسحب الدعم إذا أصرّ نورمان على رفضه العرض في المستوطنات، وانتهاءً “بالزمن الموازي”. هذا يثبت أنّ هناك خطة ممنهجة، فماذا نحن فاعلون إذًا؟
هل سنكتفي ببيانات شجب واستنكار كالسابق؟ هل سندير مفاوضات مغلقة كي “نضبضب” الطابق؟ هل سنكتب مقالات أكثر (كهذا الذي بين أيديكم)؟ هل سنشتم ونلعن ونغضب ثم نهدأ وننسى ويمرّ الأمر مرّ الكرام، ونجد أنفسنا أمام قرار آخر بعد بضعة أشهر يؤذي حريتنا؟
أم أنّنا سننهض جميعًا مؤسّساتٍ وأفرادًا ونتكاتف ونقوم بخطوات فعليّة ترفض بشدّة ما يحدث، حتى لو وصل الأمر بنا إلى إرجاع كلّ فتات الميزانيّات الذي تعطيه الوزارة لنا، رافضين لمرة واحدة ككتلة واحدة ومن دون استثناء أن نتعاون مع ما يحدث أو أن نتحايل عليه؟ سيقول البعض: هم سيفرحون بإرجاع الميزانيّات ولن يهزّهم الأمر. حتى إذا كان الأمر صحيحًا، فليكن؛ على الأقل سنحفظ ماء وجهنا ولن نصبح كالأيتام على موائد اللئام. فلتتجمّد الحركة الفنيّة إذا كان شرط تحرّكها السكوت والخنوع. لا نريد مسرحًا مكسورَ الرقبة أو كسيحًا، لأنّ مسرحًا كهذا لا يُعوّل عليه (لا أقصد “الميدان” بل المسرح كحالة عامّة). نريد مسرحًا نموذجًا في الحرية. لدينا القوة بالتأثير على الشارع، شارعنا، وهو الأهمّ، لأنّ من يعرف تفاصيل الانتاجات الفنيّة في البلد يستطيع أن يؤكّد أنّ معظم ما ننتجه من مسرح وفنّ لا يتلقّى دعم الوزارة، بل هي إنتاجات مدعومة خارجيًّا أو إنتاجات شخصيّة لا يدعمها أحد. لذا، يجب ألّا تخيفنا تهديداتهم، بل علينا أن نحاربها ونحاربهم ونرفض أيّ تهاون اتجاه القضية، لأنّ ما يحقّ لمسرح الكاميري -أن ينتج مسرحية عائد إلى حيفا لغسان كنفاني الذي تعتبره اسرائيل مخرّباً وقامت بنفسها باغتياله- يحقّ لنا في مسرح الميدان، ليس من باب المنّة، وإنّما من باب أننا دافعو ضرائب ولنا الحقّ باسترجاعها وبتلقّي جميع الخدمات، حتى لو لم يعجب الحكومة كلها ما نطرحه في مسارحنا.
أعرف أنّ البعض يهزّون رؤوسهم ويقولون إنّ هذا الكلام جميل لكنه غير قابل للتنفيذ، ولن يتكاتف أهل الفن من أجل تحقيقه. معقول؛ لكن إذا لم يتكاتف أهل الفن من أجل ذلك، فلن يستطيعوا بعد الآن أن يستنجدوا بالجماهير ليتضامنوا معهم، لن يكون لنا أيّ مصداقيّة أمام جمهورنا، لن نستطيع البكاء على أعتابهم طالبين منهم الدعم، وليذهب المشروع الفنيّ الثقافيّ في وطننا إلى الجحيم، إذ لن تكون لنا حاجة بعد اليوم. فما حاجة الناس لنا إذا لم نعبّر عنهم وعن همومهم؟
كلمة أخيرة موجّهة الى أعضاء القائمة المشتركة: من أجل هذا انتُخبتم سادتي الأعزاء، تفضلوا، شمّروا عن سواعدكم واحموا حرية التعبير. إنّ الوقوف في مظاهرة ضد هدم بيت لا يعوّل عليه إن لم تقفوا في مظاهرة من أجل مسرحيّة أو فيلم، لأنّ الفن واجهة الشعوب، ولا معنى لتحصيل رخصة بناء بيت إذا كان سكّان هذا البيت ممنوعين من التعبير عن أنفسهم ثقافيًّا وفنيًّا واجتماعيًّا. نريدكم في مقدّمة هذه المعركة. حان الوقت لأن تثبتوا أنكم أهل للثقة التي أعطاكم اياها معظم فناني ومُبدعي ومثقّفي هذا البلد.
(الكاتب فنّان مسرحي)