الرواية العربية: البوكر و”الفصاحة الجديدة”/ خالد الحروب
يرى عبد الله ابراهيم ان التنافس الحقيقي بين الروايات المرشحة كان بين طريقتين في السرد، الاولى تقليدية في ابداعها، والثانية مجددة ومغامرة
.
|خالد الحروب|
في تعقيبه الممتع على مضمون وشكل الروايات الفائزة بالقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لهذا العام يلتقط الزميل والناقد العراقي عبدالله ابراهيم بروز ما يسميه بـ “الفصاحة الجديدة” في تقنيات السرد الروائي العربي. لا علاقة لهذه الفصاحة باللغة ذاتها وفصاحتها التقليدية، بل هي تصف الآلية الروائية ذاتها، الصنعة، الأدوات والحيل، التمثيل الصادم، والتوظيف المفاجئ لأدوات خارجة عن التوقع، مُضافا إلى ذلك الخيال الجامح. انخرط صديقنا مع زملاء أربعة آخرين في لجنة تحكيم الجائزة لهذا العام، ما اضطره لقراءة 156 رواية تنافست للوصول إلى القائمة الطويلة اولا (16 رواية) ثم القائمة القصيرة (6 روايات) والتي اعلن عنها يوم 10شباط/ فبراير في عمان.
تؤدي هذه التجربة الغنية والمكثفة والتي يجب ان تنجز تحت ضغط الوقت، اي قراءة كل تلك الروايات في خمسة شهور تقريبا، إلى تكثيف لحظة الاطلاع على خلاصات المنجز الروائي العربي ومقارنته ببعضه البعض، والوصول إلى خلاصات نقدية تفتح مساحات جديدة للنقاش. معنى ذلك ان آلية اي جائزة ادبية، إن اتسمت بالتماسك والديمومة والصرامة، لا تفرز لنا اعمالا ادبية متفوقة ومبدعة وحسب، بل تدفع ايضا بعملية النقد الأدبي والثقافي إلى آفاق جديدة.
وربما يمكن تقديم اقتراح هنا يتمثل في ضرورة الاستفادة من تجربة لجان التحكيم في الجوائز الأدبية، مثل البوكر وغيرها، في تعميق الجدل والنقاش في ميدان النقد الأدبي عبر الاستفادة من أعضاء لجان التحكيم إن في شكل مؤتمرات او ندوات متخصصة تُنظم عقب الإعلان عن النتائج، وحيث لا تزال التجربة ومنتجاتها طازجة في عقل ووجدان اولئك الأعضاء الذين تعرضوا لـ “تسونامي” أدبي في فترة وجيزة.
استدل عبدالله ابراهيم بإبداعات وصور وحيل وترميزات تضمنتها الروايات الست الفائزة بالقائمة القصيرة، مُستشهدا على “الفصاحة الجديدة” التي تحملها كثير من الروايات الجديدة. وهو يرى ان التنافس الحقيقي بين الروايات المرشحة كان بين طريقتين في السرد، الاولى تقليدية في ابداعها، والثانية مجددة ومغامرة ومبهرة في ابداعها، وكلتا الطريقتين تتمتع بمشروعية الفوز. لكن التفوق الاخير، وهو تقييم ذائقي وانطباعي في نهاية المطاف ويعود للمتذوق او القارئ او الناقد، كان في رأي إبراهيم من نصيب النوع الثاني من الكتابة.
الامثلة التي يسوقها عبدالله ابراهيم من الروايات الفائزة مثيرة، كما ذكرها امام القاعة الممتلئة بالجمهور في مؤسسة عبد الحميد شومان في عمان. فمثلا، في رواية خالد خليفة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” يرسم الروائي خطوط تواز بين الحياة تحت ظل البطش والاستبداد في حلب خلال العقود الأربعة الماضية وكيف آلت إلى التعفن والتذري والتفكك، والعفن الذي آلت إليه جثة الأم وتحولها إلى خردة يجب التخلص منها. يقدم خليفة تاريخاً اجتماعيا وتفصيليا بشكل مذهل للناس والأفراد والعائلات التي تتحلل وتعاني من الخراب الكلاني العائدة جذوره إلى الاستباحة الجماعية من قبل السلطة السياسية.
