“أورفوار عكّا”: شاهد حيّ على المدينة / رشيد الحاج عبد
يتناول المؤلف الأسئلة الأبديّة عن “معنى الحياة” و”السعادة”، طارحًا المفارقة المضحكة المُبكية بأنّ فرنسيًّا وألبانيًّا يتصارعان على السيطرة على مدينة فلسطينية في طريقهما للبحث عن ذاتيْهما
.
|رشيد الحاج عبد|
لا أذكر بالضبط آخر رواية قرأتها لكاتب فلسطينيّ قبل هذه الرواية، كان ذلك قبل عشرين عامًا ربما، على الأغلب كانت تلك إحدى روايات غسان كنفاني.
أعتقد أنّ الاسم الذي اختاره الكاتب “أورفوار عكا”، أو كما أحبّ أنا أن أسمّيها “وداعا عكّا”، هو أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ إنها حالة عشق لهذه المدينة الهشّة في صيرورتها المنيعة على الدخلاء، تشعر بين سطورها كيف تسري عكّا في عروق مؤلفها شرياناً يغذّي روحه.
يستهلّ المؤلف بالصعوبات التي واجهته حتى اكتمل هذا العمل، كأنه لولا التزامه الدبلوماسيّ للأستاذ حنّا أبو حنّا بالبتّ في قضية سفينة العاهرات المخطوفة، لسَحَب يده من الموضوع وعاد إلى نصوصٍ تلائم مرحلة “الوجبات السريعة”، لكنه بالمقابل وبعد كلّ هذا الوقت والجهد، نجح في انتاج رواية ناضجة تستند إلى وقائع تاريخية وفيرة، فيصبح الجهد هو: أي تفاصيل لن تذكر في هذا العمل لكثرة الأحداث.
واضح من التفاصيل المنتثرة كمية العرق المبذول من أجل خياطة هذا الكمّ الهائل من التاريخ الذي يفوق الخيال، في رواية فنطازيّة محبوكة بجمالية مثيرة، تترك القارئ فاغرًا فاه أمام كلّ ما ودّ لو يكنسه تحت دهاليز عكا ويغلق عليه الى الأبد.
نقرأ الرواية ونتساءل: ما هو التاريخ؟ من يكتب التاريخ؟
ألا تعتقدون أنّ المؤرخين كتبوا على مرّ العصور كلّ ما أراده الزعماء المنتصرون، وقد أسقطوا كلّ ما أردتَه أنت، لتتأكد في مرحلة ما من الرواية، بأنّ خيال المؤلف قد يكون أصدق وثيقة تاريخية تقرأها.
يبحر الكاتب في مواضيع جمة من دون أن يتلعثم أمام تابوهات لو أشار إلى أحدها في مقال “جدّي”، لطالبت بخوزقته كلُ الجهات الرسمية وغير الرسمية من يمين ويسار. فهو تارة يسرد كمية الحقارة البشرية التي يمكن أن تُسكب سواء من أبو الموت أو الجزار أو نابليون؛ يتحدّث عن الجنس تارة مثيرًا من بين ما يثيره كمية الذكورية الدنسة المستشرية التي تنظر للمرأة كآلة لشفط رغبات الرجال. ويفتح تارة علاقات المسلمين بالمسيحيين التي طالما عرفت “طلعات ونزلات”، ونادرًا ما طرقت بشكل حقيقيّ يسمح بفهم الماضي من أجل المستقبل.
هذه الرواية شاهد حيّ على عكا، لا يقلّ أهمية عن سورها أو مسجدها أو بحرها. هذه رواية تضعها بجانب أشهر الروايات العالمية التي تحكي حكايات المدن مثل، “أوليفر تويست” أو “آخر أيام بومباي”، أو إذا أردت أن أجامل قليلا فسأقول “الحب في زمن الكوليرا”
لا يمكن الحديث عن الرواية من دون التوقف عند “الخازوق”. إنه من أهم المؤشرات على اختلاف البشر عن باقي الحيوانات؛ إنه اثبات قاطع على رقيّ الحيوانات عن البشر. فالحيوانات التي تقتل لتأكل تقوم بذلك بأسرع وأسلس طريقة تستطيع القيام بها، بينما يتفنّن البشر في تقنيات معقدة تعذّب الإنسان قبل موته مع الإبقاء عليه حيّا قدر الإمكان. أعتقد أنّ الكثير من الأطباء كانوا سيفشلون في امتحان تمرير الخازوق في الجسد البشريّ من دون المرور بأيّ عضو حيويّ بين الكتف والمؤخرة. لن أكشف تفاصيل أكثر من الرواية، ولكني أود أن أضيف من معلوماتي عن موضوع التعذيب حتى الموت أنّ البشر باستغلالهم البشع لقدراتهم العقلية توصّلوا إلى العديد من طرق التعذيب التي تتفوّق على “الخازوق”.
من مفارقات الرواية أنّ أحد أهمّ الابطال، وهو الشخص الذي هاجم عكا وحاصرها قبل أن يرتدّ خائبا، لم يحضر “بشخصه” بالرواية، كأن تمنّع المدينة عليه حال من دون حضوره شخصيًّا الى الأحداث، بل هو طيف ووهم أحيانًا، أو حدث بعيد عن أسوار المدينة تنأى المدينة وروايتها عن الالتفات إليه.
موضوع واحد لفت انتباهي سلبًا واستغرقني بعض الوقت لكي استسيغه، قضية الترجمة الركيكة التي قام بها الترجمان إبراهيم لرسائل نابليون الى جوزفين. قرأت بعض الكلمات أكثر من مرة لأتأكّد من أنه لا يوجد هناك خطأ مطبعيّ، ولكنك حين تفكر بالأمر تكتشف أنّ تلك الترجمة الركيكة هي ما يستطيع إبراهيم القيام به في أفضل حالاته.
يتناول المؤلف بين السطور الأسئلة الأبديّة عن “معنى الحياة” وعن “السعادة”، طارحًا من بين تناقضات البشر في بحثهم هذا المفارقة المضحكة للبعض المُبكية للبعض الآخر، بأنّ فرنسيًّا وألبانيًّا يتصارعان على السيطرة على مدينة فلسطينية في طريقهما للبحث عن ذاتيْهما.
هذه الرواية بالنسبة لي صارت شاهدًا حيًّا على مدينة عكا؛ شاهدًا لا يقلّ أهمية عن سورها أو مسجدها أو حتى بحرها. هذه الرواية لا تخجل من أن تضعها بجانب أشهر الروايات العالمية التي تحكي حكايات المدن مثل، “أوليفر تويست” أو “آخر أيام بومباي”، أو إذا أردت أن أجامل قليلا فسأقول “الحب في زمن الكوليرا”.