كيم كي دوك (1/2): المنزل الفارغ / وائل قبيسي
تتميز أعمال كيم كي دوك بالإبهار البصري فالرجل لم يدرس الإخراج بل دخل السينما من خلفية الفن التشكيلي ما يجعل أفلامه تتمتع بفلسفة خاصة تميزه عن باقي مخرجي جيله.
| بيروت – وائل قبيسي |
تعتبر سينما كوريا الجنوبية الأقدم في العالم حيث يرجّح مؤرخو السينما بداياتها إلى عام 1919، لكن جميع الأفلام التي أنتجَت قبل الخمسينيات
تعرضَت للتدمير واختفى جزء منها بشكل غريب وذلك بسبب الحروب والاهتزازات السياسية التي تعرضَت لها كوريا الجنوبية منذ أوائل القرن العشرين، من الاحتلال الياباني الذي دام حوالي 35 عاماً إلى الحرب الكورية التي دامت 4 سنوات وصولاً إلى وقوع البلاد في قبضة نظام عسكري ديكتاتوري امتد من عام 1967 حتى عام 1992، ما أثر بشكل كبير على الإنتاج السينمائي وتسبب بتلف معظم الأفلام السينمائية في فترة الحرب.
لم تنهض سينما كوريا الجنوبية حتى الثمانينيات حين شهدت انبعاثاً في الإنتاج والنوعية في ما عُرف بموجة “ربيع سييول” بعد أن كانت البلاد تشتهر بالمانغا أو الرسوم المتحركة الكورية والتي عمد بعض المخرجون لاحقاً إلى اقتباسها في أفلامهم.
يُعتبر شان وود بارك وكيم كي دوك من أهمّ المخرجين وكاتبي السيناريو في سينما كوريا الجنوبية المعاصرة، الأول هو صاحب فيلم Oldboy الشهير وسيكون لي مقال لاحق عن الفيلم والمخرج، لكن سأتناول في مقالين متتاليين تجربة كيم كي دوك في ثلاثة من أهم أفلامه.
تتميز أعمال كيم كي دوك بالإبهار البصري فالرجل لم يدرس الإخراج بل دخل السينما من خلفية الفن التشكيلي ما يجعل أفلامه تتمتع بفلسفة خاصة تميزه عن باقي مخرجي جيله.
درس كيم كي دوك الفن في باريس ثم عاد إلى كوريا ليبدأ مسيرته السينمائية ككاتب سيناريو. جاءت تجربته الإخراجية الأولى في فيلم “التمساح” عام 1996 وتوالت أفلامه ليفوز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي عام 2004 عن فيلم “الفتاة السومرية” وبجائزة أفضل فيلم عن الوثائقي “أريرانغ” في فئة “نظرة ما” في “مهرجان كان عام 2011 وبجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عن فيلم “بييتا” عام 2012.
أتناول في هذا المقال فيلم “المنزل الفارغ” 3 Iron الذي أخرجه كي دوك عام 2004 الذي يروي قصّة تايسوك الشاب المنعزل الذي يقود دراجته النارية ويضع منشورات قوائم الطعام على أبواب المنازل ليعود ويقتحم الشقق التي لم تتمّ إزالة قوائم الطعام عن أبوابها ويعيش فيها ليلة واحدة في غياب أصحابها، يغسل ملابسهم ويصلح أجهزتهم المعطلة ويلتقط صور لنفسه مع صورهم المعلقة على الحائط ويشغّل أسطوانة عليها أغنية واحدة يستمع إليها في كل شقة يدخلها وهي أغنية الفنانة ناتاشا أطلس “قفصة” التي تتناسب موسيقاها الجميلة مع أجواء الفيلم.
لكنّه يجهل أنّ صان هوا، ربّة المنزل التي تتعرض للعنف الجسدي والعاطفي من قبل زوجها الثري، تراقبه حين يقتحم منزلها الكبير. يترك تايسوك المنزل عندما يكتشف وجود المرأة فيه، لكنه يعود حين يرى زوجها يتعرض لها بالعنف الجسدي بعد عودته إلى المنزل، ويبدأ بضرب كرات الغولف من فناء منزل الرجل ليصيبه بها ويغادر على دراجته النارية مع الزوجة.
يبدأ الثنائي علاقة صامتة وينتقل من شقة إلى أخرى، يُضبطا في إحدى الشقق نائمين في سرير زوجين بعد أن ارتديا ثياب النوم الخاصة بهما، ويقعان في مشكلة عندما يجدان جثّة هامدة في منزل رجل مسنّ ليشرعان في تكفينه ودفنه بصورة لائقة. لكنّ سوء حظهما يوقعهما في قبضة القوى الأمنية التي تتهمهما بقتل الرجل وتستجوبهما، فيلتزمان الصمت المطبق الذي سيطر بينهما طوال فترة الفيلم. يكشف التحقيق أنّهما لم يسرقا أي مقتنيات من المنازل التي اقتحماها وأنّ الرجل الذي دفناه توفي جراء نوبة ناتجة عن سرطان الرئة فيأتي زوج المرأة ويأخذها إلى المنزل ويودع تايسوك السجن بعد تعرضه لرجال التحقيق، حيث يطوّر هناك موهبته في فنّ الاختفاء وينجح مرّة تلو الأخرى في الاختفاء وراء سجّانه كلما يدخل لإعطائه الطعام في مشاهد لا تخلو من الدهشة.
ينتهي الفيلم بطريقة ساحرة يستعمل فيها الرجل موهبته في التخفي ويجعلنا المخرج نتساءل إن كان كل ما حصل نسج من الخيال أم حقيقة غريبة ويُختتم بمشهد نهائي رائع يجمع البطلين ويترك المشاهد مدهوشاً وحائراً.
يتميّز الفيلم بالصمت المطبق بين البطلَين والصمت سمة في معظم أفلام المخرج، لكنّه صمت لا يصيب المشاهد بالملل بل يدفعه أكثر إلى الغوص في أحداث الفيلم ليعرف سرّ تلك العلاقة الغريبة التي جمعَت البطلين وتجعله ينساق معهما في عالمهما الغريب ليصل إلى النهاية أو البداية أو الخيال أو الحقيقة المتمثلة في التوازن وخفّة الجسد والروح.
أكثر ما يلفت في الفيلم هو المتعة البصرية في الإخراج والشخصيات الغريبة والمضطربة والمميزة في آن لأبطاله والبساطة في الحبكة الممزوجة بغموض الخدعة والتي تحاكي المشاهد بطريقة مختلفة، وبالطبع المشهد ما قبل النهائي الساحر والسوريالي للزوج والزوجة والحبيب ويختتم المخرج الفيلم بعبارة: “من الصعب أن نعرف إذا كان العالم الذي نعيش فيه حقيقة أم حلماً”
فاز الفيلم بعدة جوائز عالمية أبرزها جائزة أفضل إخراج في مهرجان البندقية السينمائي وحقق نجاحاً عند عرضه في الصالات.
الفيلم: المنزل الفارغ 3-Iron
إنتاج: كوريا الجنوبية 2004
إخراج: كيم كي دوك
كتابة: كيم كي دوك
إنتاج: كيم كي دوك
تمثيل: جاي هي – لي سونغ يونغ
المدة: 88 دقيقة