وايت كرسماس؟/ تمارا ناصر
إكتشف أهلي ودار عمي أنّ مسافة قصيرة تفصلنا عن شجرة الكريسماس في دوّار الساعة… صرخ جواد ودنيا أنهما يريدان رؤيتها. أبديت أنا الاعتراض؛ أريد الذهاب إلى الفندق لمراسلتكَ
>
|تمارا ناصر|
شعرتُ بقليل من الراحة بفضل الوقاية الشمسية لشبابيك السيارة الجديدة والتي خطر لي أن أصفها بـ “السحرية” لدنيا, أختي الصغيرة (6 أعوام)، التي كادت أن تنهار عندما اكتشفت أنّ ليس باستطاعة العالم الخارجي أن يراها من خلال الشباك. ألفت دنيا شباك السيارة القديمة التي باعها أبي قبل يومين واستبدلها بسيارة جديدة “بي إم دبليو” سوداء فاخرة أعلنها هدية الكرسماس للعائلة. سألته أمي مستفزّة وهي تتفحّص السيارة: “يعني بنفع البنات يسوقوها”؟ فأجاب: “لا”. فصاحت دنيا فورًا بأنّ هذه السيارة أبشع هدية في العالم.
فكّت دنيا حزام الامان عندما اقتربت سيارتنا من سيارة دار عمي وبدأت تشجّع أبي على أن “يدعس بنزين” لكي يسبقهم: “بابا إدعس إدعس إدعس إدعسس”. فرح أبي كثيرًا واغتنم فرصة استعراض مواهب السيارة أمامنا- وبالذات أمام أمي. قد يكون شعر بذلك الوميض الخائب الذي بدأ يملأ عينيها. قفزت دُنيا من مكانها عندما توازت السيارتان وارتمت إلى جهتي ومدّت لسانها وحَوَلت عينيها وصنعت بيديها حركات كي تقاهر (تمازح) ابن عمي الذي جلس أيضًا في المقعد الخلفيّ. أزحتها عني وقمت بتذكيرها بأنّ جواد لا يستطيع رؤيتها, فركلت دنيا مقعد أبي وصرخت بأنها تكره السيارة الجديدة. حاولت امي تهدئتها فقالت: “إنت بتشوفي الّي برّا بس الّي برّا بشوفوكيش زي عباية هاري بوتر”. علّق أبي مازحًا: “إنت بتشوفيش الّي برّا بس الّي برّا بيشوفوكي”. ضحكت أختي سما لأنها عرفت كيف سيكمل أبي تسلسل هذه الفكرة/ النكتة: “الّي جوّا بيشوف الّي برّا بس الّي برّا بيشوفش الّي جوا, الّي برّا بيشوف الّي جوّا بس الّي جوّا بيشوفش الّي برّا, الّي برّا بيشوف الّي جوّا والّي جوّا بيشوف الّي برّا, لا الّي برّا بيشوف الّي جوّا ولا الّي جوا بيشوف البرّا”، بينما عَلا ضحك سما (فهي تحبّ الحس الفكاهيّ الخاص بأبي).
كانت دنيا قد هدأت فسألتني: “وينتا منوصل؟” ردّت عليها أمي: “كمان شوي” وأغمضت (أمّي) عينيها.
.
كنا في طريقنا إلى رام الله للاحتفال بعيد الميلاد برفقة دار عمّي. قلتُ لدُنيا إننا سنصل بعد قليل إلى الحاجز وسألتني ما هو الحاجز, فقلت لها باختصار إنه حاجز مليء بالجنود الإسرائيليين لكي يعترضوا طريقنا ويفحصوننا في طريق العودة. همست لي قائلة: “بس صح بيشوفوناش إحنا ورا؟” قلت: “صح”؛ ”طب افتحي الشباك”. أجبتها بأنّ الطقس بارد, فمالت برأسها إلى جهة سما فعرفت دنيا من نظرات سما أنها لن تفتح لها الشباك حتى لو كان آخر يوم في حياتها. صاحت دنيا بأنها تكره سما وتكره السيارة. قلت أنا لدنيا أن تنظر كم الطقس بارد في الخارج حتى إنه يوجد ثلج. فقالت أمّي: “وايت كرسماس”. سألتْ دنيا وسما عن هذا المصطلح, فشرحت أنّ هذا المصطلح بالإنجليزية ويُقال إذا غطى الثلج الأرضَ في يوم العيد، عندها يقولون إنه “وايت كريسماس”. أصدرت سما صوتَ “باه”، فعلّق أبي: “مفكري حالك بأميركا؟ شوفي الثلج كيف كتل محجرة عفن وسواد”. فقالت دنيا: “بدي أشوف ثلج أبيض مش أسود”. ردّت عليها أمي قائلة: “يمكن بس نفوت لجوّا رام الله منشوف ثلج أبيض, أصبري حبيبتي”.
