صور لا تموت: منذر جوابرة عن الذكرى 67 للنكبة
أمّا الآن وقد يقف وحيدًا على الحواف المميتة، لا أرض يرتطم بها، ولا نهر ماء يأخذه للبحر.. كلّ ما هناك طيران في الفراغ
صور لا تموت: منذر جوابرة عن الذكرى 67 للنكبة
.
|منذر جوابرة|
لا تخلو صورة الفلسطيني من بعدها المرتبط بالاحتلال، ولا تخلو صورة خارجة من مبدعها إلا عادت وارتبطت وقورنت بما توفره من فكرة أو حلم يعيد للأرض مكانتها في شكل يطّيع الواقع لصالحه.
الصورة الإنسانية مفعمة بالسياسة أولاً، وبما تخلقه من تحديات ضدّ هذه الظروف ثانيًا.
قصة قصيرة:
قطار يقطع مسافة ما بين مدينتي الدار البيضاء وطنجة المغربية، مسافة كان يرتب صاحبها لنفسه الفرح والسعادة، أن يطير بحرية شبه مطلقة، وباختيار كلي، وأن يكون الوقت لأفكار جديدة يلملها من الطرقات والشبابيك، فلا شيء سيثير اشمئزازه في هذا اليوم، كجارٍ يدقّ باب بيته صباحاً، ولا مشواراً يمرّ بالحواجز والحدود، وليس بحاجةٍ لبطاقة (الهويّة) الخضراء البشعة أمام الطبيعة.
هذه المشاهد وعد نفسه بها، ليكتشف علاقته بالأماكن والناس.
وقت مستقطع:
في المحطة التالية بدأ القطار بعجقة الركاب، وكثرة الضوضاء التي ستقطع من دون شكّ بعضًا من أفكاره، وفي صدفة ربما سيّئة جلس على الكرسيّ الذي أمام ثلاثة أطفال، يتلصّصون بابتساماتهم وهمسهم نحوه، فيضحكون تارةً ويختفون تارةً أخرى؛ لم يكن هذا الشخص بمزاج يسمح له بهذه اللعبة، فقد وضعوه في غير محله، وبلحظات قليلة جداً أعادوا له فكرة فلسطين والعائلة، الولدين الشقييْن اللذيْن ما أن يهرب منهما حتى يشتاقهما مرة أخرى.
مقارنة:
فلسطين من الخارج، ليست نفسها من الداخل، في الخارج يكون مشبعاً بوجوده وغير متلوثاً بأفكار الزحام اليومي والتفاصيل المُملة، يكون خارج مقارنات لعبة الفساد والسلطة والدين، المجتمع والهزيمة والانتصار، السذاجة والكسل واللامبالاة، آنذاك تُقنّن كلّ العيوب التي قد تضجّ به فجأة كالهزائم غير المتوقعة، فيعود لجسده باحثاً عن التوحّد مع الروح، فيستذكر فلسطين الفكرة، والجميلة التي يراها في الحلم، فيسأل نفسه عمّن يشبهه، كفلسطينيّ مغربيّ، أو لبنانيّ أو سوريّ… تؤلمه حلول المقارنات، وشعور الانفصال عن المكان بين الداخل والخارج، بين تغيير الأحاسيس في الانتماء المفصّل أو المطلق، يبدو متعبًا في حمل هذا الوطن أينما ذهب، ويستدرك عناوين الروايات الكبيرة والصغيرة، ابتداءً بالبؤساء وانتهاءً برام الله الشقراء، ويستشعر بخواء مدنه الحديثة، ومؤخراتها المنتفخة التي تفخّخ أفكاره بالغضب والعنف أكثر كلما سار في اتجاه أو التقى بشخص جديد.
يضجّ بالأفكار الثورية والحالمة عن بلدٍ يسير في مركبٍ آخر، يقوده شخص لا يفهم لغته، يفكر مليّاً كيف يعيد الربان للمسار، وكيف يستلهم من إرثه مسلك الباخرة التي تصرخ في الفراغات البعيدة، لا هو يسمعهم ولا هم يسمعوه.
في الطرق الطويلة، يبحث عن شخص يعبئه بخطبه الصماء، وينفخه بالأيام الخوالي، حينما كان الحجر مدفعاً، وكان الشعب حياً، وكان الله يقف معهم، وأمّا الآن وقد يقف وحيداً على الحواف المميتة، لا أرض يرتطم بها، ولا نهر ماء يأخذه للبحر.. كل ما هنالك طيران في الفراغ.
أسئلة:
لم الفرح جماعيّ، بينما الألم فرديّ؟!
لم هذا الوجع الذي ينخر في الذاكرة بلا توقف، بينما النكات البسيطة تموت بعد لعق ضحكاتها؟!
لماذا حينما يقترب من السعادة تطير بعيداً على ارتفاع الغيم، في حين أنّ الحزن يغور به في سطوح الأرض العميقة؟! فجرحه ما يلبث أن يتّسع ليستقطب كلّ هموم الأرض وأمراضها.
الصور وحدها الباقية، مجرّدة من تفاصيل واقعها، وشوائب لحظاتها حتى حينما يحمل كاميراته لالتقاطها، ويبقى الأمل المدجج باللعنات والرعب الذي يزيد من شيب شعره، واللاحقون من المشاهدين والرواة، سينظروا لهذه الصور مؤلفين أكاذيبهم، ويسرقون وجع أصحابها.
(فنان فلسطينيّ)