وداعا عكا، أهلا أحمد/ هشام روحانا
توظيف استثنائيّ لما يمكن تسميته بـ “المقزّز” و”القبيح” قلّما تمّ استخدامه في الرواية العربيّة • يمكن النظر إلى هذه الرواية بوصفها رواية على تخوم الما بعد حداثيّة، وستُظهر لنا ذات بطلها الرئيسي ذاتًا منقسمة على نفسها متشظية، وغير مدركة بالكامل لذاتها
.
|هشام روحانا|
تتيح رواية “أورفوار عكا” للكاتب علاء حليحل للقارئ وللناقد المجالَ للنظر في مسائل وقضايا عديدة، أذكر منها هنا على سبيل المثال ما هو راهن، كالعنف أو صورة المرأة وآخر يخصّ روايتنا وعلاقتنا نحن الفلسطينيين بالمكان. على أنّ ما يبرز في هذه الرواية بالذات هو توظيف استثنائيّ لما يمكن تسميته بـ “المقزّز” و”القبيح” قلّما تمّ استخدامه في الرواية العربيّة. لكنّني سأقوم في هذه المداخلة بمعالجة الرواية من ناحيتيْن؛ الأولى تقوم بتحليل بُنية الرواية وتقوم الثانية بتحليل نفسيّ لشخصيّة البطل الرئيسيّ.
في البُنيَة
(I) العنوان: يدفعك العنوان” أورفوار عكا” بخفّة يدٍ وبدهاء نحو الدخول في متاهة مُركّبة، صُنِع نَسيجها من الكلام. فأولاً يوحي العنوان بأننا إزاء رواية تاريخية تدور أحداثها حول صمود مدينة عكا في وجه الحملة الفرنسية لاحتلالها، إذ تبرُز في العنوان ذاته بُنية مفارقة هي بُنية صِراع ما بين حدّيْن متناقضيْن؛ “أورفوار” (إلى اللقاء؛ كتحيّة وداع) بما تُحيل إليه هذه الكلمة من تداعيات: المغادرة، السفر، الذهاب بعيدًا، الانسحاب، الخروج من المشهد، وبين “عكا” كمفهومٍ يُحيل الى السور المنيع، القلعة، الصمود، الشجاعة والبقاء. هي إذًا بُنيّة ذات حدّيْن متناقضيْن؛ وهما مفهومان اثنان يشكّلان معًا حاملها التاريخيّ، أي جسد الرواية المادي. وتستدعي هذه الثنائية ذكرى الصراع بين طاغيتيْن: نابليون بونابرت بما هو نِتاج مؤقت للثورة البرجوازية في فرنسا، وأحمد باشا الجزار بما هو نتاج المراوحة الآسنة لنمط الإنتاج الشرقيّ. وثانيًا، هناك في العنوان، أيضًا، حدّان إضافيّان يوحيان بالبنية اللغوية للرواية -وسأناقش هذا لاحقا- والتي تضطرنا الى التنقل جيئة وذهابا ما بين عصريْن: الزمن الحالي، أي زمن كتابة الرواية، وزمن وقوع أحداث الرواية، كما يتصوّرها ويُصوّرها الروائيّ. وثالثًا: يوحي العنوان بأنّ من يقوم بوداع عكا هو الفرنسيّ المنكفئ دونها، على أنّ مجمل أحداث الرواية يدور داخل أسوار المدينة المحاصرة أو عليها، ممّا يجعل من أمر إلقاء تحيّة الوداع ممَّن هو ثانويّ وخارجيّ عن حلبة الرواية أمرًا إشكاليًّا يضعنا أمام تساؤل يستمرّ خلال قراءة الرواية، في لُعبة من التوقع والإرجاء، وصولا إلى أن يجد حله في نهايتها، إذ يتضح لنا أنّ من يُلقي تحية الوداع هما كلا القائديْن المتصارعيْن، نابليون يودّع عكا مهزومًا، أمّا الجزار فسندع أمره ليتضح لنا لاحقا. تستمرّ الثنائيات القائمة في العنوان بالحضور في الرواية ككلّ؛ فإلى جانب المسار التاريخيّ، هناك المسار النفسيّ المُعتمِل في شخصية البطل.
