مُلاحظات في المشاركة والمقاطعة والأخلاق والسياسة/ ياسمين ظاهر
لكلا المُعسكريّن مجموعة ادعاءات منطقيّة تترتب على أسس تنظر إلى العلاقة مع المحتل كعلاقة سياسية ”ثابتة“. وينجلي هذا في الطريقة التي يفهم فيها المقاطعون والمشاركون لبّ ادعاءاتهم وفحواها
.
|ياسمين ظاهر|
كلُ انتخابات جديدة للبرلمان الإسرائيليّ تحمل معها بذور إحياء النقاش القديم-الجديد حول المشاركة فيها كمواطنين فلسطينيين، أم مقاطعتها. ورغم أنّ المُعسكرين (المقاطعين والمشاركين) يضمان العديد من الأصوات المُتباينة والبيّنات المتعدّدة لتبرير المشاركة من عدمها، لكنني لأغراض هذه المقالة، سأترك جانباً النقاشات الداخليّة داخل كلّ مُعسكر واختلاف وجهات النظر بين المجموعات التي تركبّه، من دون أن ننكر هذا التباين أو نلغيه. وقد يكون لخوض الانتخابات هذه المرة في قائمة عربية مشتركة تأثير على احتدام ”النقاش“ على جبهة المقاطعة-المشاركة بالذات؛ فقد جرت العادة أن تكون حمّى المعركة الانتخابية مشتعلة بين الأحزاب العربيّة المشاركة، فينشغل نشطاؤها في ابراز تميّزهم عن الآخرين، كما من الطبيعي أن يحدث، لجذب الاصوات باتجاههم. الآن يبدو، على الاقل للوهلة الاولى، ان الغريم السياسي يقع خارج المعسكر الذي توحّد وهو مُمثل بدعاة المقاطعة.
على عكس الانطباع السائد بين الطرفيْن، فثمّة الكثير من المشترك بين المُعسكرين، أكثر ممّا يودّان الاعتراف به؛ فمن وجهة نظر سياسية، يتعامل كلاهما مع المشاركة في الانتخابات كفعل له مردودات ثابتة، له المعنى ذاته، والتأثير والمدلولات على المدى القصير والبعيد ذاتها. فيرى معسكر المقاطعة أنّ المُشاركة تُشرِّع الصهيونيّة وتطيل بعمرها، أمّا الثاني فيرى أنه يصارع الصهيونيّة ويمنح الشرعيّة لمشروعه الوطنيّ، وفي أسوأ الأحوال يُحافظ على وجوده كأقليّة. في الحالتين لمعنى المُشاركة لدى المعسكرين صفات ثابتة وغير ديناميكيّة، وليست مردّ علاقة متبدلّة مع الواقع السياسي وتحركاته؛ فلا هذه الصهيونيّة تتغيّر ولا نحنُ نتغيّر. وما يؤكّد على ذلك أنّ أيًّا من الطرفين لا يعيد تقييم المشاركة في الانتخابات من عدمها، آخذًا بعين الاعتبار تاريخ هذه المشاركة، معانيها سابقاً ومعانيها الحاليّة، محوّلين بهذا الامتناع عن تداول هذا النقاش، الموقف من المُشاركة إلى ايديولوجيا لها اتباع ومؤمنون بمعزل عن السياق. هكذا مثلاً يُظهر معسكر المقاطعون عمى خاصًا بتغيّر ”نوع المشاركة“ ومضمونها وبرنامجها السياسيّ منذ خمسينات القرن إلى اليوم، ويتعامل معها كلها تحت عنوان ”المشاركة“ ومنح شرعيّة للمشروع الصهيونيّ. لا يهمّه مثلا أن نفسيّة المخترة وخطاب الاستجداء تحوّل إلى خطاب ليبرالي عن المساواة والحقوق ومنه إلى خطاب السكان الأصليين. وعلى ذات المنوال، فمعسكر المشاركين لا يُعير انتباهاً لكون شرعيّة مشروعه ليست معطى ثابتًا بل تتغيّر بتغيّر الأحوال السياسيّة، وأنّ قدرته على المناورة وعلاقته مع الشارع هي أيضاً معطيات متغيّرة، وأنّ عليه اعادة الحسابات هذه كل مرة من جديد.