في رواية احمد سعداوي، “فرانكشتاين في بغداد”، تتبدى “الفصاحة الجديدة” في واحدة من اقصى تجلياتها. فهنا وفي قلب بغداد يطلع وحش كريه لا اسم له، “الشسمة”، يقتل ويخرب، ونعرف انه قد خُلق من تجميع أعضاء اجساد بشرية بريئة تقطعت وتشتتت وطارت جراء التفجيرات الإرهابية، وان هذا الوحش صنعه “هادي العتاك” الذي يشتري ويبيع الأثاث المستعمل، ثم افلت الوحش عن السيطرة معلنا انه في مهمة مقدسة هي الانتقام لكل الأبرياء والضحايا الذين سقطوا بلا سبب، وانه يقوم بقتل القتلة والجلادين فقط. كلما قتل قاتلا ارتاح جزء من جسده كان قد الصق فيه من جسد بريء قتل، ونتيجة لذلك الارتياح يتحلل ذلك الجزء ويتشوه الوحش. يريد الوحش البقاء على الحياة حتى يستمر في القتل فليصق في جسده اجزاء من الذين يقتلهم، من القتلة والجلادين، فتختلط فيه دماء الضحايا والقتلة. فرانكشتاين هو عراق ما بعد الاحتلال حيث يتلوث الجميع بالدم، ويدورون في دوامة الضحية والجلاد.
الرواية العراقية الثانية التي فازت ضمن القائمة القصيرة هي “طشاري” لإنعام كجه جه، وهي تنتمي ايضا في اجزاء كبيرة منها الى مدرسة “الفصاحة الجديدة”، بتعبير عبدالله ابراهيم. هنا نلاحق عائلة عراقية مسيحية لم تكتشف هويتها الدينية على مدار عقود طويلة إلا في زمن “فرانكشتاين”، وتحت وطأة الدم تتشتت في أصقاع الأرض جميعها، بمن فيهم وردة الولادة التي اشتغلت في توليد الأمهات عقودا طويلة من الزمن، وها هي الآن تغادر العراق وهي في التسعين من عمرها. يموت افراد العائلة في المنافي ولا يسير في جنازاتهم احد ولا يعرفون اين يدفن احباؤهم. واحد من العائلة يقرر بناء “مقبرة افتراضية” على الإنترنت يبني فيها قبراً لكل ميت جديد: لا يلتقون أحياء ولا أمواتا في الواقع المعاش، والميت، يلتقون أمواتا في الأثير وحسب.
في “الفيل الأزرق” للمصري احمد مراد تحملنا الفصاحة الجديدة إلى عوالم مخلتطة للرواية البوليسية والإثارية في سياقات صراعات السيكولوجيا الفردية وتقلباتها وغموضها. وهنا يُقارب الروائي “المنطقة الحرام” بين الوعي واللاوعي ونراها تندثر في الرواية، وإثرها تسيح الأشياء والمشاعر والرغبات والأزمنة فوق بعضها البعض. نتابع رحلة اكتشاف يحيى لذاته ومن خلال تلك الرحلة نتابع الطيات المتراكمة للمجتمع وتقلباته وانهياراته الداخلية.
قد لا يتفق البعض مع عبدالله ابراهيم وتركيزه على “الفصاحة الجديدة” وإيلاء التقنية والأداة والحيلة اهتماما مركزيا في النقد الأدبي، لكن الإضاءة الملفتة على هذه المساحة التي تزداد اتساعا في السرد الروائي العربي مهمة ومفيدة وتفتح نوافذ إضافية وتغري بالبحث والنقاش. وايا ما كانت الزاوية التي يتم تدوير الإضاءة النقدية تجاهها فإن المحرك الأساسي لها يجب ان يتمحور حول درجة المتعة والإمتاع. ففي المقام الاول تُكتب الرواية من اجل القراء لا من اجل النقاد وإضاءاتهم. ما يقوله النقاد يأتي بعد ان تحقق الرواية النجاح في اختبار المتعة ـ التي هي، وكما أشارت زهور كرام الناقدة المغربية وزميلة عبدالله ابراهيم في لجنة التحكيم، حق مقدس للقارئ منذ أرسطو وحتى الآن.
(كاتب وأكاديمي فلسطيني؛ عن “القدس العربي”)