الخطاب العقائدي كمكرهة ثقافية!/ مرزوق الحلبي
فجأة نُسيت كل الشعوب وكل الحديث عن الشعوب وحقوقها وبقي المديح للأنظمة والسفاحين والجلادين، فاتضح أنّ الشاعر عندنا إنما قصد أن يكون جنرالا والمفكّر رئيسا لشعبة الاستخبارات والمحترف في الحزب إنما تدرّب أصلا على حماية الطاغية!
>
|مرزوق الحلبي|
التحولات في الحيز الشرق أوسطي أحدثت انهيارات كاملة أو شبه كاملة في جُملة من المباني السياسية والذهنية والأنماط والعقائد والإيديولوجيات. ولا تزال ترددّات هذه الانكسارات تنعكس علينا هنا مواقف غريبة عجيبة وإرهاصات كشفت هشاشة كل منظومتنا الثقافية في أشكالها السياسية والقِيَمية. كأنه عندما تداعت الركائز أو الثوابت المتقادمة اختلّ توازن الجماعة ومادت بها الأرض فاختلطت الموجودات ببعضها كما لم تختلط من قبل. وبدت لي مصطلحات وتراكيب لغوية شكّلت أسس معاييرنا وأحكامنا مثل “الوطني” و”العروبي” و”التحرري” و”الثوري” و”حق الشعوب” و”الدولة” و”الشعب” و”الانتصار” و”الممانعة” و”الصمود”، وما جامع بينها، إلى كومة من الخردة لم تعد نافعة. إمّا من كثرة استعمالها حدّ بلاء مركّباتها أو أنها تكسّرت وتهشمت من هول الصدمة والارتجاجات الهائلة.
التحوّلات من تونس في المغرب العربي إلى العراق في مشرقه، ولا تزال في حالة سيولة، وكانت من السُرعة بحيث أربكت القارئ تماما خاصة ذاك القارئ المأسور بعقيدته وإيديولوجيته ويقينه. فقد ألفى نفسه أمام وقائع غريبة أو صادمة قوّضت كل ما عرفه من قبل. والأصعب أنه نسي تاريخ المنطقة كلها وسجلات الأنظمة القمعية وكل حديث تحرر الشعوب وحقوقها وانبرى ينتقل من أصولية شيعية إلى أصولية سنية إلى عروبية دموية إلى طاغية إلى مديح السلاطين أو الترحّم على الطُغاة. فكيف يحصل مثلا أن يؤيّد شيوعي محترف في حيفا نظام آل الأسد ومجازره وتدميره البلد بدعوى أنه “يُقاوم”؟ أو كيف يؤيّد هو نفسه حزبا كحزب الله الذي خطف لبنان وارتهنه لولاية الفقيه ومشرع هيمنته؟ وكيف حصل أن التقي مع القوميين أو معظمهم في هذا بالذات؟ وكيف تورّط إسلاميون هنا في دعم داعش أو غيرها من حركات عدمية تكفيرية أو مشروع الخلافة بوصفه الأفق المفتوح؟ كيف أمكن للبعض عن يُدافعوا عن الإسلام السياسي والمنافحة عما صنعه من عُنف وتدمير قبل التحولات وبعدها؟ كيف حصل أن يتحدث البعض عن “مقاومة” لبنانية كانت أداة لقمع اللبنانيين ثم صارت شريكا فعّالا في قمع السوريين؟ أو عن “محور ممانعة” يضع مواطنيه تحت بساطير العسكر ونظام الدولة الأمنية والفقر وسيف التصفية أو النفي؟ كيف يُمكن أن يُصبح الوطنيون عدميين تماما ويمينيين حتى النُخاع بالدفاع عن كل شيء فلسطيني حتى عن التدمير الذاتي كما فعلته حماس وقبلها فتح؟
كيف نسي الجميع فجأة ـ بفعل الصدمة ربما! ـ تاريخ كل الأنظمة العربية وموبقاتها قبل 2011 بعقود والدولة الكُلّيانية التي أقامتها وجعلت من المباحث وأقبية التعذيب والمراقبة عمادها؟ كيف حصل أن انزلقت الأيديولوجيا بكل هؤلاء إلى فخّ العبثية ومنها إلى التورّط بمواقف مناهضة لحقوق الشعوب ودولة المواطنين ومفاهيم الاجتماع (العقد الاجتماعي) والوطن المشترك والشرعية والثورة. كلها مفاهيم تمّ التفريط بها في ارتباك العقائد واشتباك خيوطها. فجأة تم نسيان كل الشعوب وكل الحديث عن الشعوب وحقوقها وبقي المديح للأنظمة والسفاحين والجلادين! فاتضح إن الشاعر عندنا إنما قصد أن يكون جنرالا وأن المفكّر قصد أن يكون رئيسا لشعبة الاستخبارات وأن المحترف في الحزب إنما تدرّب أصلا على حماية الطاغية!!
