إسرائيل وصورتها في الغرب، بين الإعلام الأمريكي والأوروبي / عاطف الشاعر
بناءً على ما تقدم، يتوجب على الفلسطينيين والعرب مواصلة الدق، خصوصًا على الأبواب “والنوافذ” الأوروبية الإعلامية، لنشر روايتهم التاريخية والسياسية حول كونهم شعبًا مضطهدًا وتحت احتلال غير شرعي وعدواني مخالف للشرائع الدولية الأساسية التي تُحَرِّمُ الاحتلال وتُجَرِّمُه.
|عاطف الشّاعر|
هناك فرق واضح بين الشق الأمريكي من الإعلام الغربي والشق الأوروبي، علمًا أن كليهما ينتميان إلى عالمين يعملان على أرضية رأسمالية متشابهة ومختلفة في الوقت نفسه. يبدو الإعلام الغربي الأمريكي أكثر تغولًا وغباءً، في أحيان كثيرة، فيما يتعلق بإسرائيل.
ما يقوله الإعلام الأمريكي في محطات مثل “فوكس نيوز” وغيرها ممن تنتمي إلى أحزاب يمينية، أسوأ أحيانًا مما يقوله الإعلام الإسرائيلي نفسه عن إسرائيل وسياساتها العنصرية ضد العرب والفلسطينيين.
لا شك في أن إسرائيل صنيعة غربية بامتياز، فمنذ بدايات تشكلها على يد الحركة الصهيونية أدرك قادتها أن القوى الغربية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، ولاحقًا الولايات المتحدة الأمريكية، دول مهمة جدًّا لقيامها واستمراريتها، ولذلك أنشأت على مر سنين وجودها منظمات وجمعيات كي تساعدها على تسويق سياساتها، بل ودعم أنشطتها الاحتلالية والاستيطانية، وحتى العنصرية، في فلسطين. نجحت إسرائيل في ذلك إلى حد كبير بداية، إذ اعترفت بها الدول الكبرى وأثنت على تأسيسها، بل ودعمتها بقوة على حساب الحقوق العربية الفلسطينية، السياسية والإنسانية؛ وجاء الدعم والاحتضان الغربي لإسرائيل في سياقات عديدة، أبرزها أن إسرائيل نجحت في تسليط الضوء على معاناة اليهود في أوروبا وما لحق بهم من دمار وجودي ونفسي غير إنساني على يد النازية واللاسامية، ما أكسبها تعاطف الكثيرين من الغربيين الذين شعروا بالذنب حيال اليهود وما آلت إليه حالهم في أوروبا؛ وتبلور هذا التعاطف أكثر في سياق الصور النمطية السيئة عن العرب في الغرب، حيث لم يخطر على بال الكثيرين أن للعرب ثقافة وتاريخًا عريقين، وبأن أرضهم، أي فلسطين، ليست كما صورها غلاة الصهيونية وأبواقها، خاليةً أو تنتمي إلى شعب لا يستحقها، وغير ذلك من الادعاءات والافتراءات الممقوتة.
على الرغم… لفلسطين صوت في العالم
رغم ما تقدم، إلا أن إصرار الحركة الوطنية الفلسطينية ونشاطاتها على مدار القرن العشرين غيرت هذه الصور النمطية عن فلسطين والفلسطينيين إلى درجة كبيرة، وجعلت من فلسطين اسمًا وحقيقة ومعنى لا مفر منه، وكذلك جزءًا من النقاش العالمي كلما جرت دراسة أو حديث عن الاحتلال والاستعمار. لقد أصبحت فلسطين رمزًا معنويًّا للنضال ولأحرار العالم، ومع الوقت، أصبح للفلسطينيين صوت في العالم والإعلام الغربيين الحديثين، حتى وإن كان خافتًا أحيانًا وغير قوي بالدرجة المطلوبة الفعالة، إلا أن وجوده بارز.
الإعلام الأمريكي داعم حد الغباء لإسرائيل!
ومع هذا، فإننا حين نتكلم عن الإعلام الغربي وتأثير الدعاية الإسرائيلية عليه، فإننا نتكلم عن موضوع شائك ومتشعب الأطراف، إذ ما من إعلام غربي واحد موحد؛ ثمة قنوات كثيرة جدًّا ومتعددة، ولا نستطيع أن نعمم في هذا المجال كثيرًا وبثقة مفرطة فيما نقول، لكن يمكن أن نصل إلى بعض الاستنتاجات الرئيسية عند التفكير في هذا الموضوع، وهنا نبدأ بالقول إن هناك فرقًا واضحًا بين الشق الأمريكي من الإعلام الغربي والشق الأوروبي، علمًا أن كليهما ينتميان إلى عالمين يعملان على أرضية رأسمالية متشابهة ومختلفة في الوقت نفسه.
