محنة فائض التأويل!/ مرزوق الحلبي
المؤدلجون بيننا لديهم فائض من العقيدة والأدوات التي يحولونها إلى فائض في تأويل الظاهرة السياسية والاجتماعية، وهو تأويل يعمل باتجاهين متناقضين
|مرزوق الحلبي|
يُخيّل لي أننا مصابون في ثقافتنا بداء فائض التأويل. يتجسّد ذاك في هوة واسعة بين الوصف وبين الموصوف، بين الموضوع وبين مَفهمته، بين القضية وبين قسوة الحُكم عليها.
أحد أشكال هذا الفائض قائم في التعامل مع النصّ المكتوب. فإذ بالكتابة عن النص تتدحرج ككرة ثلج تفقد في صيغتها النهائية كل علاقة بالنص موضوع الكتابة. في غفلة منّا يستوي النص ـ وقد يكون كتابا ـ في مكانته وفنّيته حسب الناقد مع روائع شكسبير. أو قد تصبح قصيدة بسيطة وفنية نموذجا للشعر ما كان قبله ولن يكون بعده!
شكل آخر من الفائض اللغوي قائم في تقييم مُبدع أو موهبة. هنا، يصير النعت المعطوف على نعت آخر سيد الأحكام. فلا تنقص المشهد سوى جائزة نوبل العصية! هذا، بينما يكون الحديث عادة بشأن موهبة واعدة أو مبدع شاب ـ أو شابة بتضبط أكثر! ـ اكتشف سرّ الفن الأدبي. يأتي الكلام كبيرا يضيع فيه الشاب وتتيه في أرجائه الموهبة!
شكل ثالث هو فائض التأويل الأيديولوجي. فالمؤدلجون بيننا ـوهم ليسوا قلّةـ لديهم فائض من العقيدة والأدوات التي يحولونها إلى فائض في تأويل الظاهرة السياسية والاجتماعية. وهو تأويل يعمل باتجاهين متناقضين، فقد يُعطون لظاهرة هي ذروة الاستبداد والطغيان شرعية ومُبررات ـ سوريا مثلا. لكنهم، قادرون وبالثقة ذاتها من نزع شرعية ظاهرة في منتهى الصحة والشرعية. على الخط ذاته يقف الوطنيون المختومون بالشمع الأحمر. فائض تأويلاتهم هو ما نسميه في العادة المزايدة. كل حدث أو مناسبة عندهم قابلة للتأويل المتشدّد، عرض لميرة عوض أو أمل مرقس، زيارة المطران الراعي للأرض المقدّسة، رفع السرايا الكشفية في بلداتنا للعلم الإسرائيلي، المشاركة في ندوة أكاديمية مع مثقفين يهود وما إلى ذلك. كلها أحداث يُمكن لفائض التأويل أن يجعلها جرائم ترقى إلى منزلة جرائم الحرب! هذا، في حين أنّ الحكم على الأحداث المتشابهة قد يكون متناقضا تماما! وللتمثيل على ذلك أورد ما حصل في حيفا على مدار سنوات بين “التجمع” وبين “الجبهة”! لقد نجح رئيس البلدية، يونا ياهف، في مرحلة ما بالمناورة بين الكتلتين في البلدية بحيث أشركهما في الائتلاف لكن بالتناوب. تخرج “الجبهة” فيدخل “التجمع” أو العكس! وفي كل دخول إلى الائتلاف ينبري الإطار الخصم في ذمّ الخطوة ونزع شرعيتها!
فائض التأويل في كل هذه الحالات يبتلع الظاهرة أو الحدث في دوامته ويُلغي كل إمكانية لوجود اعتبارات وفرضيات غير التي يأتي بها المؤوّلون. بل تنتفي في حمأة التأويل أي إمكانية لإقامة التوازن بين رأي ورأي وبين قيمة وطنية أو أيديولوجية وقيمة أخرى لا تقلّ وطنية. يحول فائض التأويل هذا دون اكتشاف “نقطة البيكار” في الظاهرة أو الحدث. ويكشف عجز ثقافتنا المتبجّحة عن ممارسة أي نوع من الاختلاف أو تصريفه. لأن “الفائض” في هذه الحالة يمنح المؤوّل تفوقا موهوما يرفض معه أي أخذ وردّ أو كل دعوة للتفكير وإعمال العقل، أداة التأويل ذاتها، باتجاهات بديلة أو مناقضة!
(أيار 2014 )