خُبْزٌ وَكَرَزْ/ ميسان حمدان
سهلٌ تجتمع فيه الألوان، فالأرض مفروشة بنباتات أشبه بالقش الأصفر، الأشجار مصطفةٌ بتراتب معين، لا تتعدّى الواحدة حدود الأخرى، وحبات الكرز تتدلى بلونها الأحمر الغامق، كلون شارع منسيّ آخر، لكن في حمص هذه المرة، وقد تلطّخ بدماء الأحرار
>
|ميسان حمدان|
ربّما لأنّ سُنّة وسَنَة الاحتلال مختلفتان، ربّما- لا أحاول التبرير، صدّقني يا بروتوس، أنا أحاول أن أخفّف عن نفسي من حدّة الصّدمة، ليس أكثر.
كنت أودّ المقارنة بين صاحب سهل الكرز وبين بائع/ة الخبز، ليس بهدف إبراز التشابه أو الاختلاف، بل مجرّد محاولة مني لفهم الصورة القائمة، أنا لم ألتقِ ببائع/ة الخبز ولم أرَ أيّ شخص يقف وراء “البسطة”، أو وراء تاريخها المزوّر، لكني أعلم يا بروتوس أنّه هناك، أما صاحب السهل، فقد تركت ثماره في حلقي حلاوة طعم الجولان.
حتى الآن لم يكن عالقًا بذهني من الجولان سوى رائحة الأرض، شجاعة النساء، القنيطرة وعادة “المناداة” عبر خط وقف إطلاق النار، اللهجة الجولانية، الأعمال الفنيّة، وكل ما أحمل من حنين إلى سورية.
لكن أثناء جلوسنا في مقام أبي ذر، سمعت دويّ الانفجارات، وكأنّ الشظايا تصل ها هنا، لتؤكّد على مسمعي الوجع السّوريّ، الذي اختار بعضهم أن ينسوه أو يتناسوه. ولتحيي المشهد الأول، “نحنا في سوريّة”، هل يا ترى يمكن لصوتي أن يصل الأهل هناك كقوّة صوت الانفجار، الواقع هناك وها هنا بين ضلوعي؟
لا أُنكر، لقد ذعرت من الصوت الذي لم يهدأ، ومع كلّ وقعٍ تهيّأ لي سقوط عمارة ووقوع ضحايا أبرياء، ربّما كلّ ما كانوا يفعلون بهذه الأثناء، هو النظر إلى الجهة المقابلة من خلف أسلاك الصهيونية، حيث نجلس هنا معاً، وكأنّهم كانوا يحاولون تخيّل ما نقوم به، أنا وهم نلعن الحقد خلف الأسلاك الشائكة، أما أنت يا بروتوس، مهما قلت لك لن تفهم.
على مدّ الأسلاك والهلاك، أصحو من غفوتي على صوت وديع -الصافي- الذي يملأ ضجيج الحافلة، أسمع وديع بوضوح رغم “نشاز” من يرددون الأغنية، ورغم الضحكات التي تعلو لخبرٍ فاتني سماعه، وما همي فكم تفوتهم أخبار روحي.
“جنّات عَ مدّ النّظر ما بينشبع منها نظر”، أعتقد أنك كنت ستؤدي الأغنية بشكل أفضل يا بروتوس لو تدرّبت على ذلك، وإن كنت لا تفهم المعنى.
ماذا دهاني لأغفو تلك الغفوة؟ هل كنت أحاول أن أحلم بواقعٍ أفضل؟ ذلك المسار الذي أجريناه منذ ساعات قليلة في قوارب ظنّت أنّ باستطاعتها تذوّق طعم “برَدَى” لقد أرهقني حقًّا، وما أرهقني أكثر كتابة اسم الحاصباني “حتسباني” باللغة العبرية، فهل تلطخت أجسادنا من مياه طغت عليها رائحة اللغة أم ما زالت صافيةً كالصوت الذي جعلني أخاطبك الآن؟ ما بالك يا بروتوس؟
أنظر من شبّاك الحافلة، لأرى “جنّات عَ مدّ النّظر”.
