أيتام/ دانيئللاه كارمي
جَلَسَ ريݘڨ على مبعدة ما من ثلاثتهم وكان ينظر إليهم بينما كانوا يرتشفون القهوة. أكلت المرأة من البرتقال، فقط. طويل القامة تمعّن الحيطان، بعد ذلك حدّق في السّقف باهتمام…
<
|دانيئللاه كارمي|
|عن العبريّة: الطّيّب غنايم|
(نُشرت هذه القصة في ضمن كتاب “عودة- شهادات مُتخيَّلة من مستقبلات ممكنة” من إصدار “زوخروت”)
كان يومًا رماديًّا على الجبل. نَمَت بنايةُ المَصَحّة النفسيّة الموجودة على القمّة، من بين أجمة صنوبر امتدّ على التلال المجاورة.
في المصحّة الدكتور ريݘڨ، طبيب شابّ متخصّص، قام بتنظيف نظّارتيه رفيعتيِ الإطار واتّصَلَ بكبير الأطبّاء النفسانيّين، الذي جَلَسَ في الطابق العلويّ:
“ألو، د. ڨايس، صباح الخير، يتكلّم ريݘڨ.”
“صباح الخير.”
“أخبروني أنّ بعثة مكوّنة من ثلاثة أفراد موجودة على البوّابة، وصلوا، تَوًّا، ويطلبون الدخول. هل تعلم شيئًا عن الأمر؟”
“ليس بعثة. مهندس معماريّ لبنانيّ، شيء من هذا القبيل. يريد أن يرى المباني القديمة، بصحبة اثنين.”
“هل ستأتي للقائهم؟” – سأل ريݘڨ، آملًا.
“عمليًّا، أنا غارق في الكتابة هنا.”
تخيَّلَ ريݘڨ ڨايس يلوي شفتيه من تحت شاربيه. ذَكَرَ: “يقول البوّاب إنّ امرأة ترافقهم أبرَزَت له بطاقة صِحافيّة.”
“صِحافيّة أُخرى؟” تنهّد ڨايس. يبدو، هذه المرّة، أنّ راحة كبير الأطبّاء قد تقلقلت. “ماذا يريدون منّا، بحقّ السّماء؟ أوكي، قمت بجولة برفقتهم، لكن راقبهم عن كثب. وأخبرني ما إذا كانت هناك مفاجآت.”
على البوّابة شَاهَدَ مُسِنًّا طويل القامة يرتدي سترة فضفاضة جلديّة سوداء. إلى جانبه وَقَفَ مسنّ قصير القامة مع ذؤابة بيضاء يحمل مزودًا على كتفيه. الصِّحافيّة، امرأة شابّة، لبست حذاء كعب وارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة. صافح ثلاثتهم يد ريݘڨ، الذي قال في سرّه: إنّ الطّويل لا بدّ هو المعماريّ، وإنّ قصير القامة صافَحَ مصافحة أشجع من اللّازم.
حينما مَرّ معهم بجانب غرفة الطعام، خَرَجَت الممرّضة سڨتلانا ودعتهم جميعًا للدخول والضيافة. كان في الداخل طاولة طويلة مغطّاة بمفرش أبيض عليه قطع برتقال، كعك، وإناء قهوة. في الوقت الذي سكبت فيه سڨتلانا المشروب، في الفناجين البيضاء، خَرَجَ ريݘڨ إلى الممرّ لتبادل حديث مع د. ڨايس عَبْرَ الهاتف.
“سڨتلانا حضّرت لهم تضييفًا، دكتور. برأيي، هذه مفاجأة جيّدة، لذلك أُعْلِمُكَ بالأمر.”
“أيّ تضييف؟!” غَضِبَ ڨايس، “ماذا تظنّهم، متبرّعين من كندا؟”
“… لقد باشروا الأكل والشرب، دكتور.”
“جيّد، فليشربوا، فليأكلوا. لكن، انتبه يا ريݘڨ: اختَصِر الجولة قَدْرَ الإمكان. وطلب آخر: لئلّا يتجوّل مرضى بين الأرجل…”
جَلَسَ ريݘڨ على مبعدة ما من ثلاثتهم وكان ينظر إليهم بينما كانوا يرتشفون القهوة. أكلت المرأة من البرتقال، فقط. طويل القامة تمعّن الحيطان، بعد ذلك حدّق في السّقف باهتمام. قصير القامة أمسك بالفنجان بأصابعه السميكة، وأطلق نظرات نحو الباب بين الفينة والأخرى، كأنّ أحدهم على وشك الدخول في أيّ لحظة.