يبدو الإعلام الغربي الأمريكي أكثر تغولًا وغباءً، في أحيان كثيرة، فيما يتعلق بإسرائيل؛ هناك تأييد أيديولوجي أعمى عميق لها، حتى لأعمالها الأشد عدوانية، لدرجة أن ما يقوله الإعلام الأمريكي في محطات مثل “فوكس نيوز” وغيرها ممن تنتمي إلى أحزاب يمينية، أسوأ أحيانًا مما يقوله الإعلام الإسرائيلي نفسه عن إسرائيل وسياساتها العنصرية ضد العرب والفلسطينيين أينما وجدوا، سواءً في غزة، أو الضفة الغربية، أو في الداخل الفلسطيني، أو في الشتات. إعلام مثل هذا، وبشكلٍ عام، يصور الفلسطينيين على أنهم إرهابيون أو شعب “فائض عن الحاجة”، ويتحدث بثقة عن جدارة السياسة الإسرائيلية وديمقراطيتها وقربها من قيم أمريكيا والعالم الغربي، ولهذا، فالدعاية الإسرائيلية فيما يتعلق بالفلسطينيين وحقوقهم تجد أبواقًا كثيرة في أمريكيا، وخصوصًا في الإعلام الرسمي، سواءً المكتوب أو المرئي؛ فحينما يتكلم أي رئيس أمريكي عن أي دولة في العالم العربي، يضع إسرائيل وأمنها في جوهر حديثه، على نحوٍ يُظْهِرُ مدى تغلغل الدعاية الإسرائيلية عن الفلسطينيين والعرب في الوعي واللاوعي الأمريكيين على حدٍ سواء. ما تقوله إسرائيل حول تعرضها لتهديد وجودي مستمر هو جزء من الخطاب الأيديولوجي الأمريكي عن المنطقة، ويذهب الأمر إلى أبعد من ذلك في اتهام كل من ينتقد إسرائيل باللاسامية ومعاداة اليهود، ودون ذلك من اتهامات باطلة وغير إنسانية؛ ومع هذا، فقد نمت في أمريكيا بعض الأصوات والمنابر الإعلامية التي تعطي مساحة كافية، وأحيانًا شاسعة ومُحِقة، للرواية الفلسطينية، مثل “الديمقراطية الآن”، أو جريدة “ذا ناشنال” في بعضِ كتابتها، والتي احتضنت بعض كتابات المفكر الفلسطيني الفذ، البروفيسور إدوارد سعيد؛ إلا أن هذه الأصوات تبدو خافتة بالمقارنة مع الأخرى المُسيِطرة والمدعومة من لوبيات لها نفوذ واسع في السياسة الأمريكية الرسمية، مثل “إيباك”، لكنها مهمة، ولا بد من دور عربي فعال، رسمي وغير رسمي، لإنعاشها وتقويتها.
الإعلام الأوروبي، عدا ألمانيا، متعاطف مع القضية الفلسطينية إلى حد معين!
أما في أوروبا فالأمر مختلف، حيث نجد تعاطفًا وتفهمًا أكبر للقضية الفلسطينية في هذه الأيام، حتى إن لم يكن بالشكل المطلوب بعْد؛ والأمر يختلف من دولة إلى أخرى، فألمانيا مثلًا ما زالت تتعاطى مع الخطاب الصهيوني بإيجابية ولا تجرؤ على انتقاد إسرائيل بأي صورة ملموسة وحساسة، وإعلامها يتبع المنهج نفسه ويروج للسياسات الإسرائيلية. هناك ما يشبه التعامل مع العِجْلِ المقدس فيما يتعلق بإسرائيل في ألمانيا لدى الكثير من وسائل الإعلام الرسمية والمؤثرة، وذلك بسبب الارتباط العضوي في عقول الكثيرين بين قيام إسرائيل واستمراريتها، وما اقترفته النازية الألمانية من جرائم بغيضة ضد اليهود في أربعينات القرن الماضي. إذن، إنها عقدة الذنب في التعليم والثقافة الألمانيّين، المرتبطة بالجرائم ضد اليهود في أوروبا. الأمر ليس كذلك في بريطانيا، حيث نجد معارضة أوسع لما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين ولخطابها، وهناك تحليل أعمق وأكثر موضوعية، والصورة تبدو شبيهة بذلك في فرنسا، وإن كانت بعض المجتمعات اليهودية الأوروبية مؤثرة ولها نفوذ إعلامي في هذه الدول وسياساتها؛ فهناك برامج كثيرة تعطي مساحة لمثقفين عرب للحديث عما يحدث في الشرق الأوسط وعن سياسة إسرائيل، وأيضًا تتحدى متحدثين باسم الحكومة الإسرائيلية دأبوا على نشر الدعاية الإسرائيلية بسلاسة ودون اعتراض في كثير من القنوات الأمريكية؛ وهذا ينطبق على الإعلام المكتوب أيضًا، إذ أن هناك كتابًا أوروبيين يكتبون بصورة نزيهة وإنسانية عن الفلسطينيين، ولا يأبهون كثيرًا بالدعاية الإسرائيلية، ويؤكدون على الحقوق الفلسطينية وشرعيتها.