(II) المتن: وككلّ سرد (روائيًّا أكان أم سينمائيًّا)[1] يختار النصّ الواقعيّ الكلاسيكيّ –رواية القرن التاسع عشر- نموذجًا له، فإنّ بُنية رواية “أورفوار عكا” اللغوية مكوّنة هي أيضًا من لغتيْن، اللغة السردية –وتُسمّى اللغة الشارحة أو اللغة العُلياMetalanguage - وهي لغة الراوي التي يستعملها في سرد يُنظِم من خلاله حدود روايته وحقائقها، وهي هنا اللغة العربية الحديثة والمتداولة هنا والآن، بينما تتكوّن لغة شخصيات الرواية ممّا يُسمّى لغة المواضيع Object Language أي الشخصيّات، وقد تكون في رواية ما هي ذات اللغة التي يستعملها السرد، ولكن كونها تصدر عن شخصيات الرواية وليس عن الراوي فإنها تتخذ موقعا مختلفا. ولغة الشخصيات هنا هي اللغة التي كانت سائدة وقت وقوع أحداث الرواية وهي لهجات متعدّدة وخليط منها يقع تحت تأثير اللغة التركية بما هي لغة الحكم والحكام. وفي هذه البنية تحتلّ اللغة السردية في الرواية الواقعية الكلاسيكية موقع اللغة المهيمنة إزاء لغة شخصيات الرواية، بما أنها في هذه الرواية لغة راوٍ كُليّ المعرفة[2]، راوٍ متحكّم بالحقيقة وبوتيرة كشف أجزائها، ومن خلالها تمرّر رسائل خفيّة ذات طابع أيديولوجيّ. يحرص مؤلف رواية “أورفوار عكا” على البقاء يقظًا طوال الرواية محافظا على الفصل التامّ ما بيْن اللغتين؛ لغة السرد ولغة الشخصيات، يساعده في هذا اختياره الأسلوب المشهديّ لسرد أحداث روايته. فيمنع تسلل لغة الشخصيات إلى لغة السرد. وبطبيعة الحال فإنّ كلتا اللغتين هما نتاج ذهنيّ نفسيّ للمؤلف الذي يقف إزائهما موقفًا موضوعيًّا.
وباستثناء عنوان الرواية حيث يستخدم المؤلف الكلمة الفرنسية “أورفوار” عن سابق قصد وتعمّد، بهدف الايقاع بنا كما بيّنت سابقًا، فإنّ تسرّب عناصر تابعة للغة الشخصيات إلى لغة السرد يشي بأنّ هناك “هفوة كلامية” تشي بالموقف الشخصيّ للمؤلف إزاء بعض عناصر الرواية. أستطيع هنا ذكر موضعيْن يتمّ فيهما هذا الأمر. تحصل الهفوة الأولى عندما يصف الراوي شعور دي فيليبو بسعادة خفية لكون الجزار يهتم لسلامته: “شعر دي فيليبو براحة كبيرة وإغضاء بال، (…)” (ص 47). من أين أُتي بتعبير إغضاء بال؟ إنه تعبير قديم مأخوذ من لغة كانت سائدة وقت وقوع أحداث الرواية، تعبير يتسرب إلى لغة الراوي التي هي لغة معاصرة، ولكن كيف لهذا الفرنسيّ الأعجميّ أن يشعر بإغضاء بال، ألا تكفيه راحته؟ أينمّ هذا عن احتقار يَكِنُّه المؤلف لموقع هذا الفرنسيّ بوصفه خائنا لوطنه ولقائده الذي يخوض حربه لاحتلال عكا بلد الجزار؟
أمّا الهفوة الكلامية الثانية فهي اصرار الراوي على استعمال التعبير “فرنساويّ” بدلا عن “فرنسيّ” و”الفرنساوية” بدل “الفرنسيين”، وهو التعبير المستخدم وقت حدوث الرواية (ويستمرّ استعماله في بعض المناطق الى الآن)، أي أنّ المؤلف يسمح هنا أيضًا بتسلّل لغة الشخصيات إلى لغة السرد ممّا قد يعبّر عن أنّ المؤلف لا يقف إزاء أحداث الرواية وشخصياتها موقفًا محايدًا.
أحمد باشا الجزار على سرير فرويد
“إنَّ الشعراء والرُوائيين هم أعز حُلفائنا[3] وينبغي أنْ نُقدّر شهادتهم أحسنَ تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين الأرض والسماء لم تتمكّن بعد حكمتنا المدرسيّة من الحلم بها، فهم في مَعرفة النفس شُيوخنا، نحن الناس العاديين، لأنهم يرتوون من منابع لم يتمكن العِلم من بلوغها حتى الآن”. (فرويد في “هذيان وأحلام”).