أسأل بشغفٍ: “وين إحنا؟” وأنظر إلى من حولي بعينين نصف مغمضتين وأشعر بثقلٍ في رأسي وما من جواب.
أعاودُ الكرّة بسؤالي، فيجيبني أحدهم غير مبالٍ: “في الهضبة”.
- يعني شو استفدنا يا بروتوس؟ ما إحنا عارفين إنو جايين على هاي الهضبة، هضبة الجولان السوري المحتل.
أسترق النظر من الشبّاك، دون أن أُشعِر من هم خارج الحافلة –الذين كانوا ينظرون إلينا بشيء من الغرابة- بتلهّفي المبطّن، فهم أهلي وناسي، وأحاولُ قراءة ما كُتب على الوجوه واللافتات، هذه بقعاثا الجولان السوري المحتلّ.
يدفعُني المشهد إلى التخيّل بأننا عبرنا الحدود -وفق حلمي لا حدود بين فلسطين وسورية، سوى على الورق- وأنسى أننا “عبرنا” من منطقةٍ محتلّة إلى منطقةٍ محتلّةٍ أخرى، كلّ ما يفصل بينهما: عام الاحتلال، وفئة الأشخاص المتخاذلين في كلّ حين.
أظنّك سمعت عنهم، فأنت منهم، ولكنني لا أدري إذا كنت تحقد مثلهم عليّ، لا تحاول أن تقنعني بعدم الغضب الآن، لأنّ ثمة ما يدفعني إلى ذلك، هل ترى ذلك الذي يصرُّ على أن يُفسد خيالي؟ إنه العلم الإسرائيليّ، ويتهيّأ لك يا بروتوس أنه يمكنه أن –يغطيني- في ليالي الشتاء القارصة لكبر حجمه، وأنت أيضًا، لكنني أبقى “سقعانة” لبرودة من، وما يمثّل، هذا العلم، علم السيادة الحالية كان قد وُضع غصبًا في أعلى بناية المجلس المحليّ في القرية عينها، ولكنني أعي أنّ هذا فرضًا على كلّ قريةٍ أو مدينة داخل الأراضي المحتلّة، ولكنني بالمقابل، لا أرى أيّ علم سوريّ يعلو أيّ بيت، وإن رفعوه هل ستشترك في عملية زجّهم في السجن مع أسيادك؟ لا بد أنك ستفعل.
“أهلا وسهلا بكم في ربوع الجولان”.
ربوع الجولان- كم هي جميلةٌ تلك العبارة التي لا يقوى على احتلالها أيّ متآمرٍ أو محتكر، ولا يقوى على السيطرة عليها أيّ متخاذلٍ بروتوسيّ سفيه.
عبارةٌ تُقاوِم، رغم أنفك.
هذا ما كُتب على إحدى اللافتات في أحد الشوارع المنسيّة، وجدناها بعد أن كان سائق الحافلة قد أضاع الطريق، وكنّا أنا وبروتوس نتشارع حول أيّ طريق سيقصد السائق بعد حين، ويا لسعدي، حطت رحالنا في كرم الكرز، فهذا هو موسمه، وأراضي الجولان تنعم بسهول الكرز والتفاح، لكنها لا تنعم بالحريّة، ولا أنا.
-”إنزل يا بروتوس، تحسّش حالك غريب هون، أهل الجولان كثير كُرما وأوادم”.
سهلٌ تجتمع فيه الألوان، فالأرض مفروشة بنباتات أشبه بالقش الأصفر، الأشجار مصطفةٌ بتراتب معين، لا تتعدّى الواحدة حدود الأخرى، وحبات الكرز تتدلى بلونها الأحمر الغامق، كلون شارع منسيّ آخر، لكن في حمص هذه المرة، وقد تلطّخ بدماء الأحرار.