أطلّت مريضتان. ليئا وسݘي غير المنفصلتين؛ لأنّ الممرّضة كانت موجودة في الغرفة، وتطلّب الأمر ردًّا فوريًّا من ريݘڨ، قرّر أن يختصر قَدْرَ استطاعته: “رجاءً!” قال بصوت عالٍ للبنات وأشار نحوهنّ بإصبعه. سَحَبَت سݘي ليئا نحو الممرّ.
الشيء الأوّل الذي رآهُ ريݘڨ، حينما خَرَجَ مع الضيوف، كانتا ليئا وسݘي جالستين على درابزين من وراء حوض الورد، تضحكان بينهما. ليس بعيدًا عنهنّ تمشّى نوحي “الطيّار”، بزيّ عسكريّ ذي ياقة فرو زرقاء، ما أسماه “فلايينغ جاكيت”.
اتَّصَل ريݘڨ مرّة أُخرى: “ماذا مع نُوحِي، دكتور؟ ألا توجد فعّاليّة ما في الساعة القريبة؟ لست متأكدًا ممّا إذا كان سيرافقنا، أن يكون الأمر لصالحنا…” سعل ڨايس: “لماذا لا يقفلون على هذا الإنسان، تبًّا؟!” “انتبهت أنّ الجولات تُحَسِّنُ من حالته في نهاية المطاف،” سمح ريݘڨ لنفسه بطرح رأيه، “لكن في هذه الحالة، لربّما من المفضّل أن يكون الضيوف بدونه.” قال ڨايس الذي نَفَد صبرُه: “اسمع، ريݘڨ، أقوم، الآن، بتلخيص مقالة ولا أستطيع –”
بما أنّ الثلاثة قد أحاطوا المبنى، أنهى ريݘڨ المكالمة وسارع في أعقابهم. على مبعدة ما كان مبنًى من طابقين، ذو بوّابات حجريّة كبيرة وشبابيك مزركشة أطلّت على شرفة طويلة. كان هذا قسم المراهقين. توقّع ريݘڨ أن يتوقّف المعماريّ عند هذا المبنى المميّز، لكن الأخير توقّف بالذّات وظهره نحو المبنى وصار يرقب عن بعد أشجار الصنوبر على السفح، التي تَرَاءت كقطيع غنم أخضر منفوش يتسلّق الجبل.
ليئا وسݘي، اللتان تركتا قسم المراهقين منذ فترة وجيزة، وانتقلتا إلى قسم البالغين، مشتا متثاقلتين في أعقاب نوحي باتّجاه ريݘڨ وضيوفه.
“تعالَي نلحق بالطيّار!” – أغرت سݘي ليئا، “إذا قام بالانطلاق فسيكون لنا قليل من الأكشن!”
“هيه، نُوحِي!” نَادَت ونوحي توقّف للحظة، “ألن تطير اليوم؟” ضحكت ليئا لنوحي ولوّحت له بجديلتها. تمعّنهما حين اقترابهما إليه. “في الأمس، فقط، عُدْتُ من تحليق تجسّس في مصر،” قال بلهجة صارمة. كانت عينه تنغرس في من يكلّمه، مانحةً إيّاه منظر نسر. العين الثانية نَظَرَت في اتّجاه آخر.
“ماذا عملت هناك، بالأحرى؟” اجتهدت سݘي في محو الابتسامة عن وجهها. “جمعت معلومات. نحاوِلُ أن نعطّل العدوّ.”
مسكت ليئا بذراع سݘي. تخوّفت من أن تكون قريبة كثيرًا من نوحي. “إلى أين التحليق القادم؟” – استجوبته سݘي.
لكن نوحي رأى الضيوف يبتعدون واتّجه راكضًا وراءَهم. “لن ينفجر، يبدو لي،” خاب أمل ليئا. هَدَّأَت سݘي من روعها: “انتظري، الرجل عبارة عن قنبلة موقوتة! لا أسماءَ في ملفّه للوالدين ولا لشيء.” وسَحَبَت ليئا في أعقاب نوحي.
