فنون ما بعد الحداثة: الدلالة الفكرية والزمانية للمصطلح/ نصر جوابرة
تتبّع لتطوّر مصطلح ما بعد الحداثة والالتباسات المرتبطة به، خصوصًا في الفن التشكيلي، الذي جاء نتيجة محاولات نقدية راصدة لمتحوّلات وتغيرات جمالية وفكرية في النتاج التشكيلي الغربيّ
.
|نصر جوابرة|
تندرج الاصطلاحات والاشتقاقات اللغوية الدالة على اشكال الفنون ووحدة خصائصها الفكرية والفلسفية، في سياق الجهد النقدي الباحث في تفسير الظواهر والمنجزات الجمالية ومحاولة الوقوف على المحددات والبواعث والمرتكزات الفكرية المرتبطة بها. وقد تأثر النشاط النقدي المعاصر بروح التصنيف والتبويب التي انشغل بها العقل الغربيّ بوصفها منهجا علميا للإمساك بالظاهرة وسبيلا ممهّدًا لتحليلها, فكان أهم ما انشغلت به الدراسات التنظيرية والبحوث النقدية المواكبة للنشاطات الفنية هو اجتراح اصطلاحات علمية واصفة للظواهروللحركات الفنية، سواءً أفي حقل الفنون التشكيلية أم الادبية أم العمارة وغيرها, فتعدّدت التسميات والعناوين والتي وان اتسمت بروح مجازية فيما يتعلق بتسميات المدارس والتيارات الفنية المتعدّدة، فإنها لعبت دورًا هامًا في إثراء الأطروحة النقدية المعاصرة من جهة, وساهمت في جانب النتاج المعرفيّ المواكب للبحوث والدراسات الإنسانية المجاورة في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع وغيرها، من جهة أخرى. كما ساهمت في دراسة المتغيّرات المفاهيمية والمتحوّلات الفكرية الهامّة التي حدثت وما زالت تحدث في المجتمعات الغربية المعاصرة.
تجاوزًا للاشتباكات الفلسفية التي تشهدها الفلسفة الأوروبية المعاصرة بين فريق يؤمن بشرعية وحقيقة مصطلح ما بعد الحداثة وتوظيفه لوصف المتغيرات المفاهيمية للمباني الفكرية للحضارة الغربية, وما بين فريق يجتهد في القضاء على هذا المصطلح لصالح الايمان باستمرارية مشروع التحديث واثبات ما يجري من متغيرات في سياق التطور الخطي والطبيعي لتاريخ الحداثة الغربية، فإننا سنسعى من خلال هذا المقال إلى مناقشة المحددات الفلسفية والنقدية للمصطلح والتي تقودنا إلى محاولة وضع تعريف وتأسيس إطار فكري وتاريخي لما يطلق عليه اليوم “فنون ما بعد الحداثة”, بوصفها منطقة اهتمامنا اليوم كمثقفين وفنانين عرب وأيضا لما تحمله الممارسة الفنية ما بعد الحداثية من .دور رئيسيّ وفاعل في أول تجسّدات المصطلح وظهوره في الخطاب الفكريّ للغرب المعاصر, والتي كان لها فيما بعد انعكاسات مفاهيمية في باقي النظم والبنى المعرفية في الحقول الانسانية والعلمية الاخرى, انطلاقا ممّا يراه الكثير من المنظّرين أنها في أصل جوهرها حركة فكرية ظهرت في حقول الفن والثقافة المختلفة، ومن ثمّ وجدت لها تجسّدات في السياسة والاقتصاد والرأسمالية المتأخّرة والعولمة, ولا سيما أنّ هناك الكثير من الخلط والارتباك في أدبياتنا العربية -بل وبشكل أدقّ في أطاريحنا وبحوثنا العلمية في الجامعات وكليات الفنون- يتعارضان ويختلفان مع الفهم والتعريف الغربيّ لتلك الفنون.