ولا نحسب هنا ”المرونة“، التي تُبديها بعض قيادات الأحزاب او نشطائها حول سؤال المقاطعة وتناولها كإمكانيّة، أنها عمليّة تقييم حقيقيّة. لأنها في نهاية المطاف لا تخوض نقاشا حول الموضوع، ولا تُقيِّم أداة المشاركة كفعل سياسيّ مُتغيِّر. وأيضًا، بعض هذه الأصوات -القليلة- لا تفعل هذا لدواعٍ سياسيّة عمليّة بل تستعملها كتكتيك عادة للردّ على الطرف الثاني واحراز بعض النقاط احيانا، او تأجيل المعركة قليلا. فبدلا من تقييم الحالة فعلاً، ينحو بعض المصوّتين ونشطاء هذا المعسكر إلى الحديث عن المقاطعة كموقف جماهيري او مُشترك، وكما نعرف عندما تحضر مسؤوليّة ”الكل“، تحضر معها ايضا مسؤوليّة الـ ”لا أحد“. فموقفهم هذا لا يفعل سوى انه يؤكد ضرورة وجود اجماع للتحرّك وكأنّهم يقولون ”أوجدوا انتم هذا الاجماع ونحن سننضم لاحقاً“، ما يجعل الخطوة مستحيلة حتى قبل ان تبدأ. اضافة إلى انه ينكر امكانية صياغة اجماع جديد بالضبط عند الخروج عن الاجماع الاول، وليس بمجاراته.
لكلا المُعسكريّن مجموعة من الادعاءات المنطقيّة -لست بصدد التوسّع فيها ولا تهدف هذه المقالة للدفاع عن أيّ منها- وهذه الادعاءات كما المواقف من المشاركة، تترتب على أسس تنظر إلى العلاقة مع المحتل كعلاقة سياسية ”ثابتة“. وينجلي هذا في الطريقة التي يفهم فيها المقاطعون والمشاركون لبّ ادعاءاتهم وفحواها. وبودّي أن أركزّ هنا على كيف ينشطر النقاش بين الطرفين إلى ثنائيّة اخلاق وسياسة، نتيجته النهائيّة تدمير امكانيّة الفعل السياسي.
يدّعي البعض أنّ معسكر المقاطعين آخذ بالازدياد من انتخابات إلى أخرى. لا اعرف ان كان هذا انطباعًا مبنيًّا على حقائق واقعيّة، بمعنى انها قيست بشكل مادي وموضوعي، حول العلاقة الطردية بين الازدياد في معسكر والآخر. هناك حقيقة أسباب موضوعيّة لزيادة اعداد المقاطعين؛ فبينما يزداد عمر التشريد والاحتلال لا تُرى في الافق آمال كثيرة. ولأن السياسة، في فلسطين وفي العالم، تأزمت إلى درجة اصبح معناها ”الانتخابات“ فمن الطبيعي ان رفض المشاركة في الانتخابات يفهم وكأنه رفض للسياسة ككلّ، ورغبة بالتطّهر منها. كما ان مقولات مثل ”صدّ اليمين“ و”التصدي للعنصريّة“ تحوّلت إلى كليشيهات، إلى جانب التذبذب احيانا بين دورها في كشف اللعبة وبين كونها تلعب حقاً.
ولكن ما يمكن، برأيي، اجتثاثه بقراءة انطباع عام، هي ”ظاهرة“ خجل -إن صحّ التعبير- بعض النخب السياسيّة والثقافيّة، من التصويت، حتى وان اشتمّ انهم مثلا سيشاركون في يوم الانتخابات بالفعل. فهذه لم تعد تستميت دفاعًا عن الموقف، او تجاهر به، وتراها تبتعد عن نقاشات مع المقاطعين، سوى ضمن ”مزاح“ تحبّب، وفهم متبادل انه من الافضل عدم الدخول في هذا النقاش، وأن هذا ليس وقته. تبدو المشاركة كاقتراف ذنب، ويبدو عدم المشاركين كأنهم ”الأطهر“ في هذه المعادلة والأعلى صوتا. لماذا؟
الاخلاق في السياسة ظاهرة سياسيّة وليست أخلاقيّة غيبيّة. ليست عن الشرّ والخير في المطلق العام، بقدر ما هي أسئلة عنها في سياق حياتنا المشتركة كبشر ورؤيتنا للعالم من حولنا
يفترض المقاطعون والمصوتون على حدّ سواء، انه يمكن فهم اشكالية المُشاركة واشكالية المقاطعة بالارتكاز على ثنائية الاخلاق والسياسة، وكأنّ هناك موافقة ضمنيّة وتسليمًا بأنّ المقاطعين طُلاب أخلاق، لا يفقهون شيئا بالسياسة بينما يعتمد الشقّ الثاني، المُشارك، على رؤيّة سياسية وحنكة ويجيدون اللعبة، وأنّ السؤال الأخلاقي متروك لأرضيّة نزاع اخرى. الجدير بالملاحظة أنّ هذه التقسيمة بين المعسكريْن تحكم الادعاءات المطروحة بل وشكلها أيضًا، فلا يتوانى مثلا معسكر المقاطعة عن استعمال العاطفة والتلاعب بالمشاعر من جهة ومن ثم التوبيخ باستعمال ”الاخلاق الوطنيّة“ من جهة. ما يُفسر في لغتنا المحليّة بمقولة فضفاضة، تقول كل شيء ولا شيء، اسمها ”المزايدة“. ورُغم أنّ الاخيرة ليست حكرا على أحد فهي تُستدعى وتُستعمل من جميع الاطراف في كل انواع واشكال المناسبات. ولكن بسبب التقسيمة التي ذكرتها اعلاه، من اخلاق وسياسة بين المعسكريّن، اصبح وكأنه من العادي ان يدافع المصوتون عن انفسهم ”وطنياً“ باستجداء السياسة حينا والتذكير بأخلاقهم الوطنيّة في ”الايام العادية“ بعيدًا عن الانتخابات، أحياناً. فإمّا أن يردوا على ادعاءات ”التخوين“ وإمّا يقبلون على مضض بأنّ موقفهم سياسيٌ وليس أخلاقيًا.