قلنا إنّ الرواية هي رواية الواقعية الكلاسيكيّة، أي رواية الحداثة بوصفها خطابًا يُنظِّر لذات موحّدة ثابتة متماسكة ومدركة لأفعالها. إلا أنَّ المقاربة النفس-تحليلية، التي سأعرضها هنا، ستُظهِر لنا أنه من الممكن النظر إلى هذه الرواية بوصفها رواية على تخوم الما بعد حداثيّة، وستُظهر لنا ذات بطلها الرئيسي ذاتًا منقسمة على نفسها متشظية، وغير مدركة بالكامل لذاتها.
تبدأ الفصول الأولى للرواية، وبالتوازي مع تطوّر سرد الوقائع التاريخيّة، ببناء تصاعديّ لشخصية أحمد باشا الجزار بوصفه أداته، أي بوصفه آلة قتل، طاغية ممقوت (من رعاياه ومن القارئ)، لا يتورّع عن القتل بيديْه هو أو الأمر بإعدام رعاياه ولأتفه الأسباب. تتماثل الذاتّ هنا مع اسمها وأداتها: أنا الجزار والجزار هو أنا. ولكن ما الذي يحدث لهذه الذاتّ التي يخافها الشيطان نفسه لتنتهي في هذا المسار التصاعديّ للرواية إلى ذاتٍ ذليلةٍ تبكي ضحاياها من خلف الأبواب المغلقة؟ (ص 213). تقع نقطة التحوّل على تقاطع حدثيْن اثنيْن يُدّعم فيه الواحد الآخر ويُغذّيه؛ وهما وقوع كلٍّ من رسائل نابليون الغراميّة بالتوازي مع وقوع السفينة المحمّلة بالمومسات الفرنسيّات –هدية القائد نابليون لجنوده- تحت يد الجزار. يمثل هذا التقاطع حضورًا لوظيفة ما يُدعى “الأنثى المميتة” (Fame fatale) كما يبدو جليًّا مثلا في جانر أفلام المغامرة البوليسيّة؛ الفيلم الأسود– نوار (Noir film)، حيث يُغير حضور هذه الشخصية المسار المتوقع للأحداث والمصير الشخصيّ للبطل الرئيسيّ. إنَّ الحضور الوظيفيّ لـ “الأنثى المميتة” كمفهوم، والممثل بالرسائل إلى جوزفين والمومسات الفرنسيات، اللاتي يزرعن الشبق في المدينة المحاصرة، يُظهٍر عدم الاستقرار المزروع في ذاتِ البطل الرئيسيّ، وفي غياب الكلام المُعبِر عن حقيقة الرغبة، يطلّ إلى المشهد طيف نابليون. يُصاب البطل بالهذيان إذًا، هذا الهذيان الذي يستدعي طيفا صنعه الوهم رغم أنه طيف عدوٍ إلا أنه مطلوب كآلية نفسيّة تستدعي الرغبة المكبوتة، تستدعيها حتى ولو تمّ لها الظهور ظهورًا مرضيًا.
وسوية مع ظهور الهذيان، والذي سيتفاقم شدّة وتكرّرًا مع تقدّم أحداث الرواية، تظهر الرغبة على شكل انحراف تلصّصي (Scopophilia) حيث يتم الاشباع الجنسي من مجرد الاستماع الى ما تحتويه رسائل نابليون لمعشوقته (ص 53). يُصاب الجزار بحاجة قاهرة وملحّة للتلصص المرضي على حياة خصمه العاطفيّة، فيأمر أعوانه بالعمل على الاستيلاء على الرسائل إلى جوزفين، وهي رسائل من المفروض أنها لا تحتوي أيّ سرّ عسكريّ، إلا أنَّها تذكره بمن كان يتوهّم أنها موضوع رغبته. ولكنه حينما يأمر بالتخلّص من المومسات فإنه يفعل هذا ليس خوفا على جنوده كما يدّعي، بل خوفا على ذاته هو من عودة المكبوت، وإلا ما كان هو الطاغية الجبار ليتراجع أمام رفض “أبو الموت” فعل هذا، وهو الذي كان يرتعب خوفًا من الجزار. لقد اشتمّ “أبو الموت” حالة الضعف التي أصابت الجزار فتجرّأ على رفض الأوامر والخروج عليها.