من هنا، قد نقول بنوع من الثقة، إن أوروبا منفتحة عمومًا على الخطاب الفلسطيني والحقوق الوطنية الفلسطينية، وهناك انتقاد أكبر لإسرائيل في قنوات كثيرة، مثل “القناة الرابعة” في بريطانيا، وجرائد ليبرالية إلى حد ما، مثل “الغارديان” و”الإندبندنت”، ولذلك فإنه من الصعب التعميم التام، أو حتى شبه التام.
الدعاية الإسرائيلية حية في الإعلام الغربي، لكن ليس بالصورة التي كانت عليها في الماضي، حيث كانت مسيطرةً سيطرةً شبه تامة، ولم يكن للعرب نصيب إعلامي من الفهم الغربي للقضية الفلسطينية ولحقوق الفلسطينيين في أرضهم وعليها. إن التغيير في الإعلام الأوروبي لصالح الفلسطينيين مقلق لإسرائيل، وخصوصًا في أوقات أظهرت فيها إسرائيل عدوانية كبيرة، مثل حربيها على غزة في عامي 2009 و 2012، وقبل ذلك أيضًا. في كلتا الحالتين، ظهرت إسرائيل على حقيقتها قوةً استعماريةً واحتلاليةً عدوانية. سخرت إسرائيل أدوات دعاية ونشاطات محمومة من خلال سفاراتها ومجموعات ضغط تابعة لها من أجل تسويق ما تدعيه حول أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها الأكثر قربًا من الغرب قيميًّا، واستخدمت كذلك الخطاب الغربي فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب؛ لكن لا يبدو هذا مقنعًا لكثير من الأوروبيين، وللقنوات الإعلامية الأوروبية بشكلِ عام، فهناك ما يُشبهُ السّأم من إسرائيل وعدوانيتها، وتمترسها خلف عقلية عنفية احتلالية تجعل من السلام والتعايش معها أمرًا صعبًا، وقد أثبتت إسرائيل ذلك بسياسات عنصرية متكررة، فجدار الفصل العنصري مثلًا، الذي يفصل بين الناس على أساس هويتهم الإثنية والوطنية، يشكل رمزًا قبيحًا لسياساتها، ولهذا فإن كثيرًا من التقارير التلفزيونية الأوروبية عادة ما تُظهرُ صورًا للجدار رمزًا استعماريًّا قبيحًا، إذ يُذَكِّرُ الكثيرين بجدار برلين وغيره من الجُدُرِ التي قسمت الناس على أسس عنصرية.
النوافذ الأوروبية
بناءً على ما تقدم، يتوجب على الفلسطينيين والعرب مواصلة الدق، خصوصًا على الأبواب “والنوافذ” الأوروبية الإعلامية، لنشر روايتهم التاريخية والسياسية حول كونهم شعبًا مضطهدًا وتحت احتلال غير شرعي وعدواني مخالف للشرائع الدولية الأساسية التي تُحَرِّمُ الاحتلال وتُجَرِّمُه؛ ولفعل هذا بصورة ناجعة أكثر، يحتاج الفلسطينيون والعرب إلى كادر كفؤ يعرف اللغات والثقافات الأوروبية الرئيسية، ويعرف كيف يخاطب ويحاور ويتحاور مع هذه الثقافات بصورة منطقية وعقلانية، وإنسانية فوق كل ذلك، لأن القضية الفلسطينية بأبعادها الرئيسية التاريخية إنسانية وتحتاج إلى من يفهم عُمْقَها الإنساني، ويملك مقومات إيصاله إلى الآخرين بهذه الطريقة؛ وعاجلًا أم آجلًا، سيُسْمعُ الحق وينتصر، حتى لو بعد حين، قريب أو بعيد.
.
* (أستاذ جامعي في جامعة لندن، من أصل فلسطيني، وهو متخصص في الدراسات العربية، وخصوصًا في الجانب الأدبي والثقافي منها، علاقتهما وتداخلهما مع السياسة.)
* مجلّة “سجال” الصّادرة عن مركز “إعلام”.