نشأة المصطلحات الدالّة على الحركات الفنية
برغم سهولة التصنيف وإطلاق الاصطلاحات على النتاجات الفنية القديمة للحضارات البشرية المتعددة، التي اندرجت مهمة دراستها في سياق البحوث التاريخية والإنثربولوجية والآثارية, نجد أن حقيقة توقف تلك الفنون عن التطور قد سهلت من تلك المهمة, وجعلت جهد الدراسة والبحث في تلك الفنون باتجاهات أفقية تتبنى اصطلاحات واصفة للمنجز التاريخي بصورة بُعدية (لاحقة للمنجز) تعتمد الجغرافيا كعامل بديهي وحاسم. وقاد هذا الامر الباحثين إلى تبني معايير راسخة من حيث اختيار المصطلح المميّز لفنون حضارة عن الأخرى كالمكان، حيث الأرض والجغرافيا، كما نجده في مصطلح فنون وادي الرافديْن، وأحيانًا الزمان أي الحقبة التاريخية التي أنتجت فيها تلك الفنون كما نجده واضحًا في مصطلح فنون بابل القديمة وبابل الحديثة, والأمّة أي السلالة والعنصر البشريّ الذي أنتج تلك الفنون، كما نجده في مصطلح الفنون الفرعونية او الهندية واليونانية وغيرها، وأخيرًا الديانة، أي المعتقد الدينيّ، بوصفه الدافع والمسؤول الأول عن السّمات الجمالية والمضامين الفكرية لتلك الفنون، كما في حالة الفنون الإسلامية والمسيحية والبوذية وغيرها. إلا أننا نلاحظ تعقيدًا متزايدًا كلما اقتربنا زمانيا من الظاهرة بل وأكثر ارتباكا واعتباطا؛ إذ تعايش النتاج البحثيّ والنقدي مع الظاهرة, كحالة فنون ما بعد الحداثة، والتي تهيمن على المشهد الفني لفنون الغرب في أيامنا هذه, وتشكّل اتصالا وتطورًا طبيعيًا في الاتجاه الخطيّ والعاموديّ لتاريخ الحضارة الغربية بما مرّت به من متحوّلات فكرية وعلمية وفلسفية ودينية وسياسية واجتماعية.
ومنذ قرون، لعب النشاط النقدي في بلورة المصطلحات الواصفة للحركات والظواهر الفنية في تاريخ الغرب, ذلك نتيجة توق العقلية الغربية للبحث عن الجديد في جميع أشكال النتاج الابداعي وحساسية ووعي مؤرخيها ونقادها في تلمسهم للمستحدث والمخالف, الأمر الذي قاد إلى تداولية المصطلحات المعادلة للحركات الفنية ذات الإزاحات الضخمة والمتحوّلات العميقة قبل تبلورها بشكل واضح؛ بمعنى: أنّ ظهور المصطلحات الدالة على الحركات الفنية الكبرى وبداية انتشارها قد بدآ في كثير من الأحيان قبل تبلور تلك الحركات الفنية, وكأنّ المصطلح قد مرّ بفترات حضانة سبقت تحقق تلك الحركات بشكل واضح وجليّ. فنرى هذا النزوع مثلا هو المسؤول المباشر عن تأسيس مفهوم ومصطلح النهضة (Renaissance ( وتداوله بين الكثيرين من المؤرخين والنقاد منذ القرن الرابع عشر لوصف تجارب فنية وإبداعية في حقول مختلفة، استشعر بها النقاد اختلافا عن فنون العصور الوسطى. ومن ثمّ عاش المصطلح ومرّ بإرهاصات وحالة من الجّذب والشدّ والرفض والقبول والتفحّص والتنقيب والجّدل إلى أن استقر وأصبح أكثر كفاءة للتعبير عن فنون الغرب في القرنين الخامس عشر والسادس عشر, وهذا ما ينطبق أيضًا على مصطلح الحداثة (Modernism) وهو اشتقاق من كلمة حديث (Modern) والتي استخدمت كلفظ يدلّ على المعاصَرَة قبل ظهور فنون الحداثة المتعارف عليها اليوم بقرون، حيث يعود استخدامها في نصوص نقدية للدلالة على تجارب فنية مختلفة إلى بدايات القرن الخامس عشر, فنجدها مثلا في صفحات كتاب (The Craftsman’s Handbook) للفنان والكاتب الايطالي