غابريئيل، أو “ريشةُ الصقرِ التي تكتُبُ شعراً على جبال الروكي ونثراً على جبال الأنديز”(*)/ فريد قاسم غانم
محاولةٌ لرثاء الكاتب الكولومبي الشهير، الحائز على جائزة نوبل، غابريئيل غارثيا ماركيث، والذي وافته المنيَّةُ يوم السابع عشر من نيسان/ أبريل 2014
>
|فريد قاسم غانم|
يجوزُ أن يكونَ الصَّنمُ، وأن يكونَ النصُّ المنقوشُ، وأن تكونَ اللوحةُ والنَّغْمةُ ورسوماتُ الكهوفِ، أبقى من حياةِ الفردِ الممتدَّةِ بين بابيْن، أو -إن شِئتْم- بين مَغيبَيْن؛ أو -لو توخَّينا الواقعيّةَ العجيبةَ- الممتدّةِ بين رَمْشتيْن. لكن غابريئيل يفتحُ البابَ على كلَّ الاحتمالاتِ، خصوصاً حين يعيشُ مئةَ عامٍ من العزلةِ المكثَّفةِ والمزدحمةِ بالتاريخ والأجناسِ والألوان، ويجعلُ من المستنقعِ وبيوتِ التنكِ والتبغِ الرخيصِ ونباتات المَوْز، ملحمةَ الحياةِ على الأرض.[1]
يجوزُ، في هذا الهامشِ الضيِّقِ من الاحتمالات، أن يتسفَّعَ غابريئيل، الطفلُ الكولومبيُّ المتمرِّدُ، بأشعةِ شمسِ الاستواء أو قربَ الاستواء، أو يكتويَ بنار الثلجِ على قمةٍ في “الأنديز”.
يجوزُ أن يتقلَّدَ أدواتِ السحر من يدَيِّ جدِّهِ العقيد، المقطوعِ من خشبِ الغابةِ المَطَريَّةِ وقعرِ الأمازون.
يجوزُ أن يعيشَ داخلَ الأسطورةِ، وأن يجعلَ جدَّتَه “ميناً” فانوساً يستخرجُ منهُ الشياطينَ والمَرَدةَ، وأن يدفعَهم إلى الواقعِ المُحاصَرِ بالعادي، وأن يأخذَ العاديَّ في رحلةٍ إلى السماءِ والأزمنةِ السحيقة.
يجوزُ أن يبعثَ جدَّتهُ في شخصِ “أورسولا”، لتصمدَ في مجزرة الموْزِ وحرب الألفِ يومٍ وكي تعيشَ بين دفاتِ الكتاب، ألفَ عام من الزحمَة.[2]
يجوزُ ويجوزُ.
يجوزُ، في هذا العالم الذي يرسمُهُ غابريئيل، أن يشقَّ الطفلُ، حينما تتقدّمُ الحياةُ، طريقاً للعشقِ وسطَ مناطِقِ الحمّى والماءِ الآسنِ المتعرِّجِ مثلَ أفاعي الأساطير، والملاريا المتبرّجة بالأحمرِ والأصفر، والكوليرا التي تمتصُّ كلَّ ما فينا، ما عدا الحبَّ. فيصيرُ العشقُ بين والديْهَ، المصابِ بوعكةِ الزَّواج، عشقاً أبدياً غيرَ مُبذَّرٍ بين عاشقيْن ينعمانِ بالحرمانِ من الزوجيّة.[3]
ويجوزُ، في هذا الهامش، الرفيعِ كالخيطِ، من الاحتمالات، أن يخرجَ الطفلُ المسفَّعُ، من قفصِ التهميشِ والاستلابِ والعَوَزِ، ليلْعَنَ البترياركَ في عُقرِ قصْرِهِ المبنيِّ من الجماجمِ والمشدودِ بجدائلِ الصبايا، وأن يعفِّنَهُ بيديْه الصغيرتين، ليتساقطَ الامبراطورُ قطعةً قطعةً، ظفراً ظفراً، مِنخراً منخراً، خِصيةً خصيةً، على وقعِ خُطى الديدان.[4]
غابرئيل! غابيتو!![5]
لم يكنْ وما كان ممكناً أن يكونَ صديقاً بالمعنى الواقعي. فقد دبَّ الشيبُ في شارِبِهِ ذي الطرازِ الإسبانيِّ أو العربي الشرقأوسطي، قبلَ أن نشبَّ على الطوقِ، قبلَ أن يشتدَّ عودُنا، قبلَ أن تنفتحَ عيونُ أبناءِ جيلنا على العالمِ البعيد، الذي جاءنا بَغتةً، وقبلَ أن ندركَ الفارقَ الصغيرَ بين بني الغبراءَ وبين المُتخَمين، والفرقَ الكبيرَ بين الأميركيتين.