وصلنا الحاجز فكان مزدحمًا كالعادة. تأففت سما ووضعت السماعات الكبيرة على رأسها, كانت أمي قد اتّكأت وأغمضت عينيها كأنها تصلّي كي ينتهي هذا الازدحام, لكنها في الحقيقة كانت مغمضة العينين فقط. بدا على أبي الاضطراب, واستغرقني بضع ثوانٍ كي أفهم السبب. كنت أعي بقوة في بداية الرحلة أننا نجلس في السيارة الجديدة, ولكن عندما اجتزنا حيفا نسيت السيارة ونسيت سبب وجودي فيها مع العائلة. كنت غارقة في استحضار قبلتنا الأخيرة, برغم مقاطعات دنيا المتكرّرة. أحاول قدر الامكان التجاوب مع دنيا, لكن قبلات البارحة تجتاحني, فأتحدّث باقتضاب وأجيب باختصار. شيء ما في تعابير وجه أبي جذب اهتمامي. عرفت أنه قلق على سلامة السيارة, وقبل أن تُتاح لي الفرصة لسؤاله، أطلق مسبّة لم يكملها: “يلعن…”، فسألته: “إذا سيارتين إسرائيليات بعملوا حادث برام الله التأمين بيغطّي؟” قال بشكل قاطع: “لا!” ثم كادت سيارة أن تصطدم بنا, فضغط أبي بشدّة على الزامور وأطلق مسبّة أخرى كان قد أتمّها هذه المرة: “يلعن ربك!”.
فتحت أمي عينيها ولكَشَت كتفَه غاضبة: “يا زلمة الدنيا عيد, سبّ على إشي تاني”. شَتم: ”يلعن الساعة!” فقالت دنيا: “يلعن السيارة”، وبدأ أبي: “يلعن الساعة والسيارة ورام الله والحاجز والعرب واليهود ودار عمكو اللي ورانا”. نظر أبي في المرآة كي يرى ما إذا نجح في إضحاك سما, لكنها لم تكن تضحك. لم يضحك أحد فينا.
.
عبرنا الحاجز بعد نصف ساعة. عندما صرنا داخل رام الله, رنّ هاتف أبي وكان المتصل عمّي يعلن بصوت إذاعيّ: “أهلا وسهلا فيكو في رام الله. فلتبدأ الاحتفالات!” وقام أبي بالتصفيق وقفزت دنيا في مكانها وقامت بصفع سما كي تنزع عنها السّماعات, فقرصت سما دنيا وجعرت بها بألا تجرؤ على لمسها مرة أخرى. “محطتنا الأولى ستبدأ عند زلاطيمو, مع وجبة دسمة من الكنافة… مالها الصبايا؟ يللا ضخة سكّر تبلّش يومنا”. وافق الجميع أن نبدأ عند زلاطيمو وبعدها “شوية مشتريات” وبعد ذلك نعمل تشيك إن في الفندق.
أوقفنا السيارتين ونزلنا منهما وسلمنا على عمي وزوجته وأولادهما. جواد يكبر دنيا بسنة واحدة فقط وشادي وسما في نفس العمر. أنا الكبيرة- أقصد الأكبر. أمسكت ببيد دنيا كي نقطع الشارع سوية. هتف جواد موجّهًا صيحاته إلى سما كي تلحقه إلى كومة الثلج, لكنني شددتُ على يدها وقلت لها إن هذا الثلج ليس للّعب, فتبعنا جواد إلى الداخل محنيّ القامة وفي عينيه نقمة. كان زلاطيمو دافئا, فخلعنا عنّا طبقات الملابس, وبينما علقت معطفي على الكرسي رنّ هاتفي مُعلنا وصول رسالة منكَ. كدت أذوب عندما قرأت اسمك وأذوّب هذا الثلج المستعصي: “كلّ سنة وإخواتنا وإخواننا المسيحيين بخير :p. بحبّك رؤى”.