حصل ذلك في رأينا بقوة العديد من العوامل التي اجتمعت. منها، إن هذه المصطلحات/المفاهيم كانت تقادمت قبل 2011 واعتلاها صدأ أو تآكل خاصة بعد أن زلزلت الأرض تحت النظام السوفييتي وتحت مراكز العروبة/القومية العربية. منهجان سارت عليه حركات وأحزاب عربية من المحيط إلى الخليج وفلسطين التاريخية. بمعنى، انسداد عربي عام تجسّد في مشاريع كل التيارات والعقائد بما فيها الإسلامية. ومنها، انسداد المشروع السياسي الفلسطيني (بصرف النظر عن أسباب ذلك الآن) وحصول الانقسام بين غزة والضفة وغياب الدليل. ومنها، إن التحولات العربية أحدثت انهيارا كاملا في المراكز التي كان الفلسطينيون هنا يراهنون عليها. فقد كشفت الوقائع على الأرض أن ما من مركز فكري عقيدي أو سياسي منها يضمن الحد الأدنى مما نطالب به المؤسسةَ الإسرائيلية. لا الأمن ولا الغذاء ولا المواطنة ولا الحريات ولا كرامة الإنسان. فقد دلّ التبدّل السريع للأنظمة والمذاهب وممارساتها في مواقع الضعف والقوة على السواء ـ وهي لم تستقرّ بعد ـ على أنها لا تملك مشروعا لدولة ولا لأمّة ولا لشعب ولا لمجتمع. ومنها، اتضاح حقيقة أن الدولة العربية الوطنية لم تفلح في اختبار الجَّتْمَعة وبناء الأمة لنكتشف من جديد القبيلة والعشيرة والإثنية والعرق والطائفة والمذهب في أبشع تجلياتها ودمويتها، لأن عملية البناء كانت كذبة كبيرة وعلى أسس من الرمال المتحركة. ومنها، الاقتدار الذي حققته دول الريع النفطية في احتواء أزماتها وإدارة دفة أمورها وتلافي الانهيار خلافا لدول “ممانعة” أو “صامدة” أو لها من الرصيد ما لها ـ مثل مصر.
في المجمل شهدنا ارتطاما صاخبا “للهويات” العقائدية بأرض الواقع واتضاح عطبها حتى العظم مع التحولات الكُبرى الحاصلة. وهو ما جعل أصحابها يتيهون بين ما بقي من آثار لهذه العقائد يتمسكون بتلافيفها لعلهم يستطيعون العوم فوق سطح الأحداث. وفي هذا البحث عن منجى من الغرق حصلت خصومات غريبة وتوافقات أغرب. حالة من الهلع العقائدي التي جعلت من البعض يدوس البعض أو يقفز من عقيدة إلى نقيضها. يرمي الذين يقفزون عنهم أحمالا عقيدية أو يتخذون لهم غيرها في مشهد جعلهم عُرضة للسخرية. السُخرية المرة من كل هذه الأطنان من الكلام والسجال العقيم بين ما اندثر من عقائد وبين ما بقي من تبجّح أصحابها. كأنها كومة من الخردة صار لزاما إيجاد “عدّة فكرية” “وحقائب عمل” بديلة عنها. وريثما يحصل، ستضمر الهوية “الثورية” و”الممانعة” وتتراجع من تخوم القِيَم الإنسانية والحريات وحقوق الشعوب والفئات المسحوقة إلى مجرّد دفاع عن أنظمة هيمنة أو سفاحين أو “مناهضة” إسرائيل وأمريكا والسعودية (وربّما قطر) على كأس في شارع بن غوريون أو فنجان “زْهورات” في مقهى يافاوي. أو قد تضيق مساحتها إلى مجرّد مناكفة الخصم السياسي بسجال ضدّي. فإذا كان الخصم “أ” مع نظام الأسد الدمويّ فإن الخصم “ب” سيكون مع أعدائه. والأصحّ أن نقولها بالعكس، وفق ما حصل للحزب الشيوعي والتجمّع!
باختصار، لم يبقَ شيء ممّا كان من عقائد أو ثوابت، لا عربيا ولا فلسطينيا ولا محليا. كل ما كان صار مكرهة خطابية وخطرا على البيئة الثقافية. ولا أوصي الجيل الرابع للنكبة بالاشتغال به بل بالاشتغال على إنتاج البدائل ويفضّل، على أساس الخلق الإبداع لا من خلال النقل “القصّ والتلزيق” والاتّباع!