Cennino Cennini عندما يصف أعمال الفنان Giotto ويقول: “لقد قدم الفنان جيوتو أعمالا حديثة” بمعنى الأعمال المعاصرة, كما وظفت كلمة حديث وحداثة في القرن السادس عشر من خلال وصف الكاتب والرسام والناقد الإيطالي Giorgio Vasari لفنون عصره بالحديثة, وفي فترة متأخرة حين حاول النقاد اطلاق المصطلح لوصف فترة زمنية محدّدة من تاريخ الفنون الاوروبية تعرض المصطلح لمشاهد متكرّرة من الارباك والاختلاف اللذيْن تجسّدا في وجهات نظر متعددة ظهرت في أوج حقبة فنون الحداثة الغربية. فبرغم ما نعرفه من شيوع بداية الحداثة كدلالة تاريخية وزمنية محدّدة مع صالون المرفوضين في باريس في عام 1863 إلا أننا نجد هناك كثيرًا من التواريخ الممثلة لوجهات نظر مختلفة من طرف نقاد ومراقبين بعضها أشار إلى فترة زمنية أقدم تعود للعام 1855 حيث جرى أول معرض دوليّ في باريس عندما أقدم فيه الفنان الفرنسي Coustave Courber على بناء أستوديو خاص بالفنانين, والبعض الآخر رأى أنّ الحداثة بدأت عام 1824عندما قام فنّانا الطبيعة الإنجليزيان Constable وRichard Parkes Bonington بعرض اعمالهما التي تضمّنت دراسات مباشرة للّون من الطبيعة، وذلك في صالون باريس في المعرض السنويّ للفن المعاصر الذي أقامه أعضاء الأكاديمية الفرنسية, وذلك على اعتبار أنّ هذه التجربة كانت الأولى لخروج الفنان من حدود الاستوديو بما يخالف السائد لذلك العصر. ويأتي هذا في حين يُرجع البعض الآخر الحداثة إلى القرن الثامن عشر ويرى بدايتها في عام 1784عندما انتهى الفنان Jacques Louis David من رسم رائعته “قسم الأخوة هوراس” Onth of the Horatii وما تبع ذلك التاريخ من هيمنة للمدرسة الكلاسيكية الجديدة على اوروبا وامريكا, كذلك نرى ما شهدته المواقف النقدية المتأخّرة في القرن العشرين من استمرار للجدل في فهم وتعريف فنون الحداثة، وبشكل خاص ما تجسّد في وجهتي النظر المختلفتين ما بين قطبي النقد في الغرب الحديث وهما الناقد الانجليزي Herbert Edward Read والناقد الأمريكي Clement Greenberg. فبرغم اتفاقهما على الأسلوب كمؤشر أساس في تحديد شكل تلك الفنون سواءً من حيث طريقة تنفيذ العمل الفني كما في المدرسة التعبيرية أم من خلال عملية ادراك الاشكال المخالفة للمنطق الكلاسيكي كما في المدرسة الانطباعية واتفاقهما العام على بُعد الفن الحديث عن الغرض والمنفعة والوظيفة، إلا أنهما اختلفا من حيث تركيز الأول على رسم الاشكال بعيدًا عن مظهرها الخارجي في حين أدّى ولع وتحمّس الثاني للمدرسة التجريدية التعبيرية بقيادة الفنانWassily Wasilyevich Kandinsky إلى التركيز على الخامة والرسم والألوان في العمل الفني الحديث.
بقيت تلك التواريخ المجسدة لاختلاف وجهات النظر بين المراقبين والنقاد، والتي أشارت ضمنيا إلى تأثر التعريف والتحديد الزمني بالمنطلقات الفكرية والفردية لكل ناقد, بقيت إلى أن قطعت الحداثة شوطا كبيرا وتعرّض المصطلح للفحص والتدقيق والمراجعة إلى أن حُسم الأمر لدى غالبية النقاد والمؤرخين وأصبح المصطلح مكافئا لموجة الاتجاهات والمدارس الفنية التي بدأت تظهر منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع المدرسة الانطباعية ) (1880-1870 وما تبعها من تيارات متتابعة في بدايات القرن العشرين.
