مسلسل “الجماعة” وتحديات الديمقراطية
اللافت للنظر في تجربة الإخوان الـمسلـمين حسب مسلسل الجماعة، ازدواجية السياسة والدين. فقد بدأ التنظيم كجماعة دينية لا تعنى بالسياسة، وبعد أن اشتدّ عودها دخلت الـمعترك السياسي، وطرحت في تعبئتها الداخلية من دون ضجيج هدف إقامة “دولة إسلامية”
مسلسل “الجماعة” وتحديات الديمقراطية
|مهند عبد الحميد|
حين يختفي الحوار ويفشل التواصل في إطار الـمجتمع والحركة السياسية، يتعذّر التفاهم والوصول إلى حلول أخلاقية للخلافات. وفي هذه الحالة تحلّ الكراهية ويصبح العنف الفكري والمادي سيد الـموقف. هذا النوع من الخلاف الحادّ يبرز الآن على خلفية عرض المسلسل التلفزيوني السوري “ما ملكت أيمانكم” للـمخرج نجدة أنزور، وعرض المسلسل المصري “الجماعة” للمخرج محمد ياسين والمؤلف وحيد حامد.
“الجماعة” عمل فني فتح ملفات جماعة الإخوان الـمسلـمين أواخر العشرينيات وصولاً إلى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، في وقت تشهد فيه الحركة الإسلامية اتساعاً في نفوذها الديني والسياسي داخل مصر وفي بلدان عربية وإقليمية. وكشف المسلسل عن الخلاف بين الإسلام السياسي وخصومه حول قبول أو رفض النقد، كما لم يكشف من قبل. ففي الوقت الذي تتعرض فيه الاتجاهات القومية والعلمانية واليسارية ورموزها للنقد والتشريح يرفض الإسلام السياسي النقد ويضع رموزه وقياداته فوق النقد وفي موقع المقدس. وكل من ينقد أخطاء وسياسات ومواقف الإسلاميين يضع نفسه في خانة المسيء للمقدّس، وكل من ينتقد تفسير النصّ، يضع نفسه عدواً للنص. وهذا ما حدث بالفعل، فقد اتهم أحمد سيف الإسلام، نجل حسن البنا، مؤلف الـمسلسل، “بالكفر والعداء للدين وبأنه لا يؤمن بالإسلام ولا الـمسيحية ولا اليهودية وبأنه عدو الله”. ومن جهة أخرى وضعت المواقع الإلكترونية الإسلامية أسماء كل الـمشاركين في الـمسلسل في “القوائم السوداء”.
إنّ الحملة التحريضية التي تصل حدّ الإرهاب الفكري ضد الـمسلسل والـمشاركين فيه تعكس إلى أي مدى يتناقض هذا الاتجاه الـمركزي في الإسلام السياسي مع الديمقراطية ومع مبدأ الحق في الاختلاف بين البشر غير الـمنزلين وغير الـمقدسين والـمعرضين للخطأ أحياناً.
يقول وحيد حامد إنه استند إلى مذكرات حسن البنا وكتابات مؤرخي الجماعة وقادتها أمثال عصام العريان وعبد الستار الـمليجي، ومجموعة من الوثائق في الأرشيف الحكومي، ولـم يعمد إلى كتابات خصوم الجماعة. وبهذا المعنى يقول المراقبون إنّ المسلسل كان موضوعياً بتقديمه حججاً ومعلومات. ويستطيع كل مشاهد التعرف إلى عناصر القوة في تجربة الجماعة وفي مقدمة ذلك القدرات القيادية للـمرشد وتأثيره الـمميز في أوساط الشباب، إضافة إلى الاهتمام الـمركزي بالتعليم والـمدارس والـمساجد كروافع للبناء التنظيمي، كما يقدم خبرةً هامةً في مجال بناء الـمؤسسات وبناء القوة من خلال تدريب أعداد كبيرة من الشباب، والقدرة على التأثير والحشد ونشر النفوذ. وكل ذلك مزايا مهمة جداً جعلت البعض يقول إنّ المسلسل يسدي خدمة كبيرة للإخوان الـمسلـمين، وهو ينقل خبرات الـمؤسسين في مجال التنظيم والتأثير والحشد الجماهيري ومصداقية وجدية القيادة حيث لـم يسجل الـمسلسل أي مظاهر للفساد الـمالي والأخلاقي.
مقابل ذلك طرح الـمسلسل قضايا تستحق التوقف والـمحاججة. ليس مطلوباً من الإخوان الـمسلـمين التسليم بها وإنما محاججتها توطئة للاعتراف بالأخطاء، وما أكثر أخطاء النخب السياسية على اختلاف ألوانها بما في ذلك الإسلام السياسي.