سأل ريݘڨ نفسه لماذا لا يهتمّ الضيوف بمبنى البالغين، المعماريّ، أساسًا. كان هذا المبنى الأكثر خصوصيّة بالتصميم، على مسطّح الجبل. فوجئ عندما رآهم قادمين بسرعة باتّجاه بيت العلاج الكهرَبائيّ.
رغم تخوّفاته، قرّر في سرّه أن يحاول منع نفسه من إزعاج الدكتور ڨايس في هذه اللحظة. كان بإمكانه تخيّل ڨايس مصعوقًا على الهاتف؛ لأنّه قبل شهرين قد قام بزيارة هذا البيت بالذّات، صِحافيّ، قام بعدها بالتّحذير في الصِّحافة من الحيطان المتعفّنة رطوبةً في الغرف التي يعملون فيها بالكهرَباء.
“لماذا إلى هناك؟” – سأل ريݘڨ، بحذر، المعماريّ، بالإنـﭼليزيّة. توقّفوا إلى جانب باب الحديد الذي كُتِبَ عليه “الدخول مسموح بإذن، فقط”. قصير القامة هو الذي أَجَابَ، بعبريّة لبقة: “هناك كانت مساكننا، مسكن عادل ومسكني. اسمي شريف. سَكَنَّا هناك مع باقي الأولاد…” حينما قال “عادل” أشارَ إلى المعماريّ. “أردنا إلقاء نظرة، فقط، على المبنى، من الداخل.”
لم يفهم ريݘڨ: “متى كنتم هنا؟”
“قبل أكثر من ستّين عامًا” – أجاب قصير القامة وأخفض نظراته.
تردّد ريݘڨ: هل عليه الاتّصال بڨايس، فورًا. وربّما من المفضّل كسب الوقت واستيضاح تفاصيل أكثر. “أليست هذه بجولة معماريّين؟” – سأل شريفًا.
في اللحظة ذاتها، اخترق نوحي الباحة التي وقف فيها ريݘڨ والآخرون، ذراعاه مشدودتان إلى الجوانب، وهو “يطير” بين الناس، يُسْمِعُ صوت مروَحَة. “نوحي، نوحي! رجاءً!” – صرخ ريݘڨ وحاول إيقافه. “فرررررررررر… فرررررررررر” تلوّى نوحي بينهم وكاد يصطدم بالمعماريّ. سݘي وليئا ضَحِكَتا بصوت عالٍ من وراء الشّجيرات.
للحظة، فَقَد ريݘڨ صوابه. مسك نوحي من ذراعه، بينما هو يعلم أنّه على خطأ. بدأ نوحي بزعزعة رأسه المحلوق كحيوان جريح، الأمر الذي سبّب ليد ريݘڨ السقوط مرّة واحدة. ربّما رأى نوحي هذا كنوع من إشارة ضعف؛ لأنّه قرّب رأسه إلى ريݘڨ بحدّة وقال بصوت مبحوح داخل أذنه: “أيها القائد، أوقف الاشتباك مع العدوّ.”
تردّد ريݘڨ في ما يفعل، شدهت عيناه أمام شريف. “هذا جيّد، سيكون بخير،” – قال شريف، انتقل إلى الإنـﭼليزيّة لكي لا يفهم نوحي: “آي مايسلف هاﭫ أ غراندسن. أ بيت مجنون.”
“طفل في الخامسة من عمره”، واصَلَ بالعبريّة، “ذكيّ جدًّا، صار يلعب بأرقام من ستّ خانات،” – غَمَزَ نوحي.
نوحي، يا للعجب، أصغى له إصغاءً تامًّا.