لم يكن، ولا كانَ ممكناً، أن يكونَ غابيتو صديقاً. فقد كان مشغولاً بنا عنّا، في لقاءاتٍ بين أساطيرِه الواقعيةِ وبين الواقعِ الأسطوري المتمثلِ في تشي جيفارا، في غابات القصَبِ على أبوابِ هافانا.
في ما عدا المُآكلةُ والمسامرةُ التي تشدُّ أربطةَ الصداقاتِ وترجئُ كشفَ الخيانات، كان غابريئيل أكثرَ من صديقٍ لمئات الملايين. فلا مناصَ أمامنا، إذن، من تبنِّي الحكمة الموزونة والمقفاة، عن خير رفيقٍ وخيرِ جليسٍ في الأَنام
لكنَّه، في ما عدا المُآكلةُ والمسامرةُ التي تشدُّ أربطةَ الصداقاتِ وترجئُ كشفَ الخيانات، كان غابريئيل أكثرَ من صديقٍ لمئات الملايين. فلا مناصَ أمامنا، إذن، من تبنِّي الحكمة الموزونة والمقفاة، عن خير رفيقٍ وخيرِ جليسٍ في الأَنام.[6] أو أن غابريئيل، بما نسجَهُ من خيوطٍ، حبراً على ورقٍ، وفَّرَ لنا بيتَ عنكبوتٍ رحيمٍ ومن نوعٍ خاص، يُغطي القاراتِ، ليقعَ في خيوطِهِ الأبيضُ والأسمرُ والأصفرُ والأحمرُ في شرَكِ الإنسانيةِ وتزاوجِ الثقافاتِ والحضارات.
لم تختلفْ حياةُ هذا الطفلِ الأسمر عن خيالاتِه. وهو القادمُ إلى هذا العصرِ، المتنقلِ بسرعةٍ نفاثةٍ من العصرِ الحديث إلى الحداثةِ إلى ما بعدَ الحداثة- هو القادمُ، على سطحِ قاربٍ عتيقٍ، كأنّهُ من سُلالاتِ طائرِ الرعد والأباتشي والمويسكا أو ما شئتَ من أسماءِ الهنودِ الحُمرِ، التي يشبهُ واحدُها بيتاً من الشعرِ الرومانسي، والتي تفوقُ الشعرَ شاعريةً. أو ربما هو قادمٌ من الفرائسِ السوداءِ التي اصطادها المستعمرُ في أحراشِ أفريقيا. أو هو منحَدِرٌ من بيتٍ مكلَّلِ الجدرانِ بالزهورِ الحوض-متوسطية في غرناطةَ أو قرطبةَ أو إشبيليا.
