إسرائيل ونحن وبيروت/ طارق خطيب
علينا أن نقف بالمرصاد لهذا الاعتقال الأرعن في حقّ ناشط سياسيّ صحفّيّ فلسطينيّ شابّ كسر حدود الرموز الإسرائيلية، من دون تهوّر –كما أعهده-، بل بتفكير عميق وطويل إزاء هذه الخطوة وعواقبها
.
|طارق خطيب|
السّادس عشر من نيسان/أبريل، اليوم الخامس لاعتقال الرّفيق الصّحفي مجد كيال، بعد عودته سالمًا “وأشرس” من بيروت الخيمة في عرف الشعر، أو الخيمة والغيمة، في مزاج الزّجل، إثر مشاركته في حفل الذّكرى السّنويّة على تأسيس صحيفة السّفير الّتي يكتب فيها؛ أشرس لانّه ضربَ –عمليًا- بعرض الحائط كلّ الحدود والجهات وما لفّ لفيفها، من عداد التقنيّات السّاذجة الّتي تقيّد أكبر حرّ فينا. تلكَ التفاصيل التي نتحدّاها كلّ يوم في كلامنا، قرّر هو أن يتحدّاها فعليّا، ليكونَ حرًا حقيقيًّا، لا يحكمه جواز السّفر المفروض علينا من دولة الاحتلال؛ ولهذا –على ما يبدو- نراها قرّرت بالمثل، هي الأخرى، أن تتحدّاه.
“النشرُ ممنوع” في حكم القانون الإسرائيليّ، كما يأتي على لسان القاضي المحافظ، لكنّ بروتوكول جلسة المحاكمة الأولى -طلبًا لتمديد الاعتقال- منشور على الملأ، والتّهم الأوليّة-كما جاء على لسان المدّعي- والّتي قد تُوجَّه إلى مجد منشورة هي الأخرى، وبين هذه وتلك، يتبيّن أنّ الممنوع الوحيد هو مقابلة مجد لمحامي الدّفاع، وهذا وإن كان كما يبدو عليه عاديَّا في سياق التّهمتين المضحكتين: زيارة دولة عدوّ والتخابر مع عميل أجنبي؛ إلا أنّه ليس عاديًّا البتّة حين تكون هاتان التهمتان موجّهتين إلى مجد إذا ما قرأناها من منطلقيْن، وإن كان يناقض الواحد فيهما الآخر في لبّه في هذا السّياق: سياسيّ ومهنّي؛ فبيروت وتونس وبغداد ودمشق (أو بقاياها)، وإن كانت في عرف الإسرائيليّ عواصم عدوّ، إلا أنّها في كنه الفلسطينيّ حلم امتداد وأفق وطنيّ ثقافيّ، وخارطة التعريف السياسي من المحيط إلى الخليج، والتي نحن جزء منها؛ وأما حينَ نقول مهنيًا، فنحن نقصد هدف زيارة مجد إلى بيروت، والتي تأتي في سياق كونه صحفيًّا كاتبًا في صحيفة السّفير الّلبنانية، له حقوقه وامتيازاته كأيّ صحفيّ آخر، وفق ما تنصّ عليه أكثر من وثيقة وقّعت عليها إسرائيل بنفسها خلال السنين المنصرمة. أما من يعرف مجد، ويعرف اسرائيل، فقد يدرك تمامًا، ان هذه التّهم، على ثقلها الظاهري، في الحقيقة، قد لا تكون سوى واجهة، تتسلّح بها اسرائيل، لتعاقبه على نشاطه السّياسي والصحفيّ عمومًا، وليس فقط حصرًا، على زيارته الّتي يحسد عليها.