مصطلح فنون ما بعد الحداثة
جاء مصطلح ما بعد الحداثة ((Post-Modernism في السياق التنظيري في حقل الفنون التشكيلية نتيجة محاولات نقدية راصدة لمتحوّلات وتغيرات جمالية وفكرية في النتاج التشكيلي الغربيّ. ونظرًا لحداثة المصطلح في الأطروحة الفلسفية والنقدية الغربية في حقل الفنون والفنون التشكيلية على وجه الخصوص واستنادًا إلى زخم المتغيّرات والمتحوّلات الهائلة التي كفلتها الروح التجريبية وأسس العقلانية الحداثيّة وما نتج عنها من طروحات جمالية وفكرية متعدّدة وصادمة ومخالفة في سلّم تطوّر النتاج الفني للغرب في القرن العشرين, تعرّض مصطلح ما بعد الحداثة في السياق النقدي إلى ما تعرّضت اليه المصطلحات السابقة بل وبصورة أشدّ عنفا أفرزت الكثير من الإطلاقات والاستخدامات والإسقاطات المختلفة أحيانًا والمتناقضة والمرتبكة أحيانًا أخرى لوصف تجارب فنية، بل وموجات من التجريب والطروحات المتعدّدة في حقل الفنون البصرية. وهذا أمر من الطبيعيّ حدوثه -كما أسلفنا- نظرًا لتعايش المصطلح مع الظاهرة وعدم وجود مسافة زمانية فاصلة تسمح برؤية شموليّة ممّا ينتج عن ذلك عدم وضوح في الرؤية تعقد عملية التحديد لبداية الظاهرة ونشوئها وأشكال تطوّرها وتحوّلاتها الهامة إن وجدت. وبرغم أنّ المصطلح اليوم بات يؤشّر لدى الكثيرين إلى طبيعة وملامح حقبة تاريخية ومناخ ثقافيّ اتّصف به المشهد الثقافي الغربيّ منذ منتصف الخمسينيات من القرن الفائت، إلا أنّ هناك إرهاصات سبقت ولادة هذا المصطلح بالمعنى المتعارف عليه اليوم، تمثلت باستخدامه في فترات متباعدة في الأدبيات الغربيّة تعود إلى أبعد من هذا التاريخ, وهذا ما أشار إليه المفكر الأمريكي من أصول عربيّة إيهاب حسن، حين بحث في حفريّات المصطلح راصدًا رحلته التاريخية. ففي حقل الفنون يذكُر حسن استخدام المصطلح لأول مرة عام 1887 من الرسام الانجليزيّJohn Watkins Chapman في سياق حديثه عن “ما بعد الانطباعية”، وفي 1945 وظّفه Bernard Smith للدلالة على حركة في الفنّ التشكيليّ تتجاوز التجريد, والتي اندرجت تحت إطار الواقعية الاجتماعية في حينها. إلا أنّ شيوع المصطلح وتغلغله في المشهد النقديّ للغرب قد ازدادا في عقديْ الستينات والسبعينات من القرن الفائت، مضطرديْن مع زخم المتغيّرات والطروحات الفكرية في حقل الفنون وما شهدته من إنجازات، بل واتساقًا مع اتساع رقعة النقاش الفلسفيّ العام حول المصطلح كما أسلفنا سابقًا، ما بين معارض ومؤيّد، لقدرته الدلالية على وصف المتغيّرات الفكريّة والمفاهيميّة في جميع أنساق المعرفة في السياسة والاجتماع وعلم النفس واللاهوت وغيرها، والتي لا مُتّسع لتناولها في هذه المقال.