قال سݘي لليئا بين الشّجيرات: “أوف، لماذا أوقفوه؟ فقد بَاشَرَ التحليق!”، بينما فكّر ريݘڨ في قرارة نفسه: “اجتزتُ هذا الإعصار. يجب عليّ، الآن، أن أمنع الكارثة القادمة. كان من الصعب عليه أن يركّز. شيء ما في خلفيّة دماغه، أزعجه. ابتعد عدّة خطوات وقرّر أن ينادي أحد الممرّضين العموميّين بواسطة جهاز البيفر. سأل نفسه ما إذا كان ممرّض واحد بمقدوره أن يتدبّر أمره مع نوحي في هذه الحالة. لمزيد من الضمان، فقد استدعى ممرضين. لكن، بينما هو يسحب جهاز البيفر من حزامه، سمع – عن مبعدة – رنين جرس الاستراحة واستنتجَ أنّ الممرّضين غير مرّكزين، ثانيةً.
رآه شريف متردّدًا فتقدّم إليه: “هل يوجد مشكلة في الدخول إلى المبنى؟” تحسّس ريݘڨ البيفر ولم يعلم ما يفعل به: “يجب أن أفحص ما إذا كان بالإمكان التجوال هناك، الآن. لربّما نتقدّم نحو تلك المِنطقة؟” أشار نحو مبانٍ كانت متناثرة في مساحة على مبعدة ما.
ارتسمت ابتسامة شاحبة على وجه شريف. لمعت عيناه حرجًا. مَرَّرَ أصابعه السميكة في ذؤابته البيضاء التي عادت وانتصبت من على جبينه الواسع. نَظَرَ إلى المعماريّ وإلى الصِّحافيّة. نظروا إليه. ونوحي كان يتجوّل بين الأشخاص رافعًا ذقنه.
شعر ريݘڨ بأنّ أعصابه آخذة في التعب: “عَمَّ تبحثون؟” – طلب أن يعرف. تبادل شريف نظرة أخرى مع عادل، الذي أخرج كرّاسة صغيرة من الجيب الداخليّ لسترته السوداء. فتحها على الصفحة الوسطى، وعَرَضَ على دكتور ريݘڨ صورة لوح مستطيل مصنوع من الحجر المقدسيّ المنحوت، مغروس على أرض وسط عدّة أشجار صنوبر. قَرَّبَ عدسة مُكَبِّرَة. رأى عبرها ريݘڨ سطرًا منحوتًا بالعبريّة، وتحته سطر بالعربيّة، على اللوح.
قَرَأ: “مستشفى أ. كان حتّى عام 1948 عزبة زراعيّة للأطفال اليتامى الذين قُتِلَ آباؤهم في الثورة العربيّة (الفِلَسطينيّة) الكبرى”. تذكَّرَ أنَّه رأى الحَجَرَ الكبير هذا في المحيط القريب، حينما وَصَلَ للعمل هنا. كان ذلك في مكان ما في إحدى الأجمات، المغطّاة أرضها بأوراق الصنوبر الإبريّة التي اسوَدَّت. رآها ونسي.
في الساعة ذاتها كان نوحي يدفع برأسه الحليق بين رؤوس الأشخاص، يشتمّ ويصغي لكلّ كلمة. أشار ريݘڨ إلى شريف أن يقترب منه، وهمس في أذنه، على مبعدة من الآخرين: “يجدر ألّا يعلم “الطيّار” من أنتم…”.
هزّ شريف رأسه أدبًا. لم يُبدِ لريݘڨ أنّ الرجل يفهم شيئًا في حالات مثل حالة نوحي. حدّث ريݘڨ نفسه: لا تتشتّت، الآن. افحص النبض طيلة الوقت. ربط، مجدّدًا، البيفر إلى الحزام وتوجّه إلى شريف: “المعماريّ قال للبوّاب إنّه لبنانيّ. هل كان ذلك كذبًا؟..”
التفَّ نوحي حولَ ريݘڨ وشريف في حلقات. كان شريف يتكلّم، وريݘڨ يشدّه كلّ مرّة إلى الوراء، يبعده عن مدى سماع نوحي. “كنّا في الثانية عشرة،” – حدّث شريف، “قال المعلّمون إنّ اليهود لن يبقونا هنا. وأنا وعادل وأبو سها،” – أشار نحو الصِّحافيّة، “هربنا مع معلّمينا. أنا وصلتُ إلى مِنطقة نابلس. هناك بقيتُ. عادل وصل، بالحظّ، إلى أعمامه في لبنان. هو أكثر واحد تدبَّرَ أُموره – أرسلوه للتعلّم. وأبو سها وَصَلَ في النهاية إلى كندا.”
