موريس لوقا: شعبي «الكترونيك»! / يزن الأشقر
«بنحيي البغبغان» عمل فني ناضج ذو هيكل تطوّري من مؤلِّف موسيقي يعي ما يفعل جيداً، وبالتأكيد من أفضل ما أنتج عربيّاً في السنوات الأخيرة.
| يزن الأشقر |
عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى الإلكترونية العربية المعاصرة، ليس هناك رأي واضح في ما يخصّ السمات التي يمكنها تعريف الأنماط الموجودة، وخصوصاً تلك التي تميل أكثر إلى التجريب. لقد صار مفهوم التجريب مبهماً مع وضع «الأداء» الموسيقي في عين الاعتبار بوصفه «عملاً فنياً» بخلاف «عمل موسيقي». نرى توضيب مكان العرض بصورة متشابهة مع خلفية لعرض فيديو تجريبي، في محاولة لـ «استكشاف» أبعاد أخرى في الموسيقى.
بعيداً من هذا الكابوس الما بعد ـــ حداثي، من الممكن الجدال بأنّ كل عمل موسيقي جديد ومختلف هو تجريبي، لكن من المفيد أيضاً ملاحظة السمات المشتركة التي تعيننا على وضع تعريفات للأنواع الموسيقية الآخذة في الانتشار أخيراً، ومدى قدرة أي عمل على حمل ثقل التعريف. من ناحية أخرى، وفّر الوضع الثوري والاجتماعي في مصر خلال السنوات الثلاث الماضية منذ «ثورة يناير» مناخاً ثقافياً وفنياً بامتياز، معزّزاً المشهد الثقافي المحلي بالعديد من الفنانين والفنانات، منهم من هو مشتبك سياسياً مع ما يجري، ومنهم من هو على التخوم. إلى جانب ذلك، برزت مدرسة «المهرجانات» بعد فترة قضتها في أزقة المناطق الشعبية: شباب يعزفون مقطوعات إلكترونية هجينة في الأفراح الشعبية بأسلوبهم الخاص. انتشر هذا النمط الجديد في السنوات الأخيرة ليصل إلى السوق المصرية السائدة، وليتم تناوله تأريخياً ونقدياً في الصحف والمجلات، حتى أصبحت له شعبية في بلدان مجاورة كالأردن. الأهم من ذلك أنّه فرض نفسه كموجة موسيقية مؤثرة للغاية، رغم بعض الاعتراضات الطبقيّة. لا تزال الأسماء الشابة تنتج أعمالها الموسيقية، رغم انخفاض إنتاجيتها بعد انعطاف الثورة في مصر. من هذه الأصوات، برز موريس لوقا كـ «موسيقي إلكتروني» بعد تجربته مع فرقته «بيكيا»، بأعمال فردية جديدة، وكأحد أعضاء فرقة «الألف». في إصداره الثاني، يستخدم لوقا الموسيقى الشعبية وموسيقى المهرجانات كعنصرين أساسيين في بناء العمل الموسيقي. «بنحيي البغبغان» الصادر عن تسجيلات «نوى» لمؤسّسها الموسيقي العراقي خيام اللامي، هو تحية إلى «الشعبي» وموسيقى المهرجانات، واحتفاء بذلك التأثر.
تأتي المقطوعة الأولى والثانية كما لو أنّهما تحتفيان بهذا المزيج بين الشعبي والغربي كعلاقة جديدة. «العصر الذهبي» تفتتح الاسطوانة، وتظهر بعد تغييب متعمد من خلال مزمار شعبي يبدأ بتأسيس جو العمل بطبقاته المختلفة، لتتبعها «المسحوب». ستتطوّر تلك البداية مع المقطوعة الثالثة التي تحمل عنوان الأسطوانة «بنحيي البغبغان» في بناء موسيقي معقد من العينات والطبقات المختلفة. وكإحدى أبرز المقطوعات في الأسطوانة، تتأرجح «بنحيي البغبغان» بين الأصوات المختلفة الموضوعة في حالة حركة جدليّة دائمة. نسمع الصوت متفاعلاً مع هذا الاحتفاء، لكنّه صوت مشوّه جرى تركيبه فوق خلفيّة منوِّمة. في بناء المقطوعة الهيكلي التصاعدي كأغلب مقطوعات العمل، لا يترك لوقا مساحة فارغة إلّا ويقتحمها موسيقيّاً، منتجاً صوتاً لا يثق بالفراغ والهدوء. «كان قلبي بين إيديك» يقول الصوت في المقطوعة الرابعة «تصدّع» معاتباً. تكرار العينات الموسيقية هنا مخدِّر ومنتش. ومع دخول صوت الأكورديون، تصبح القطعة معبرة عن حالة حب وتراجيديا.
القراءة كثيراً في القطعة الموسيقيّة مغرية، لكنها غير مجدية أحياناً. واعتبار أنّ هذه الاسطوانة منتج ثقافي خرج في هذه الحقبة المؤثّرة سياسيّاً، سيضعها بشكل أو بآخر ضمن مقاربات سياسيّة/ اجتماعيّة. موريس لوقا لا يوظّف عمله للسياسة، لكنّه لا ينفي تأثّره بها. ومع اختتام الاسطوانة بمقطوعة «مالناش ديّة»، بعيّنتها الغنائيّة المتبرمة التي تبدو كقطعة احتجاج، يظهر صوت الفنّان الشعبي ليغنّي «الدنيا غابة وغلّابة، في الحتّة ديّة مالكش ديّة» على لحن شعبي راقص. وقبل أن تحدث «لحظة استيعاب»، تتصاعد الموسيقى عندها بشكل احتفالي عنيف، يكاد أن يكون مباغتاً، يختتم به لوقا الاسطوانة. إلى جانب عدم إعجاب لوقا بوصفه «موسيقي إلكتروني»، يرفض أيضاً وصف موسيقاه بأنّها راقصة. لكن المقطوعات تحاول إيجاد توازن بين الإيقاع الراقص والغوص في لحظة موسيقيّة جماليّة.
يطرح الاستماع إلى الاسطوانة سؤالاً تلقائيّاً عمّا إذا كان ممكناً أن نولّف نوعاً موسيقيّاً جديداً. ومع أنّه لا تستطيع جميع القطع ادعاء تمثيل ذلك، لكن بعضها يستطيع. لم يخرج «البوست – شعبي» هنا من بيئته الأصليّة، بل جرى تبنيه ليتم تخطيه مباشرة في توليفة مهووسة بالجديد، تاركةً وراءها إحساساً طفيفاً بالغربة الموسيقيّة: فتلك موسيقى شعبيّة ومهرجانات، لكنّها لم تعد كذلك فقط. لقد أخذ لوقا القوالب الموسيقيّة الشعبيّة المهووسة بالتكرار ليضعها مع قوالب جديدة لا تهتم برد الفعل الأصيل. يستطيع الموسيقي ادّعاء الإلهام دائماً من الموروث الشعبي، وبإمكانه استغلال ذلك الموروث لإنتاج عمل مدّعٍ. لكن «بنحيي البغبغان» عمل فني ناضج ذو هيكل تطوّري من مؤلِّف موسيقي يعي ما يفعل جيداً، وبالتأكيد من أفضل ما أنتج عربيّاً في السنوات الأخيرة. هو احتفاء بالجديد أكثر من ما هو احتفاء بالتقليدي، وتحيّة إلى ما هو موجود «الآن» من خيبات وخوف وأمل متردّد.
*عن الأخبار اللبنانية