في هذا السياق اتّسع الجدل النقديّ بين معارض للمفهوم معتبرًا ما استجدّ من طروحات فنية استمرارًا للرؤية والقيم الحداثويّة في الفنون، ومن بين هؤلاء النقادClement Greenberg وFélix Guattari و Kirk Varnedoe، وما بين متحمّس مؤمن بحقيقة وجود اتجاهات فنية مخالفة بل مناهضة للقيم والمفاهيم الحداثويّة ومعبّرة عن روح العصر ما بعد الحداثويّ، وقاد هذا الرأي أشدّ الفلاسفة المدافعين عن الواقع ما بعد الحداثويّ كالناقد والفيلسوف الماركسي Fredric Jameson, والفيلسوف Jean Baudrillard. وبرغم استمرار الجدل النقديّ على هذا الصعيد، والذي ما يزال مستمرًّا لدى البعض إلى يومنا هذا, إلا أنّنا نجد أنّ مصطلح ما بعد الحداثة هو حقيقة أخذت تتجذّر في النظريات الفنية المعاصرة وازدادت رسوخًا مع مرور الوقت, كما أصبح استخدام مصطلح الفنون المعاصرة (Contemporary Art) لدى الكثيرين مرادفًا لمصطلح “فنون ما بعد الحداثة. إلا أنّ السؤال المهم هو: متى بدات فنون الحداثة؟ وما التيارات التي تمثلها هذه الحركة الفنية؟ وما المنطلقات الفلسفية والفكرية العامة التي تتسم بها تلك التيارات الفنية؟ وهل مصطلح الفنون المعاصرة هو مرادف لتلك الفنون؟
إختلفت القراءات التاريخيّة والرّؤى النقديّة في تحديد أول التيارات الفنية ما بعد الحداثيّة في حقل الفنون البصرية. وقد شاع في سنوات الستينات والسبعينات واستمرّ إلى منتصف الثمانينات اعتقادٌ بأنّ التيارات الفنية الراديكالية التي ظهرت في أمريكا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية على يد ما سُمّي بالطلائعيين Avant-gardes، هي أوّل اشكال فنون ما بعد الحداثة؛ فبعض النقاد والمراقبين والفلاسفة أمثال Thomas McEvilly وDave Hickey و Fredric Jameson رأوا أنّ فنون ما بعد الحداثة بدأت مع تيار البوب آرت (Pop Art) الذي ظهر في منتصف عام 1950 في بريطانيا، ثمّ انتقل إلى أمريكا في نهاية ذلك العام، ليشتدّ زخمه وتتّضح ملامحه بصورة أكبر عام 1960. واستند ذلك الاعتقاد على ما أحدثه فنّ “البوب” من انقسام ما بين الثقافة العالية (high) والثقافة الهابطة (Low)، ونتيجة توظيفه للإعلانات والصّور المستوحاة من الثقافة الشعبية. وعليه، ساد اعتقاد عام بأنّ هناك تحوّلًا فكريًا أصاب النتاج الفنيّ ما بعد الحرب وانتقل به من مرحلة الحداثة إلى مرحلة مغايرة ومناهضة للمفهوم, فبات ينظر إلى التيارات الراديكالية التي أخذت تظهر مع تيار البوب وما تلاه فيما بعد من تيارات، استنادًا على احتوائها لبعض المناكفات للتيارات الفنية السابقة, كتيار التعبيريّة التجريديّة (Abstract expressionism) والذي تبلور بشكل واضح عام 1946، وما ارتبط به من مفهوم التداعي الحرّ والعفوية المطلقة في التعبير, وفنون التجميع (Assemblage) الذي يعود بجذوره للعام 1950 نظرا لاعتمادها على خامة مغايرة للخامات التقليدية في فنون الحداثة, وفن الأقلية أو فن الحدّ الأدنى (Minimalism) الذي ظهر أوائل العام 1960 كردّ فعل على تعبيريّة كاندنسكي الحداثويّة النزعة أيضًا, وغيرها من أشكال التعبير الأخرى على أنها جميعًا أشكال جديدة مخالفة بل مناهضة للمفاهيم الحداثويّة، وتعبّر عن نزعة ما بعد حداثويّة.