بل يبدو أن غابريئيل مرَّ بما هو أقسى وأغربُ مما مرَّ به الجنرال أورليانو من انتصاراتٍ وانكساراتٍ، وأنه أحبتهُ النساءُ أكثرَ مما أحبتْ أركاديو الشَّبِقِ في سوقِ “ماكوندو”.[7] ولعلَّهُ هو نفسُهُ الذي كان يكتبُ رسائل الحبِّ باسم العاشق، ويردُّ عليها باسم المعشوقة، فكانَ يكتبُ ويردُّ على نفسِه.[8]
كان غابريئيل يدركُ عظمةَ بورخيس، جارِه في الزمان وفي المكان.[9] غيرَ أنه لم يقتفِ أثرَه، ولا اقتفى طريقَ الحياةِ الظلِّ، والحياةِ الحُلمِ، والحياةِ الواقفة على الخيطِ الدقيقِ بين النومِ واليقظة، بين الخيالِ والخيال. انغمسَ غابريئيل، الرجلُ البالغُ والناضجُ مثلَ تفاحةِ الجنِّ الصارخةِ بالأصفرِ والعَبَقِ، في الصَّخبِ المدوِّي، لكن بدونِ التنازل عن عينيِّ الطفلِ. وكانَ يسألُ كلَّ يومٍ بهدوءٍ وخجلٍ، في حربِهِ على الظُّلمِ والظالمين: لماذا يمشي الملكُ عارياً؟
يجوزُ أن الصنمَ والنصَّ المنقوشَ واللوحةَ والصخرةَ أبقى من الإنسان العادي. لم يكن غابريئيل غيرَ عاديٍّ، وإنما فوقَ عاديٍّ. كأنه حملَ جراحَ الهنودِ الحمرِ وأمريكا اللاتينية المضمَّخمةِ بطعمِ إسبانيا والبرتغال، وآلامَ السمرِ المُصاَدرين بالأصفادِ إلى العالمِ الجديد، واحتراقَ الصُّفرِ بالذَرَّةِ ، وعرَقَ العمالِ المسفوكِ في المصنعِ ودمَهم المسفوك في مزارعِ الموْزِ والبنِّ.
كأنهُ كانَ يصرخُ بصوتِ أمعاءِ الفقراءِ التي تبحثُ عن حجرٍ يضغطُ عليها ليلغيَ خواءَها. لكنه لم يصرخْ، إلا بصمتٍ يعادلُ الصوتَ الصادرَ عن قُبلةِ القلَمِ الطويلةِ على خدِّ الدفتر.
كان غابريئيل يرى أن البترياركَ عارٍ، فوصفَهُ بما هو. ورأى الدودَ يأكلُ البطرياركَ، فلم يتيقَّنْ من موتِه، كأنَّ الدكتاتور يفقسُ من تلقاءِ نفسِه. وأقامَ غابريئيل، بصمتِ اليراعةِ وحِبرِ اليراعِ، مملكةً من الخيال الواقعيِّ، أو الواقعِ الخياليِّ. فلا العجائبيُّ عجائبيٌّ عندَه فوق اللزوم، ولا الواقعيُّ واقعيٌّ فوقَ اللزوم. وحينَ انصبَّت أنوارُ هوليوود ووضعتْه في عين عاصفةِ الذهبِ وبؤرةِ الضوء، لتحويل “عُزلتِه” إلى فيلمٍ، عرفَ كيفَ يرفضُ تقزيمَ العمالقةِ، وتحويلَ الملاحمِ المُفعَمةِ بالمعنى إلى تذاكرَ لدورِ السينما ومغامرةٍ يقومُ بأدائها نجمٌ أنيق.[10]
هذا هو غابريئيل، الطفلُ الكهل، الكهلُ الطفل. هذا هو غابريئيل، الذي يستحقُّ اسماً يشبهُ بيت شعرٍ، من نظْمِ الهنود، مثل: “كفٌّ تطلقُ البرقَ في صيف الكاريبي” أو “ريشةُ الصقرِ التي تكتبُ شعراً على جبال الروكي ونثراً على جبال الأنديز”.
لهذا وغيرِ هذا، يظلُّ غابريئيل غارسيا ماركيز (غارثيا ماركيث)، أبقى من الصَّنمِ الرخاميِّ واللوحةِ المحفوظةِ في المُتحفِ والنقوشِ المحفورةِ منذ ما قبلَ التاريخ في ثنايا كولومبيا.
وها هو غابريئيل يسافرُ إلى كلِّ الجهاتِ، على صهوةٍ غيمةٍ، على سقفِ أرضنا المكسوّةِ بصفحةٍ من الأزرقِ والرصاصِ والنجوم. فحين ترونَ خيطاً صغيراً من السحابِ، في مساءِ الغربِ أو الشرق، أو في سماءِ الشمالِ أو الجنوب، فاعلموا أنها توقيعٌ من هذا المسافرِ، على روايتهِ التي سوف تأتي.