يقول وحيد حامد إنه استند إلى مذكرات حسن البنا وكتابات مؤرخي الجماعة وقادتها أمثال عصام العريان وعبد الستار الـمليجي، ومجموعة من الوثائق في الأرشيف الحكومي، ولـم يعمد إلى كتابات خصوم الجماعة
اللافت للنظر في تجربة الإخوان الـمسلـمين حسب مسلسل الجماعة، ازدواجية السياسة والدين. فقد بدأ التنظيم كجماعة دينية لا تعنى بالسياسة، وبعد أن اشتدّ عودها دخلت الـمعترك السياسي، وطرحت في تعبئتها الداخلية من دون ضجيج هدف إقامة “دولة إسلامية”، وحاولت أن تترك بصماتها في الحياة السياسية، لكن الجماعة عندما تضعف أو تدخل في مأزق تعود مرة أخرى لتعريف نفسها بأنها جماعة دينية.
موقف الجماعة من الـمسألة الوطنية يحتل من حيث الأهمية مراتب أقل شأناً، وهذا يثير الجدل حقاً. فمقاومة الاحتلال البريطاني جاءت في سياق توريط حكومة النقراشي، كما يقول الـمسلسل، وتفجيرات القاهرة جاءت لتحويل الاهتمام عن الاغتيالات الداخلية، علـماً أن التفجيرات استهدفت الـمتاجر والأماكن التي يمتلكها يهود مصريون، وألحقت خسائر بشرية ومادية بالـمواطنين. وعندما كانت الجماعة تدرب مجموعات الشباب حددت هدفاً ملتبساً لها عندما قالت: انها تعد العدة لـمواجهة “الأعداء”. سياق الـمسلسل يشير إلى أنّ الهدف الـمركزي للجماعة هو السيطرة على الـمجتمع، وبعد ذلك السيطرة على السلطة. لـم يلـمس الـمشاهد إعطاء وزن هامّ في تعبئة الجماعة ضدّ الاحتلال البريطاني إعلاءً للـمسألة الوطنية التحررية. وهنا يميل الـمرء إلى تصديق ذلك، لأنّ الـموقف ذاته تكرر مع فرع الجماعة في فلسطين، بعد الاحتلال الاسرائيلي العام 67. حيث امتنع تنظيم الإخوان عن مقاومة الاحتلال على امتداد عقديْن، باستثناء تنظيم الجهاد الـمنشق عن الإخوان الذي طرح الـمقاومة أواخر السبعينيات. ثم أعلن تنظيم الإخوان عن حركة الـمقاومة الإسلامية “حماس” العام 1988 فقط.
الـموقف الـملتبس من الـمسألة الوطنية وثيق الصلة بالتفاهمية ــالتي لـم تخلُ من دعمــ مع البريطانيين ومع الفرنسيين، ووثيق الصلة بالـموقف من القوى الاجتماعية السائدة، كالعلاقة بالقصر (الـملك فؤاد والـملك فاروق) الذي يمثل كبار الـملاك والإقطاع والكمبرادور، تلك العلاقة التي شهدت مداً وجزراً في مراحل مختلفة وكشفت عن استعداد الجماعة للتفاهم مع النظام الملكي، مقابل صراع الجماعة مع الوفد الذي كان يمثل البرجوازية الوطنية الطامحة إلى الاستقلال الوطني، إضافة إلى علاقة الجماعة بأوساط سعودية على قاعدة مواقف مشتركة.
عندما كانت الجماعة تدرب مجموعات الشباب حددت هدفاً ملتبساً لها عندما قالت: انها تعد العدة لـمواجهة “الأعداء”
وأسلوب الجماعة المتبع في حل الخلاف لا يقلّ أهمية عن القضايا الأخرى، فقد لجأت الجماعة إلى العنف والاغتيالات والتفجيرات بحسب المسلسل لحلّ الخلافات الداخلية، وكان الـمناهضون للجماعة يوضعون في مرتبة أعداء الله الذين يتوجب معاقبتهم. هكذا جرت معاقبة أحمد ماهر، والخازندار (قاضي قضاة مصر) والنقراشي. وسواء اتخذ القرار من الـمرشد أو بمبادرة فردية لا فرق في ظل منح الـمرشد أو الأمير صلاحية اتخاذ القرارات وسيادة مبدأ الطاعة دون نقاش، وفي ظل سيادة ثقافة تخوين وتكفير الـمختلفين، ووجود جهاز سري خاص مستعد لتنفيذ العنف في الصراع.
مجموعة القضايا التي طرحها الـمسلسل يوجد ما يسندها في تجربة الإخوان الـمسلـمين: تكفير مؤلف الـمسلسل، ووضع قوائم سوداء، وتدريب مليشيا في جامعة الأزهر، يعزز الاعتقاد بصحة التجربة التاريخية للإخوان. لا يمكن الجمع بين موقف الإرهاب الفكري وإقصاء الـمختلف، وموقف الرد الديمقراطي عبر مسلسل تلفزيوني آخر. ثمة تنافر بين الـموقفين. بين الديمقراطية التي تقدم حجة في مواجهة حجة وتحاول ممارسة الإقناع، وبين إرهاب التكفير ووضع قوائم سوداء تضع حياة الـمختلفين في مهب الريح.
16 سبتمبر 2010
مسلسل اكثر من رائع