كان نوحي، الآن، فوق شريف. انحنى فوقه حتّى بدا وكأنّ رأسه ينبت من الذّؤابة البيضاء. توقّف ريݘڨ عن التنفّس.
“لماذا جئتم؟” – تحدّث نوحي باختصار. على أهبة الاستعداد للتناطح. ريݘڨ سحب عنه شريف من كمّه بحركة حادّةٍ. “أحذّرك،” – ريݘڨ أطلق باتّجاه نوحي، “أنا جادٌّ جدًّا!”
“سأفسّر له،” – قال شريف لريݘڨ، “يطلب تفسيرًا، لذا سأشرح: قالوا إنّهم يعيدون أُناسًا إلى فِلَسطين، صحيح؟ لذلك فقد فكّرنا في القدوم لرؤية المكان الذي ترعرعنا فيه، هذا كلّ ما في الأمر.”
حكّ نوحي رأسه المحلوق بوحشيّة. تشنّج مؤقّت سبّب لكتفيه الارتعاش لثوانٍ معدودات. حينما هَدَأَ جسده. سأله شريف: “لماذا حلقوا رأسك؟”
تدحرجت عين نوحي ذهابًا وإيابًا. ظنّ ريݘڨ أنّها على وشك أن تُقْتَلَعَ من حجرها. “أنا من حَلَقت لنفسي،” – قال الشابّ، “أنا أيضًا يتيم”. وعادت كتفه ترتجف.
“أرسلي – من فضلك – ممرّضَين إلى محيط إي.سي.تي.” – قال ريݘڨ لسڨتلانا عبر الهاتف، شبه هامس. عندما نظر قُبالته رأى عين نوحي ترتكز فيه، لكن بلمح البصر اختفى الشابّ عن الأنظار كأن لم يَكُنْ. نَظَرَ ريݘڨ باتّجاه الشجيرات ورأى ليئا وسݘي تضحكان هناك، لكن نوحي لم يكن برفقتهما.
حاول التفكير بسرعة: ذلك، قد اختفى. الآن، يجب عليّ التقليل من الأضرار، إلى حين أستطيع استشارة الدكتور ڨايس. بعد ذلك تذكّر: إذا كان الضوء الأحمر غير مضاء في الخارج، فتلك إشارة إلى أنّه لا يوجد أيّ علاجات كهرَبائيّة، الآن. “تفضّلوا، قال لشريف، ادخلوا البيت. يُمكنكم التجوال وإمعان النظر كما تريدون.”
بينما هو جالس ينتظر في الخارج، فوجئ برجله اليمنى ترتعش. هل تخدّرت بعد أن لم يتحرّك من مكانه مدّة ما، أم أنّ شيئًا ما قد حَصَلَ له؟ مَرَّت نصف ساعة، والضيوف لم يخرجوا من البيت. عن مبعدة، رأى الممرّض الذي بعثته سڨتلانا.
“طلبت ممرّضَين.” – تذمّر ريݘڨ قائلًا: “كلّ من هنا نائم اليوم، أم ماذا؟”
“إلى أيّ اتّجاه هَرَبَ المَريض؟” – سأل الممرّض.
كل التوتّر الذي تراكَمَ في ريݘڨ أُطْلِقَ على الممرّض: “قُلْ لي إلى أيّ اتّجاه تهبّ الريح أقُلْ لَكَ إلى أين هَرَبَ!”
حينما رأى الضيوف الثلاثة يخرجون من البيت، استوعبَ ريݘڨ أنّه جَلَسَ في الخارج مدّة غير قصيرة، بدون أن يفعلَ شيئًا. كان باستطاعته أن يستغلّ الفرصة وأن يبعث بتقرير لڨايس عن هُويّة الضيوف. رغم عدم وثوقه من صحّة هذا العمل، حاول أن يتركّز في أفكاره: فَكِّر بوضوح: حاول أن تُخَمِّن ماذا كان سيفعل ڨايس في حالة مثل هذه. هذا لا يعني أنّه اعتَمَدَ على ڨايس في كلّ الشؤون. على سبيل المثال، في قضيّة نوحي ومرضى آخرين، كان ڨايس محافظًا إلى حدّ بعيد.