تثير هذه التقسيمة العجب؛ فالمزاوجة بين الاخلاق والسياسة هو المطلوب حقيقة، ولكن على شرط ان يكون مفهوما أنّ هذا التزاوج هو فعل سياسيّ وليس أخلاقيًّا. بمعنى أنه يصدر عن خطوات سياسيّة عمليّة وليس عن نظرة أخلاقيّة مجردة. فالاخلاق في السياسة هي ظاهرة سياسيّة وليست أخلاقيّة غيبيّة. هي ليست عن الشرّ والخير في المطلق العام، مثلا، بقدر ما هي أسئلة عنها في سياق حياتنا المشتركة كبشر ورؤيتنا للعالم من حولنا والواقع الذي نحنُ بصدده. وعلى أيّ حال، استعمال الوطنيّة ضمن هذا الاجماع لا يمكنه ان يكون استدعاءً للأخلاق أو ”النقاء“ بتاتا؛ فكلّ ما هو مفهوم ضمناً ويحرّك الأفراد للفعل وكأنه طبيعة ثانية لهم، أي بشكل بديهيّ ومن دون تفكير، تزول عنه صفة الاخلاق. تزول عنه صفة الاخلاق لأنه يُستدعى بالضبط كي يُنهي النقاش، وليس كي يفتحه على مصراعيْه[1]. لا أخلاق فيما هو عاجز عن أن يكون هو نفسه تحت عدسة أيّ دراسة اخلاقيّة- باعتباره مقدّسًا أو فوق الجميع. مُجدّدًا، ضمن إطار النقاش بين المعسكرين، لا معنى لاستعمال الوطنيّة لأنّها لا تتصرّف كمبدأ أخلاقيّ، بقدر ما تمنع حقيقة صدور حكم أخلاقي لأنها تقف أمام ملكة التفكير. يكفينا أن ننظر حولنا ونرى كيف حوّلت الوطنيّة، عندما يتم التعامل معها كعادات وتقاليد مجتمع، آلاف البشر إلى مؤيّدي أنظمة ظلاميّة ودكتاتوريّة باسم “وطن” ما (أو وطنيّة). وهذا اكبر دليل على مرونتها وفراغها من الاخلاق. وكونها صفة مريحة واسمًا لقواعد تصرّف واحكام تنقض امكانيّة منحها صفة الاخلاق. وهذا هو بالضبط خطر هذه الكلمة وسحرها في آنٍ. إنّها تتحوّل إلى حالة للخلاص من الفعل السياسيّ وليس للاشتباك معه. فهي تحيطها بهالة من القدسيّة، لا تسمح للمتكلّم باسمها قول ما يريد وأصبع الاتهام تتجّه نحو الخارج عن الإجماع لاتهامه بالخيانة، وبهذا المعنى لا تُشجع على التفكير النقديّ ولا غيره. ولهذا فلديها، من وجهة نظر سياسيّة، تأثيرات تدميريّة وطغيانيّة والامثلة كثيرة من حولنا.
يحتاج المعسكران إلى التفكير بالاخلاق ضمن خطوات سياسيّة، فلا يسارعان إلى المشاركة في ”اللعبة“ من دون التفكير بها مليًّا وكلّ يوم من جديد، ولا يقفون بعيدا ”للتطهّر“ باسم اخلاقيّة لا يُمكن محاججتها لأنّها فوق البشر ولا تتعامل مع سياقهم بكلّ تعقيداته.
[1] ومجددا اذكر انها استراتيجيّة تلعبها الاحزاب ايضا وليس فقط معسكر المقاطعين