يقول لنا صاحب السهل بصوتٍ يفيض بالطيبة: “أوّل شي بتاكلوا لَ تشبعوا، وبعدين بتعبّوا العلب ياللي بدكُن تشتروها”، ويتابع: “مش كِل يوم بيزورونا أهل الكرمل، بدكُن تحطّولي البَرَكة”.
-”شفت يا بروتوس؟ قلتلك تستحيش”.
أنظُرُ إلى خطواتي بخوفٍ، فأتوقع في كلّ لحظة أن أرى ثعبانًا يتمايل ويقصد لدغي أنا بالذات، أنفرد بشجرة واحدة، تتميز بحبات كرز كبيرة، لكنها لا تساوي وإن جمعناها، حجم علمك المعهود.
وبعد ساعةٍ أو أقلّ من القطف، يمكنني القول إنني تخرّجت من “معهد القطف” بنجاحٍ تامّ، فأنا لم أفسد أيّ حبةِ كرز، و”المعهد” سوريٌّ بامتياز. ولأوّل مرّة، لا أقوى على استخدام الكاميرا وتصوير المشهد، ولم أسارع لتذوّق ما يكفي من الكرز، فقد حاولت إشباع عينيّ من منطقةٍ “ما بينشبع منها نظر”، منطقة تخترق الحواس.
أسأل كعادتي مهتمّة بكلّ خطوة نقوم أو قد نقوم بها كي لا أتفاجأ: “وإسّا لوين؟”
فتجيبُني إحداهُنّ: “على مقام سيّدنا اليعفوري، حد مسعدة”.
-”فكرك في بمسعدة علم سوري على السطوح يا بروتوس؟”.
أنظرُ بترقّبٍ إلى الطريق، إلى الناس، إلى تحرّكات من حولي، إلى طبقات صوت وديع الصافي، إلى همسات ولمسات الآخرين –لي، ولغيري-، فالترقّبُ شعورٌ أفضّله عن غيره، وإن كان مؤقّتًا. الاحتلال مؤقت أيضًا؟
أُصدَمُ بلافتةٍ في الخارج كُتب عليها: “بيتا دروزيت” أيّ “خبزٌ درزيّ”- أقفُ مشدوهةً لسوء ما أقرأ.. “حتّى هنا، هنالك بروتوس يا بروتوس”، هل يُعقل؟ هل وصل الاحتلال الفكريّ إلى الجولان؟
-”يا فرحة ما تمّت، إجت الحزينة لتفرح ما لاقت مطرح”.
ليس هناك ما يُدعى “بيتا دروزيت”، يمكننا تسميتها “خبز صاج” أو “خبز شراك” أو “خبز رقيق” أو حتى خبزًا عربيًا، فهو يُصنع في كافّة المناطق العربية، فلسطينيّة وغير فلسطينيّة. لا، لم أتوقّع أن أجد “البيتا الدروزيت” في الجولان أيضًا، ظننت أن لعبة الصهيونية “مشت بس علينا”- نحن أهل الكرمل والجليل.
ربّما لأنّ سُنّة وسَنَة الاحتلال مختلفتان، ربّما- لا أحاول التبرير، صدّقني يا بروتوس، لكنني أحاول أن أخفّف على نفسي من حدّة الصّدمة.
-”لا تنظر إلي بهذه النظرات، قلت لك مرارًا وتكرارًا، حين أستشيط غضبًا لا يمكنني أن أسيطر على ردة فعلي، وهدوءك هذا يزيدني انفعالًا”.
سأغفو مجددًا في طريق العودة، نعم سأختار النوم واختصر المسافات بعينين مغمضتين، ربّما للهروب، أو للانعزال، وربّما أيضًا لأفسحَ مجالًا لذاكرتي بأن تغوص في نهر الحاصباني ربما- لتُحيكَ الأفكار كما يحلو لها، دون أن أقيّدها هذه المرّة بالحديث معك.
لذا انصرف عني ودعني أحلم كما شئت بالوطن.
وكان آخر ما سمعته و”شعرته” قبل أن أغفو: “وأنا قاعد متل التربة ضايع بين إيديك”.