لم يستطِع ريݘڨ أن يخلص في قلبه إلى شيء، لكنّه قامَ من مَكَانِ مقعدهِ وخَطَا نحو الضيوف. قبل أن يصوغ لنفسه الأُمور، انطلقت منه كلمات خَرَجَت بنبرة ثاقبة تجاه شريف: “كيف لي أن أعرف أنّكم تدّعون الحقيقة، وأنّكم كنتم قد سكنتم هنا، ذات مرّة؟”
جلسوا على المقعد، شريف وعادل والصِّحافيّة، بجانب بيت العلاج بالكهرَباء. ترجَمَ شريف لهم أقوال ريݘڨ، بينما كانوا يَتَحَدَّثون فيما بينهم، ويتبادلون المشورة. عادل هو الذي عَثَرَ على منفذ. هو الذي وَجَدَ فكرة كيفيّة إثبات سكناهم هنا، في هذا المكان، في طفولتهم. ترجَمَ شريف الأقوال: “نحن نتذكّر أين كان النّبع. إذا كان مقبولًا عليكَ، فسنأخذك إلى هناك، الآن.”
الرّجلان قادَا المسير. سارا بثقةٍ كبيرة، رغم سنّهما. صَعَدَ ريݘڨ في أعقابهما سيْرًا على رجله الضعيفة. تشجّع حينما اكتَشَفَ أنّ المرأةَ، أيضًا، تجد صعوبةً في المسير على حذائها الكعب، متعثِّرَةً بين روابي الأرض. هنا وهناك برز رأسا سݘي وليئا من بين الشجيرات الشوكيّة.
بَدَأَ مطر خفيف بالهطول، صارت الحبيبات الصغيرة متمازجةً ككتلة واحدة من الماء، ترتعش، تبدو معلّقةً في الأعلى، مثل غيمة منفوخة.
مرّوا بجانب ركن الحيوانات، الذي بدا خاليًا على الإطلاق. رُمِّمَت غالبيّة الأقفاص المهدّمة على مرّ السنين، ومؤخّرًا تحوّلت إلى مخزن للمَصحّة. من بين الشجيرات قفزت، فجأة، إوزّة، ليئا أمسكت بيد سݘي وصَرَخت. حاولت الاثنتان أن تجدا مخبأً بين الضيوف الثلاثة، فالتصقتا بهم ونزلتا معهم السبيل. سݘي حثّتهم على السرعة: “زيدوا من سرعتكم، هذه الإوزّة تنقر في المؤخّرة!”
ضرب شريف بيد مقبوضة كتف عادل وانفجر كلاهما بالضحك. “لماذا تضحكان؟” – سألت سها. “أبوك كان سيفهم،” – قال شريف بالعربيّة: “إن لم تكن هذه الإوزّة هي حفيدة الإوزّة التي كانت لنا في العزبة، فسأقدّم رأسي هدية رهانًا على ما أقول.”
قال لها عادل: “وفق أعصاب تلك الإوزّة، فقد علمنا كلّ شيء سيجري في البلاد”.
على مبعدة ما من الخلف، إلى جانب المغسلة، تعطّل ريݘڨ لحظة أمام متطوّعة شابّة علّقت ملاءات على حبل. “هل أنت جديدة هنا؟” – سأل بتردّد. نَظَرَت إليه بصمت. “أنا الطبيبة المتخصّصة،” – عادَ ريݘڨ يتحدّث بحزم أكبر، “هل تعلمين من هو “الطيّار”؟ أومأت برأسها. لسبب ما، شكّ ريݘڨ في كونها تفهم العبريّة، رغم ذلك، قال: “إذا رأيته، شاب طويل ونحيف ببذلة عسكريّة زرقاء، يمكنك الاتّصال بمحطّة الممرّضين وإعلامهم” بعد ذلك، رأى أنّ الضيوف قد اجتازوه وابتعدوا. بدأ بالركض.
سرعان ما رأى ريݘڨ الوادي في الأسفل، تحت رجليه. نَظَرَ صوب كلّ الجهات، ولم يجد أيّ أحد. صمت أطبق على الجبل. بَدَأَ بالتّزلّج في المنحدر، لكن نظّاراته كانت مصدر إزعاج. أزالها ووقف جانبًا، وفرك جانبي أنفه بإصبعين. نتيجة الركض شَعَرَ بألَمٍ حادٍّ في الرجل. سَأَلَ نفسه ما إذا كانت ركبته هي نقطة ضعفه، وحينها خرقت زمزمة حادّة الصمتَ.
