عناقيد الغياب..!/ أسعد موسى عَودة
أحلُمُ بقانون لغويّ يحكم بقرآنيّة هذا النّصّ أو ذاك من عدمه.. أحلُمُ بقانون لغويّ يحكم بحديثيّة هذا النّصّ أو ذاك من عدمه..
|أسعد موسى عودة|
حضَرني هذا العُنوان من حيثُ أدري، ولا أدري ما إذا حضر أحدًا من قبلي أو سيحضُره من بعدي، ولا ضيرَ إنْ حضر؛ فلن أدّعيه وأحرى به ألّا يدّعيه؛ فهو ليس له وليس لي، بل هو ابن الفقْد وابن الحَزَن.
في غضون ثلاثة أرباع عام فقدتُ ثلاثة، عمًّا وعمَّ عمٍّ وابن عمّيَ الّذي غاب. وهذا الأخير الأثير، سعيدُنا، فقدناه في الفاتح من هذا الأسبوع، بعد أن كان غير مرّةٍ قد عوّدنا النّجاة، لكنّه يبدو أنّه في هذه المرّة لم يُرِدْ أن يُحرِجَ الموت أكثر، فأرخى له العِنان. أو أنّه في هذه المرّة قد اكتملت معادلة الغياب: تقاصُر الأطبّاء الصّغار عن تشخيص حالة حرجة دقيقة قاتلة من الانصِمام الرّئويّ الحادّ، حيث لم يسعفِ الوقتُ كبارهم لإطلاق النّفَس، ففاضتِ النّفْسُ في حضن السّحر على حدّ الغَلَس. أو أنّها هذه المرّة كانت حيثُ لا يستأخِرون ساعةً ولا يستقدِمون؛ فبين عشيّة وضُحاها –بالتّمام والكمال– قضى اللهُ أمرًا كان مفعولًا، وقد وسِعت رحمته كلّ شيء.
حقٌّ ومكروه هذا الموت، الّذي يظلّ مفاجئًا ومباغتًا وموجِعًا ومحبِطًا ومحرّضًا ومعلِّمًا في آنٍ معًا، مهما كان متوقّعًا وواقعًا وحقيقة. ويظلّ عزاؤنا أنْ ما من غياب عن هذي الحياة الدّنيا إلّا ويتبعه شروق جديد فيها، أبديّ في الآخرة؛ هو أجمل وأكمل وأرفع وأفصح وأخلد؛ بعلم وعمل وولد.
منام تَخِرّ له الجبال هَدًّا، هو نفسه تلو نفسه وغيرُه، كان راودني على مدار أسبوعين، فسّرتْه هذه الفاجعة وأودعتْه أدراج الذّاكرة وعناوين الذّكرى وتباريح الألم، حتّى كدت أرجو ألّا أرى في المنام – بعد الآن – شيئًا؛ غيرَ سائل المولى –عزّ وجلّ– ردّ القضاء، بل سائلَه –تعالى– اللّطف فيه.
إلى مثوى النِّعَم يا ابنَ العمّ، وإنّك لستبقى طيّبًا فينا، كما طِبت شخصًا ونفْسًا وعملًا وهِنْدامًا ورائحة. وأعلَمُ أنّه منك إلى كلّ من بكى عليك قبلةٌ ووردة..!
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
سألتُ.. فأجبتُني..!
بينما نحن نتلقّى عزاء الأعزّاء بفقيدنا الغالي، راودني سؤال عن آداب مجالس العزاء، فبحثتُ ولم أجِد لجوابه غير النَّزْر اليسير، ومن أهمّ ما وجدت ومنه تعلّمت، أنّ على المرء أن يدخل مجلس العزاء عاطلًا من أيّ تعلّقات شخصيّة مادّيّة، من قبيل الهاتف المحمول وعلبة السّجائر، والأهمّ أن يدخل عاطلًا من أيّ أفكار مُرادُها لفت الأنظار إليه. بل يجب أن تكون هذه المجالس فرصة للرّاحة النّفسيّة؛ بتذكّر سيرة المتوفّى، والحديث في معنى الموت والحياة، حتّى تصبح جلسته حالة خاصّة من التّفكّر والتّعبّد. وما أطيبها هذه المجالس رغم قسوتها وكراهتها –في نظري– حين تجمع عقولًا مثقّفة وألسنة لبقة، حيث تصبح مدرسة يُحسن فيها النّاس الاستماع والطّرح والجدل فيتعلّمون، وقد عزّ –في حاضرنا– المدارس والطّلّاب والمعلّمون.
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
أحلُمُ..!
أحلُمُ بقانون لغويّ يحكم بقرآنيّة هذا النّصّ أو ذاك من عدمه..
أحلُمُ بقانون لغويّ يحكم بحديثيّة هذا النّصّ أو ذاك من عدمه..
وأحلُمُ…
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
في حياتنا الكثير من الأمثال الحقيرة..!
أكرّر وأقول إنّ في حياتنا الكثير من الأمثال الحقيرة؛ من قبيل: “إذا إلَك عند الكلب حاجة قُلُّه يا سيدي”. أو من قبيل: “الإيد اللّي بتضربك بوسها وادعي عليها”. أو من قبيل… وبعبارة ملطّفة، مثلًا، ألَيس خيرًا من هذا وذاك وغيرهما، وأعلى وأولى وأكرم قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “أجوع يومًا فأصبِر، وأشبع يومًا فأشكُر”..؟!
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن!
(الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم، ومحرّر لغويّ؛ الكبابير/ حيفا)