وممّا يزيد الإسفاف ويثير الاشمئزاز، هو تعاطي بعض فلسطينيّي الدّاخل مع القضيّة: فهناك من يدّعي الموضوعيّة فيقول رمى بنفسه إلى التّهلكة، وآخر جاهل يتساءل متذاكيًا: “وكيف نتوقّع أن تتعامل معه إسرائيل؟”، معلّلا بـ “ذنبه على جنبه”، وغيرهما حاقد أو ناقم أو كارهٌ يدّعي أنّ كلّ هذا عبارة عن مسرحيّة نجوميّة! وما أغربنا، وما أعجبنا، ونحن لو سألناهم جميعهم –ببساطة- هل وددتم لو تزورون بيروت؟ فسيجيبون بالإيجاب، ويخططون لألف سيناريو لو حظوا بزيارة واحدة إليها، فلماذا إذًا كلّ هذا البطلان والجهل؟ معيبٌ، مطلقُا وقطعًا، ولا يقبل تأويلا غيرَ هذا، أن نصوغ السّؤال على هوى المحتلّ الذي يقوّض حركتنا إلى بيروت وامتدادنا معها هي وغيرها، ساقطٌ جدّا أن يكون السّؤال لماذا نذهب إلى بيروت، بدل أن يكون السؤال: لماذا لا نذهب إليها؟ ما هذا المزاجُ السّياسي الّذي يضعُ المتحلّ (المفعول به) ناطقًا/ سائلًا بلسان المحتلّ (الفاعل)؟ صيغة السّؤال مهمّةٌ وتعني الكثير، حتّى لو أطلّ علينا نصف مثقّف أو شبه منظّر، وقرّر أن يجدَ إجابةً بدل أن يفكّر، تحديدًا، لو كانت إجابته على السؤالين واحدة: “لأنّنا حملة جواز الاحتلال”! والحقّ، أنّ هذا المزاجَ يخيّم علينا في ألف قضيّة وقضيّة، فتكون النّتيجة ثلّة من سلوكيّات الجلّاد تؤدّيها الضحيّة.
الغريبُ الّذي لم يعد غريبًا، أن يكون النّشاط الميدانيّ الأوّل الدّاعم لمجد في قضيّته/نا، من تنظيم مجموعة يهوديّة وفي وسط عاصمة الاحتلال تل أبيب، وإن كانت خطوة مباركة سيلقي لها الإسرائيلي ذو الشّأن أذنًا صاغيةً أكثر من كلّ ما نفعله نحن. لكنّي أتساءل هنا: لماذا قد تهمّ خطوة مجد مجموعة من الشّيوعييّن الأناركيين أكثر ممّا تهمّنا شعبًا محرومًا من التّواصل حتى مع أقربائه من الدّرجة الأولى في الوطن العربيّ؟ وإذا لم تكن كذلك، فلماذا يتحرّكون قبلنا؟
لمن لم يستوعب بعد، فإنّ هذه القضية مركّبة وتحمل عدّة أبعاد، تهمنّا كجماعة كلّها بالمطلق. فهي أولّا محاكمةٌ سياسية للتّواصل المستحقّ إن لم يكن المستوجب أصلًا مع الوطن العربي، وهي ثانيًا انتهاك جليّ وواضح لحريّة الصّحافة والصّحفيين، وهذا مدخل هامّ لإلقاء الضوء على تعامل الاحتلال التعسّفي الانتقامي مع الصحافة والصحافيين العرب مقارنة -أو من دون مقارنة- بغيرهم، وهي ثالثًا، شكل إضافيّ من أشكال قمع المعتقلين والأسرى الفلسطينّين، حين يُحرمون حتّى من أبسط حقوقهم الّتي تنص عليها كلّ المواثيق الحقوقية، المحليّة والدوليّة، والمتمثّلة بلقاء محامي الدّفاع.
في ظل هذا كلّه، وبرغم كلّ ما يتعلّق بمنع النشر، لزامٌ علينا أن نأخذ دورنا في قضيّة من المخجل أوّلا، ومن الغباء ثانيًا اعتبارها شخصية، أو تصنيفها كقرار فرديّ عواقبه فرديّة. علينا أن نقف بالمرصاد لهذا الاعتقال الأرعن في حقّ ناشط سياسيّ صحفّيّ فلسطينيّ شابّ كسر حدود الرموز الإسرائيلية، من دون تهوّر –كما أعهده-، بل بتفكير عميق وطويل إزاء هذه الخطوة وعواقبها، الّتي قد تتغيّر –برأيي- وفق تحرّك الشّارع، والّذي من واجبه الدعم والتّصعيد في قضيّة تخصّنا جميعًا، خطا مجد خطوة جرئية منها، ويُحاسب عنّا عليها، الآن!