كان د. ڨايس على الخطّ: “اسمع، ريݘڨ. عثرت على الفكرة، هل تعلم من هؤلاء الأشخاص؟” اتَّكأَ ريݘڨ للحظة على صخرة وتحسّس ركبته وصَمَتَ. “هؤلاء فِلَسطينيّون، بسيطة جدًّا، قد تحدث هنا سابقة خطيرة…” – ڨايس بشّره في أذنه. مرّة واحدة، جمّع ريݘڨ ذاته واستقام.
واصل صوت الدكتور بالجرش، لكنه صعد من الأسفل، من الأرض؛ لأنّ جهاز الهاتف سقط أرضًا. انحنى ريݘڨ ورفَعَه. أَدَّت الانحناءَة إلى اتّضاح الألم في ركبته. شَدّ رجله وبَحَثَ بعينيه عن آثار الضيوف، لكنّه لم يَرَ شيئًا أمامه. ظنّ أنّ ضبابًا باشَر الانتشار بين الجبال، لكنّه، حينها، اكتشَفَ أنّ نظّاراته ما تزال بيده، وضعها على عينيه، فغاب الضباب.
عَرَجَ بسرعة، محاولًا تجاهل رجله، حتّى وَصَلَ حافة التلّة. هناك، في مكان ما تحته، عند النقطة المنخفضة من التلّة، كان يجلس كلٌّ من شريف، عادل، وسها، وإلى جانبهم ليئا وسݘي. بدهشة كبيرة، نوحي، أيضًا، جلس بينهم، وكان جميعهم يجرفون التربة الرطبة بالأصابع الرقيقة، ويصنعون أكوامًا من التراب. كانت البنتان تحفران قناة مع عادل وكانتا تثرثران مع شريف.
كانت ساعة ظهيرة. تأرجحت الشمس الشتائيّة على غصن عالٍ وداعبت رؤوس الناس. قرّب ريݘڨ أذنيه إلى الهاتف واستوعب أصواتًا من غرفة ڨايس. لم يعلم ما إذا كان ڨايس نفسه ما يزال يسمع. قال، “بشأن ما قلت، د. ڨايس، كلّ هذا صار من الماضي…” وأطفَأ الجهاز.
ريح خفيفة حرّكت قمم الصنوبر المحيط، وريݘڨ سمع حفيف الورق الإبريّ الذي يقطع الهواء وينتشر في الجبال. ليئا حدّثت شريف: “أكثر ما رغبت به كان الانتقال إلى سكن محميّ. لذلك استأجروا لي واحدةً كهذه، قبل نصف سنة. وتسلّمت مفتاحًا خاصًّا بي وحدي!”
“وماذا فعلت؟” – سݘي تدخّلت، “أخرجت كلّ الأثاث إلى الباحة وهدمت الشبابيك وداست على الزجاج. حينها، أعادوها إلى هنا.”
سادَ صمتٌ خفيف.
قال شريف، بعد هُنَيْهة، كمن يتحدّث إلى نفسه: “نام جاري، دائمًا، على مفتاح بيت جدّه في يافا، تحت الوسادة. ففي حال خروجنا من المخيّم بشكل فجائيّ في الليل، فلن يُضطرّ إلى البدء بالبحث.”
في أعلى التلّة، هناك في مكان ما، بين العشب الطويل وحزم الأقحوان، أطلّت الإوزّة بين الفينة والأُخرى.
اتّكأ نوحي على مرفقيه مفتوح الرجلين، دَاعَبَ التراب الذي تكوّم على بطنه وقال لشريف: “علمت – منذ البداية – من أنتم. بإمكان يتيم أن يشخّص يتيمًا على الفور.”
من بعيد، سمع ريݘڨ رنين نهاية فرصة الظهيرة. من فوقه نادى غراب من إحدى القِمَم. سَأَلَ شريفًا: “إذًا، أين نبعكم؟”
“لقد سُدَّ.” – أجاب المسنّ، “لكنّنا نجلس عليه. اُنظر مساحة التراب الرطب هنا، من هنا إلى هنا. هذا ما يغطّي النبع، الآن. اُنظر حتّى النبات الكثيف هنا حوله، إنّه أكثر اخضرارًا، أيضًا.”