منذ سنوات السبعينات وإلى اليوم توالت أشكال جديدة من التعبير أشدّ راديكالية وأعمق تعبيرًا من حيث مناهضتها لقيم ومفاهيم الحداثة الفنية. فظهر الفنّ المفاهيمي (Conceptual Art) ما بين الأعوام 1966-1972, وفنون الأداء (Performance Art) منذ بداية عام 1970, وفنون التركيب (Installation Art) منذ سنوات السبعينات والثمانينات, وفنّ الأرض (Land Art) الذي غادر به الفنان جدران المتاحف والتحم بالطبيعة، وفنّ الجرافيتي (Graffiti) الذي ظهر في نهاية الستينيات, وفن الجسد (Body Art) الذي تبلور بشكل واضح عام 1970, وفنون الفيديو (Video Art) بأشكالها المختلفة، والتي تعود بداية ظهورها إلى عام 1965، وفن التوثيق (Documental) الذي ظهر في السبعينيات والفنون الرقمية (Digital Art), كفنّ الفيديو والفوتوغراف ومؤخّرا فن الانترنت (Net. Art) الذي ظهر عام 1995, وغيرها. لقد جمعت هذه الأشكال التعبيرية المعاصرة عقيدة واحدة تقوم على رفض تلك الأعمال النخبويّة وسوق الفنّ ودور المتاحف وقاعات العرض لصالح الثقافة الجماهيرية وتقديم أعمال فنية تفاعلية تتجاهل مفهوم الاحساس بالجمال والسعادة الذي تأسّست عليه فنون الحداثة، وتستبدله بفن يطرح أفكارًا ومفاهيمَ تخاطب العقل لا الحواس. وفي الوقت نفسه، لم يخلُ النصف الثاني من القرن العشرين من حركات وتيارات فنية ارتدادية- محافظة إن صحّ التعبير, استندت على استرجاع المفاهيم والقيم الجمالية الحداثوية بصيغ معاصرة؛ فقدّم فنانوها أعمالا تحت عناوين ومسمّيّات مستلهمة من المدارس والتيارات الحداثوية كتعبير واضح عن رفضهم لمفهوم الفكرة في العمل الفني، التي أخذت تسيطر على الفن الغربيّ في العقود الثلاثة المتأخّرة من القرن العشرين, وكإعلان واضح لانتصارهم للقيمة الجمالية والشكلية التي نادت بها فنون الحداثة. ومن أبرز تلك التيارات تيار(New-expressionism) الذي ظهر أواخر عام 1970, وتيار (Neo-Pop) الذي ظهر في الثمانينات من القرن الفائت, وتيارNeo-minimalism أو ما يدعوه البعض بـ Neo-geometric والذي ظهر في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.
في هذا السياق تزاحمت تلك التيارات الفنية وتنوّعت عبر العقود الفائتة, إلى جانب التطوّر في النقاش الفلسفي العام حول مفهوم ما بعد الحداثة والذي بدا بشكل واضح ودقيق مع تناول المصطلح بوصفه ظاهرة وحركة فكرية محمّلة بمجموعة من التحوّلات أصابت جميع سياقات المعرفة في وقت متأخّر، وتحديدًا عام 1979 من خلال كتاب حالة ما بعد الحداثة للفيلسوف الفرنسي Jean-François Lyotard, وما صاحب ذلك الكتاب وما تبعه من رؤى فلسفية مفسّرة للظاهرة الما بعد حداثية لفلاسفة ومفكرين آخرين وما رشح عنهم من نظريات وآراء لمفاصل التحوّل، لا سيما ظهور نظرية المجتمع ما بعد الصناعيّ ومفاهيم التلقي في عصر وسائل الاتصال والثورة المعرفية وتغير مفاهيم الاستهلاك والعولمة وغير ذلك من الآراء والتحليلات التي أرّخت لتحوّل المجتمعات الغربية من الحداثة إلى ما بعدها بشكل أكثر دقة. وقد انعكس ذلك على الطروحات النظرية في سياق الفنون البصرية وساهم في تأسيس وبلورة مقاربات نقديّة للمفهوم بصورة أكثر وضوحًا من حيث التعريف، ووضع الإطار الزمنيّ لتلك الفنون وأشكالها المعبّرة عن ذلك التحوّل, فذهب كثير من النقاد إلى ما تبنّاه سابقا الفيلسوف الأمريكي Clement Greenberg في دفاعه المُستميت عن فنون الحداثة ورأوا أنّ فن البوب آرت وفنّ الحدّ الأدنى وفنون التجميع هي أشكال تعبير حداثيّة عبّرت عن الحداثة في مرحلة متأخّرة. وفي هذا السياق اندرجت تلك التيارات لدى الكثير من النقاد تحت ما تم الاصطلاح عليه الحداثة العليا (High modernism) والتي كثر استخدامه في حقول النقد الفني بشكل خاصّ في الموسيقى والتشكيل والأدب، للتعبير عن مرحلة فكرية ارتبطت بحقبة الحداثة, تمامًا كما جرت العادة في تقسيم العصور السالفة إلى مراحل كالعصور الوسطى وتقسيمها إلى عصور مبكرة ومتوسطة ومتأخرة، وكذلك عصر النهضة والباروك للإشارة إلى متحوّلات طفيفة مهّدت لعصور لاحقة، إلا أنها ترتبط فكريا بنفس الحقبة الزمنية وتشكل امتدادًا لها.