دعوهُ الآن يستريح قليلاً، ليحكيَ قصَّتَه وقصَّتنا، لثيرفانتيس وبورخيس وسيمون بوليفار. دعوه يشكرُ وليام فوكنر وكافكا وفرجينيا وولف. دعوهُ يعانقُ جيفارا ويجمعُ أشلاءهُ، ودعوهُ يحتسي كأسا من عصيرِ البرتقالِ في بيارةِ لوركا.[11]
<
إضاءات:
* جبال الروكي، أي الصخرية، هي سلسلة جبال عالية وصخرية تقع في أمريكا الشمالية، وكانت الموطن الأصلي لقبائل الهنود الحمر، ومنها شعب الأباتشي.
الأنديز: سلسلة جبال في كولومبيا وجوارها، وكانت هي أيضاً الموطن الأصلي لقبائل وشعوب الهنود الحمر، مثل شعب المويسكا وشعب الكيمبايا.
[1] كلامٌ مستوحى من رواية “مئةُ عامٍ من العزلة”، وهي أشهرُ روايات ماركيز ومن أشهر الروايات على المستوى العالمي على الإطلاق.
[2] “أورسولا”، الجدةُ الأولى في رواية “مئة عام من العزلة”، ويعتقد أن شخصيتها مأخوذة من شخصية جدة ماركيز، “مينا”.
[3] الإشارة إلى رواية ماركيز “الحُبُّ في زمنِ الكوليرا”.
[4] الإشارة إلى رواية ماركيز “خريف البطريارك”.
[5] “غابيتو” هو الاسم الذي كان أصدقاء ماركيز ينادونه به.
[6] إشارة إلى بيت شعر للمتنبي، يقولُ فيه: “أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجٌ سابحٌ / وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ، وهنالك رواية تقول: “وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ”.
[7] ماكوندو هي البلدة الأسطورية، التي نسجها ماركيز في “مئة عام من العزلة”.
[8] إشارة إلى رواية “الحُب في زمن الكوليرا”.
[9] خورخي لويس بورخيس، هو كاتب أرجنتيني شهير، حائز على جائزة نوبل، وتميز بكتاباتٍ نقدية ونثرية وروائية بأسلوب خاص.
[10] رفض ماركيز تحويل روايته “مئة عام من العزلة” إلى فيلم هوليوودي، حيث كان الممثل الشهير أنطوني كوين المرشح للقيام بدور البطولة. وجاء رفض ماركيز، مع احترامه الكبير لأنطوني كوين (الذي قام بدور زوربا اليوناني ببراعة)، خشية تسطيح وتبسيط الرواية وإفراغها من معانيها.
[11] ثيرفانتيس هو مؤلف الرواية الشهيرة “دون كيخوتة” أو “دون كيشوت”. بورخيس هو الكاتب خورخي لويس بورخيس المذكور آنفاً. سيمون بوليفار هو بطل تحرير دول بحر الكاريبي، ومنها كولومبيا، من الاستعمار الإسباني. وليام فوكنر هو روائي إنجليزي شهير، وقد تأثر به ماركيز واعتبره أستاذه. كافكا هو الكاتب الشهير جوزيف كافكا، من أصلٍ يهودي، واشتهر بكتاباته العبثية والتشاؤمية، باللغة الألمانية، ومن أبرزها قصة “المسخ” ورواية “المحاكمة”. ويعتقد أن ماركيز تأثر به أيضاً. فرجينيا وولف، كاتبة إنجليزية شهيرة، طورت ما يسمى “تيار التفكير الداخلي”، سوية مع الكاتب الإيرلندي الشهير جيمس جويس. وقد كانا من الروائيين الذين تأثر بهما ماركيز. جيفارا هو آرنستو تشي جيفارا الشهير، ورمز الثائر الأسطوري. شارك في الثورة الكوبية وصار وزيراً، لكنه ترك الوزارة وشارك في ثورات أخرى. وقد وقع في أسر قوى معادية، فمثَّلوا بجثته. وكان ماركيز قد تصادق مع جيفارا، خلال لقاءاتهما في هافانا، عاصمة كوبا. لوركا هو فريدريكو غارسيا لوركا، الشاعر الأندلسي ابن مدينة غرناطة، الذي اكتسب شهرة عالمية بما قدمه من نتاجٍ شعري متميز ورائع، على الرغم من أن قوات الجنرال فرانكو قتلته وهو في ريعان الشباب.