“إذًا، ما الفكرة؟” – استجوَبَ ريݘڨ، “أن تعودوا إلى بيت الأيتام وأن تخرجوا المرضى النفسانيّين من هنا؟”
نهض شريف عن التراب ونظّف بنطاله. أشار نحو الجبل القريب: “أترى بداية التعمير هناك؟”
“ما هذا؟”
“هناك يبنون العزبة الزراعيّة خاصّتنا.”
“من يبنيها؟” – سأل ريݘڨ.
“نحن، بأيدينا. لم نقُم عبثًا بالعمل لديكم في التعمير طيلة حياتنا،” ضحك المسنّ.
وقال عادل للبنات: “ناو يو دِغ فروم هِير، آند آي وِل دِغ فروم ذَ أَذَر سايد أُف ذَ تانِل، أند وي وِل مِيت.”
بدأت الإوزّة، فجأةً، بالركض هناك في مكان ما فوقهم. قفزت بعد عدّة خطوات، قفزة عالية، محاولة الطيران، بينما تصدر أصوات صراخ مخنوق كصوت طائر مذبوح. بين المسنّين مرّت نظرة خاطفة، مدّ عادل يده لسُها واستلّها بسرعة من التراب.
“سنخرج من هنا، عَبْرَ الوادي،” – قال شريف، وكان الثلاثة قد انزلقوا وكادوا يسقطون في المنحدر الترابيّ.
حينما ظهَر من الأعالي حارسان مسلّحان، يظهران من بين العشب الطويل، لم يعُد الضيوف في مرمى النظر. قفز نوحي من التراب واجتاز عدّة حفر. خلال ثوانٍ، هو، أيضًا، اختفى عن مرمى النظر.
كلّ ساعات ما بعد الظهيرة، قامت طواقم المصَحّة بالبحث عن نوحي. امتلأت باحة المصَحّة بالجيبات وبسيّارات الشرطة. ممرّضون وممرّضات، خَرَجوا مترجّلين وبالسيّارات، شرطيّون مع كلاب قصّ أثر، جميعهم قاموا بالتفتيش في أجمات الصنوبر المحيطة.
عَبْرَ شبّاك غرفة الأكل، رأى ريݘڨ سݘي وليئا تجلسان إلى جانب إحدى الطاولات التي كانت مجهّزة لوجبة العشاء. توقّفتا عن الضحك هُنَيْهَة، وتعابير هدوء ارتسمت على وجهيهما. لم يستطِع قول ماذا حصل لهما بالضبط. لوهلة فكّر في قرارة نفسه أنّ اللّعب بالتراب لربّما مفضّل على غرفة العلاج الوظيفيّ المكتظّة. سڨتلانا أطلعته أنّ منسوب السكّر لدى د. ڨايس ارتفع بشكل حادّ ومقلق وهو يخضع للعلاج في غرفة الممرّضات.
حين حَلَّ الظلام، ولولت الريح. طواقم التفتيش وفصيل الشرطيّين ومختصّو الكلاب، جلسوا مرهقين في غرفة الأكل واحتسوا الشاي الذي وزّعته الممرّضات.
ظهر نوحي بعد منتصف الليل. الـ”فلايينغ جاكيت” كان مقفلًا حتّى الرقبة. عينه المتجّولة كانت حمراء، لكنّه لم يهزّ رأسه. ريݘڨ، الذي حرص على أن تحتفظ له الممرّضة بوجبة عشاء، خبّأه عن باقي الأطبّاء وأجلسه في المطبخ لكي يأكل.
“أين اختفيت؟” – صرخ في وجهه.
“ذهبت إلى الجبل الثاني. يبنون هناك قرية بأيديهم،” – قال.
استغرب ريݘڨ: “ألهذا الأمر أزعجت كلّ المصَحّة؟!”
“ليس لأجل هذا،” – نوحي ضحك. عينه التي هدأت داعبت ريݘڨ بنظرة صافية:
“وددت لقاء المزيد من الأيتام.”