إلى اللقاء!/ وديع عواودة
نقبل على مرحلة جديدة بكثير من المحبة والأمل بالتجدّد وخوض تجربة جديدة مع الجمهور من خلال تدريس في الجامعة المفتوحة لجانب الاستمرار في كتابة مقالات وتحليلات في صحيفة “القدس العربيّ” ووسائل إعلام محليّة
>
|وديع عواودة|
بعد ثماني سنوات من العمل في تحرير “حديث الناس”، أنهي اليوم فصلا واحدا ضمن مسيرة العمل الصحفي المحليّ، علّني أبدأ اليوم استراحة مؤقتة ولذا أقول “إلى اللقاء” لا “وداعًا”. منذ منتصف 2007 خضت تجربة مهمة، بحلوها ومرّها، في قيادة عمل إعلامي ممتع ومثير في إطار عمل جماعي مع طاقم من الزملاء والزميلات غرّدوا في منظومة واحدة، تدفعهم الإرادة المثابرة والعنيدة في تقديم نتاج صحفي في ما ينفع الناس- وهم جمهوره وهدفه الأول والأخير. لم تكن التجربة سهلة جراء تحديات جمة ومستحقات مكلفة تفرضها مهنة المتاعب، رغم اختيارها حبّا وطواعية قبل عشرين عاما ونيّف.
في هذه الفترة عشت وبقيت بين ظهراني مجتمعي وشعبي أشاطره الهموم والأحلام ومسيرة التحرّر والنهوض والتطوّر والعيش الكريم. معه عايشت تحولات إيجابية وسلبية خطيرة في ظل متغيرات متنوعة وثورة معلوماتية هائلة تصنعها الشبكة العنكبوتية وفي زمن ازدادت العلاقات العامة قوة، بل تجاوزت أحيانا الأداء الصحفي نتيجة ضعف أدوات الغربلة والتعديل والتحرير في معظم وسائل إعلامنا. سعت “حديث الناس” وما تزال للنجاة من ثقافة الترفيه والتسطيح والعزوف عن القراءة، بالتوفيق بين المضمون المتعمق، الناضج والمفيد وبين عرض رشيق وشكل جذاب لتبقى “صاحبة الجلالة” رصينة، لكنّ وجهها بشوش تقرأ مع قهوة الصباح، “مفتاح النهار”.
لم يكن جهدا عاديا أبدا أن تواجه “حديث الناس” مظاهر الفساد وهدر الصالح العام والانفلات الاجتماعي والسياسيّ، وغيره بالكلمة الحرّة وبالنقد اللاذع الرادع والمصّحح.
دأبت “حديث الناس” دائمًا أن تكون صوتا للعمال والفلاحين والمثقفين والطالبات وربات البيوت، ومنبرًا لمواطنين “غلابى” وقعوا ضحية غش أو بيروقراطية واستقواء، اسما على مسمى، محامية مخلصة عن مصالح وحقوق الجمهور، وترفع كلمة الحق في وجه أثرياء ورؤساء ومتنفذين وأصحاب سلطة وصولجان، من دون مواربة وبنزاهة واستقامة. ناهضت بما في وسعها ظلمًا منتهجًا من السلطات الإسرائيلية رغم السيف المسلط على رقابنا من “مكتب الإعلانات الحكوميّ”. بيد أننا لم نبحث عما هو سهل ومريح بالاكتفاء بتوجيه الذخائر الصحفية نحو الخارج ومن أجل فضح وجوه العنصرية وما أكثرها. كانت وما زالت مهمتنا الصحفية الكبرى مواجهة الذات، النظر بالمرآة، الاعتراف بعيوبنا وقصوراتنا ومعيقات هي من صنع أيدينا وإطلاق سهام النقد لها، وفاءً لدور الناقد النزيه الموضوعيّ والحارس المنتدب على حراسة الصالح العام، ونقد اختلال سلم أولوياته سوية مع عشرات الزملاء.