يتكثّف الصدى الذي كان يأتيه غائمًا من بعيد؛ صدى الأنشودة الشعبية في موطنه الأصليّ[4] لصبية تتوسّل أمها أن تستضيف الشاب الغريب الآتي إلى القرية: “إدعيه يا أماه ليكون ضيفنا هذه الليلة، إدعيه يا أماه بحق السماء”، ويزاح مُستدعيا ذكرى تلك التي لم تدعُه إليها: “دارينكا”. ودارينكا هو تصغير وتحبّب لـ “دارينا” و”داريا” وتعني بالعربيّة “هدية”. أتكون هدية نابليون لجنوده والمعبّأة بالشبق والرغبة قد ارتدّت إلى الجزار تذكيرًا له برغبة كبتت فانقضى دهرها؟ لكنّ “دارينكا” لم تكن بالنسبة للجزار ولا بأيّ حال هدية من أيّ نوع كان، بل أتاها مغتصباً وهي المُحرّمة عليه شرعًا كونها زوجة أخيه الحيّ. يسير الجزار على خطى أوديب إذًا، هذا الذي كسر تابو المحارم، والذي عندما يكتشف هول فعلته يفقأ كلتا عينيْه عقابا له ليهيم في البريّة. كذلك أيضًا هو الجزار : إنه يعاقب نفسه بالخروج من موطنه الأصليّ هائمًا في بلاد تعتنق دينًا غير دينه، ويرتدّ عن دينه الأصليّ ويترك لغته ليعيش في غربة تامّة.
لكنّ الجزار لم يصل بعد إلى ما وصل إليه أوديب الذي خضع لقدره صاغرًا. إنه بحاجة للمزيد من الوقت ليرسم أسطورته الخاصة به، وها هو يجد ذاته منفيّة داخل اسم فردٍ (أحمد) مُنقطعًا عن اسم الأب الناظم للقانون، فلا قانون يحكم الجزار منذ أن خرج عن القانون الأول للنظام الاجتماعي والذي يَمنع إتيان المحارم؛ خرج عن كلّ قانون دونه. وما يقوم به أحيانًا من فعل إحسان كبناء جامع هنا أو عمارة هناك ليس سوى تصريف للطاقة الجنسيّة العدوانيّة المتراكمة داخله في مسار من التهذيب والتسامي (Sublimation). وها هو يبني قمّته الخاصة به وحده، ولن يكون المُرتفع الذي يبنيه على قِمة عظمته سوى مَطلٍ يُطل منه على قاع بُؤسه. إنه الخائف الأبديّ الذي يزرع الخوفَ في نفوس الآخرين ليطرد خوفه هو، يُطلّ فلا يجد أحدًا؛ “لا أحد هناك، لا أحد”، ووحيدًا يقف على القمة. وحيدًا قلنا؟
ليس بالضبط، ها هي أطياف ضحاياه تحيط به من كلّ جانب، وإذ بالأسوار التي بناها بـ”أنا“ه حول ذاته، مخترقة بالكامل، يقف عليها طيفُ عدوّه هو بالذات، هذا الطيف الذي يُحضر له ذكرى الرغبة، لتأتيه الرغبة المشوّهةُ طيفا، فلا سور يمنعها. يا لهول الفاجعة- المُفارقة، إذ يقف مُخترقا بالهذيان يُري طيفَ وهمه في قاعة بلاطه لوحةً له ترسمه منتصب السيف بكامل تألّقه؛ ليس كمال الذاتِ سوى وهم بكمالها. وها هو في قمة انتصاره يقف على سطح مركبه وحيدًا وعاريًا وحافيًا، يا لبؤس هكذا انتصار. وفقط في حضيض هكذا انتصار، يحوز على بعض تعاطف إنسانيّ من رعاياه ومن القراء. يقف على سطح مركبه مودّعًا عكا التي بناها سورًا، ولكن عكا الحصينة في الواقع، ليست هنا سوى مجاز لوهم حول ذات موحّدة حصينة. إنّ عكا أحمد باشا الجزار ليست سوى شظايا مرآة لذاتٍ مُخترقة بالرغبةِ وبالآخر.
(الكرمل؛ 11-09-2014؛ عن ملحق “الاتحاد”)
[1] يُنظر؛McCabe, Colin, [1974], ‘From Realism and the Cinema: Notes on Some Brechtian Theses’ in Contemporary Film Theory, edited by Anthony Easthope. New York: Longman, 1993. .[pp. 53-67]
[2] بحسب تقسيم الناقد الالماني ف. ك ستانزيل هناك ثلاثة أصناف من الحالات السردية: حالة الراوي كلي المعرفة؛ حالة الراوي المشارك كشخص في الرواية؛ وحالة المروي بضمير الغائب.
[3] أي حلفاء المحللين النفسيّين.
[4] يُنظر في، Oral Tradition 6\2-3 (1991) : 148-173
Yugoslav Oral Lyric, Primarily in Serbo-Croatian By Vladimir Bovan.