في هذا السّياق ذهب أغلبية النقاد والباحثين إلى التأكيد على أنّ الحركات الفنية التي أخدت تتبلور بشكل واضح في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين والتي تبعت تلك الحركات وتأسّست على البُعد المفاهيميّ، هي التعبير الدقيق عن فنون ما بعد الحداثة, بل وذهب بعضهم مثل Peterson James إلى القول إنّ تلك الحركات التي جمعها الاحتفاء بالفكرة على حساب الشكل الفني ورفضها لسوق الفن ومفهوم النخبوية وارتباطها بالثقافة الشعبية، حملت متغيّرات وخصائصَ فكرية استهدفت السمات العامة لتيارات الحداثة العليا بشكل خاصّ، وليس خصائص فنون الحداثة بصورة عامة, نظرًا لما تعمق بتلك التيارات المتأخّرة من مفاهيم أكّدت غموض الفكرة والتطرف في التجريد والشكلانية. وهذا ما عبّرت عنه بشكل واضح فنون التجميع وما تلاها من إضافة لمواد ووسائط متعدّدة على سطح اللوحة, وبصورة اشدّ تيار التعبيريّة التجريديّة للفنان جاكسون بولوك وتيار الأقلية. أمّا فنون البوب فلربما ارتبطت بفنون ما بعد الحداثة من حيث استخدامها للصور والدعاية وقربها من الثقافة الشعبية، إلا أنّها لم تنطلق من المنطلقات الفكرية العامة لفنون ما بعد الحداثة الامر الذي أبقاها كتيار ممهّد وليس أحد أشكال فنون ما بعد الحداثة كما يعتقده البعض.
في سياق متّصل قادت تلك الخلاصة إلى مناقشة مفهوم الفنون المعاصرة بوصفه رديفًا لدى البعض عن مصطلح فنون ما بعد الحداثة, لاسيّما أنّ المصطلح ذا الدلالة الزمنية يؤشر بشكل عام إلى مجموع التيارات الفنية التي أخذت تظهر بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرّت إلى اليوم. إلّا أنّ هناك كما أسلفنا الكثير من التيارات المحافظة والتي تعود بجذورها إلى القيم الجمالية الحداثوية وتستخدم اللوحة كوسيط تقليديّ وتهتمّ بسوق الفنّ بما يخالف ما تنادي به تيارات فنون ما بعد الحداثة. من هنا اتفق الكثير من النقاد على أنّ مصطلح الفنون المعاصرة هو مصطلح أكثر شمولية من فنون ما بعد الحداثة، ويضمّ جميع التيارات الفنية التي ظهرت منذ الحرب العالمية الثانية سواءً أكانت التيارات المحافظة أم المناهضه لفنون الحداثة.
من هنا بات واضحًا أنّ حركة ما بعد الحداثة في الفنون لا تحمل دلالة زمنية بقدر ما هو مصطلح له دلالاته الفكرية والنقدية التي تؤشر إلى اطار فكري جامع لعدد من التيارات الفنية وانماط التعبير التي بدأت تغزو المشهد الفني في الغرب منذ الستينات من القرن العشرين وإلى الآن، كنتيجة لمجموعة من التحوّلات والمتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة والاقتصاديّة, وتركّزت في فلسفتها العامة على هدم الحاجز الذي شيّدته فنون الحداثة ما بين الثقافة الراقية أو ما يُسمّى بثقافة النخبة وما بين الثقافة الهابطة أو ما يسمى بالثقافة الجماهيرية, الأمر الذي منحها الفرصة لإعادة قراءة وصياغة لمفهوم العمل الفنيّ, ورسالة ودور الفنان ووظيفة المتلقي والعلاقة ما بينهما.
(د.نصر جوابرة ناقد وباحث فلسطيني حاصل على الدكتوراة من جامعة غرناطة في إسبانيا)
10 أكتوبر 2016
رااائعة
2 يونيو 2015
سلمت اناملك دكتور لهذا الشرح الوافي لمجمل الحركات الفنية لما بعد الحداثة واصل المصطلح…اخوك وصديقك حيدر كطافة