لم نتردّد في الكشف عن اختلاسات في مجلس محليّ ولا في مؤسسة للمعاقين ولم نتوانَ عن نقد أخطاء إدارة بلدية أو استغلال للسلطة والدين والحزب. هذا لأنّ أبجديات الصحافة تعني نقد سلوكيات الأحزاب والحركات والجمعيات الأهلية، وعدم التستر على الحقيقة في تغطية فعاليات وزيارات السياسيين من دمشق حتى طرابلس الغرب بموازاة مواكبة نضالاتهم وتضحياتهم في إطار منظومة علاقات مركبة تقوم على الشدّ والرخي حددّتها مصلحة الجمهور الواسع.
تعاملنا مع هؤلاء كشركاء لا أعداء وسط حفاظ على مسافة واحدة من الجميع بعيدًا عن التورّط بأجندات شخصية وفئوية، منحازين لمنظومة القيم الاجتماعية المتنورة والميثاق الأخلاقي المهني وحقوق الإنسان والمواطن والاهتمام الخاص بقضايا المرأة.
تُضاف لذلك تغطية كلّ أسباب ومظاهر النجاح والعصاميّة، وهي قصص ومقابلات وتغطيات تابعناها وقدّمناها بصورتها الحقيقية الجميلة بعناية فائقة وبرفق أصابع الأم لمولودها الغضّ، فكانت صحيفة بائع “العرقسوس” في سوق المدينة والخياّط الذي ينسج بالخيط والإبرة، لجانب باحث أحرز فتحا علميا في الطب أو سائر العلوم.
وهذه التجربة عززت قناعتنا الراسخة بالطاقات الثقافية والفنية والحرفية الهائلة في شعبنا وهي تعادل طاقات دولة وأكثر من الدول العربية.
جاء ذلك ضمن توفير وجبة دسمة من المواد الثقافية والاجتماعية والصحيّة، وباقة من مقالات الرأي والاجتهادات على أنواعها والتعريف بالعالم العربي والشؤون الإسرائيلية والدولية. بموازاة الاهتمام بالإنسان سعينا للانتصار للمكان وصيانة الذاكرة الجماعية إزاء محاولات تهويد وطمس للمعالم والتسميات. استفزتنا تسمية مسكنة بـ جولاني وأصغينا لصرخات صامتة لنهر العوجا حينما عبرنوا اسمه وأمسى اليركون.
ولم تذكر أشكلون في صفائحها إلا مقرونة بمجدل عسقلان، مثلما وجد مفرق السعادة نصيرا فيها عندما غلبت تسمية التشيكبوست الانتدابية عليه- والقائمة طويلة؛ فالأماكن تموت عندما تفقد أسماءها.
وبذلك لا نمّن على أحد فهذا واجبنا وهو مفهومنا للعمل الصحفي الحقيقي القائم على ميثاق غير مكتوب بين الإعلامي وبين الجمهور تربطهما خيوط الثقة المتينة والاحترام المتبادل وعماده الكلمة الناقدة والمسائلة والتحقيق حالمين بغد أجمل.
هذه هي باختصار بوصلة عمل ثماني سنوات لم أندم فيها على كلمة ممّا كتبت في “حديث الناس”، إلا عندما تكون قد نالت جهة ما دون وجه حق ومن هؤلاء أرجو السماح؛ فمن يعمل يخطئ وجلّ من لا يسهو. آمل أن تبدأ اليوم فترة استراحة لـ “التقاط الأنفاس” وبها أوازن بين حاجتي القراءة والكتابة. وهي فرصة لشحن مكامن الطاقة وربما البحث عن المزيد من المعرفة بالنظر لما يرى من هناك، حيث لا يبين عبر عيون التحرير من هنا. اليوم أقبل على مرحلة جديدة بكثير من المحبة والأمل بالتجدّد وخوض تجربة جديدة مع الجمهور من خلال تدريس في الجامعة المفتوحة إلى جانب الاستمرار في كتابة مقالات وتحليلات في صحيفة “القدس العربيّ” ووسائل إعلام محليّة حول إسرائيل والشعب الفلسطيني، ومسائل الصراع وغيرها. وهذه مناسبة لتكرار الشكر لكلّ من واظب ويواظب على قراءتنا، وأشدّ على أيدي الزملاء في “حديث الناس” وكلي ثقة بمواصلتهم المشوار تحت هذه الراية. إلى اللقاء.