“رؤى, رؤى.. وين سرحانة؟” لكشتني أمي فصحوت من غيبوبتي على سؤال أبي: “كنافة نابلسية؟” هززتُ بالإيجاب. لا أعرف ما فاتني بالضبط وأنا في هذه الغيبوبة القصيرة لكنني عندما عدتُ كانت زوجة عمي تطلب من الجميع أن يحاول قدر الإمكان عدم إقحام العبرية في حديثهم هنا. ردّ شادي مناطحا: “حكت الدكتورة. وشو مع عربياتهن هنّي؟” ردّت سما: “طيب بس أكيد ناس متل هاد المِلتسار بفَوتوش إنجليزي”. ثم جاء هذا النادل يحمل الكنافة فاختُتِم أهمّ نقاش كان قد جرى خلال الرحلة.
إنطلقنا إلى محطتنا الثانية. في البداية أردت المماطلة في الردّ على رسالتك, لكن حالما صعدنا السيارة نظرت في الهاتف ولم يكن هناك إرسال, فذُعرت! لم يكن بإمكاني الاعتراض على المحطة الثانية, الكلّ يريد شيئًا ما من هذه الدكاكين. أردتُ توليف عذر لأسرّع عملية الذهاب إلى الفندق. قلت لأمي إنني أشعر بدوار في رأسي, فطلبت مني أن أصبر قليلا، وقالت إنّ رَفع رأسي عن الهاتف قد يساعد في هذا. تبعتهم بخطوات بطيئة, أرفع الهاتف إلى السماء تارة وأنزله مستسلمة تارة أخرى. إصطدمت ببعض المُشاة حتى وصلت إلى دكان الملابس التي دخلها الجميع.
خرج أبي وسما في نفس الوقت من قمرتي تبديل الملابس, وقالت أمي إنّ الملابس تبدو جيدة. قالت إنّ انقطاع الكهرباء لا يسمح لها بالرؤية جيدًا, فسألت البائع إذا كان يعتقد أنّ الكهرباء ستعود في الدقائق القريبة. قال لها إنه لا يدري, ولم تبدُ عليه أيّ بوادر قلق. سأل البائع أمي: “من وين الأوادم؟” نظرت أمّي إلي وقالت “فلسطين”، كأنها تقول هذه الكلمة لأوّل مرة في حياتها. نظر إليها أبي بتعجّب وقال لها: “شو مفكري حالك بالأردن؟ مهو عارفك من فلسطين”. ضحكت أمي وأبي: “نحن من الشمال”؛ “أهلا وسهلا بحضراتكو”.
.
إكتشف أهلي ودار عمي من البائع أنّ مسافة قصيرة تفصلنا عن شجرة الكريسماس في دوّار الساعة, وبحماس صرخ جواد ودنيا أنهما يريدان رؤيتها. أبديت أنا الاعتراض؛ فأنا لا أريد رؤية شجرة ولا بطيخ. أريد الذهاب إلى الفندق لمراسلتكَ. قام الجميع بالتردّد بعد اعتراضي, لكن سما وجواد بدأا بالصراخ: ”بَكرَه رؤى!”, فتنازلتُ وقلتُ هيا إذًا ولكن بسرعة! مشينا إلى الدوار وكانت هناك شجرة مزيّنة بالأحمر. رفع شادي ثم زوجة عمي وأمي هواتفهم لتصويرها, بينما ركض جواد ودُنيا حولها. قامت أمي بتحذير دنيا من الركض, فقد تتزحلق في حجارة الثلج هذه. ثم سألت: “ليش الشجرة مزينة بس لنُصها؟” وعندما حاول جواد تسلق الشجرة كي “يُحسمِس” على الزينة فهمت أمي السبب.
“يلا” أعلنتُ أنا، “إسا ع الأوتيل”. عاد جواد ودنيا للصراخ: “بدناش, بدناش!” قلت أنا “مْبَلا” ونظرتُ إلى هاتفي فرأيتُ أنّ هناك شحطتيْ إرسال. أسرعت بكتابة رسالة: “وصلنا رام الله, يا ريتك هون, بس إزا هيك, يا ريتني أنا عندك”. سقط الهاتف من يدي فجأة, وتلويتُ في مكاني حتى سقطتُ أرضًا، وبدأت أفقد من وعيي تدريجيًا بسبب حجر الثلج الذي رشقني به جواد.
9 مارس 2014
رائعة والى الامام!!
7 مارس 2014
جميل جدا
3 مارس 2014
قصة رائعة ومضحكة احببت الرمزية