إلهام/ أحمد أطرش
كانت جنازة إلهام هي الحَدَث.. هكذا حين نُشيّع شُهداءنا في أماكن مختلفة إلى جهة واحدة لأنّ القضيّة واحدة. ليست في لبنان فقط، بل في كلّ مكان، وليس في دبورية فقط بل في كل مكان هنا
إلهام/ أحمد أطرش
.
|أحمد أطرش|
“إلى أهالي قريتنا الكرام, ندعوكم للمشاركة في المسيرة الحاشدة التي ستجوب شوارع القرية رداً على مجازر جيش الاحتلال الإسرائيلي المرتكبة بحق إخواننا في لبنان والتي وصلت ذروتها بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا. وذلك غداً الثلاثاء الموافق 27\9\1982. ستنطلق المظاهرة بعد صلاة العيد مباشرةً من أمام “المسجد القديم”… الى أهالي قريتنا الكرام…”
كان المشهدُ غريبًا على أبناء قرية دبورية، الّذين لم يتخيّلوا أنّهم سيشهدون يومًا كذلك.
كان صباح اليوم الأول من عيد الأضحى. أربعمئة من الرّجال والنّساء يجوبون الشّوارع، ضاربينَ بعرض الحائط كل التهديدات السلطوية المباشرة منها وغير المباشرة بقمع كلّ مظاهرة مندّدة بالعدوان الإسرائيليّ على لبنان، وكان آخر تجليات هذه التهديدات قمع مظاهرة حاشدة في مدينة الناصرة قبل أسبوع من ذلك اليوم. إلا أنّ الوضع كان مختلفًا في دبّورية، حيث تزامن ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا مع انتشار خبر عودة جاسوس الموساد “ر.ك” إلى بيته في دبورية، ممّا زاد من حجم الغضب. تحوّلت المسيرة الاحتجاجيّة على مجزرة صبرا وشاتيلا إلى مسيرة ثأر. فالأقربون أولى بالمُحاسبة!
•
عمل ر.ك لحساب الموساد منذ سنة 1970 حتى سنة 1982, وفي تقرير نشرته جريدة “معاريف” الإسرائيلية في سنة 2009, وصف “ميكي”، مشغل الجاسوس ر.ك، بأن الأخير كان بمثابة أهم مصدر إسرائيلي طيلة سنوات طويلة حيث انتسب لحركة فتح ليشغل منصبًا رفيعًا حتى عودته إلى إسرائيل في سنة 1982 بعد أن أصبح مشكوكاً بأمره في لبنان. كان ر.ك المسؤول المباشر عن تسريب معلومات حول جميع عمليات المقاومة الفلسطينية المخطط لها من حركة فتح، وساعدت تلك المعلومات الجيش الإسرائيلي في إجهاض جميع العمليات من خلال نصب كمائن في المواقع المخطط لها وانتظار المقاومين وقتلهم فور ظهورهم، وبذلك وبسبب أهمية المعلومات والتقارير اليومية التي سربها الجاسوس لقيادة الجيش الإسرائيلي، لقب في جميع الأوساط الإسرائيلية “بعين الموساد في فتح”.
•
لم تكن صلاة العيد في اليوم التالي تشبه أي صلاة من الصّلوات التي اعتادها أهل القرية؛ فبدلا من اجترار قصة إبراهيم وإسماعيل وكبش الفداء كما كلّ عام، كان الحضور للمقاومة الفلسطينيّة في لبنان أكثر، كان العيدُ لشهداء فداء الأرض. كانت صلاة العيد منحازة للمقاومة.. لم تكن صلاة عيد بقدر ما كانت صلاة وَعيد لمَن حوّلونا كبشَ فداء يبتغون به وجه آلهة عدوّنا.
انطلقت المسيرة من أمام “المسجد القديم” في وسط القرية متجهةً الى “حارة الكرم”. كان الكثير من الأهالي ينتظرون مرور المظاهرة بجانب بيوتهم للانضمام اليها مجهّزين بالأعلام السوداء وأعلام فلسطين ولبنان، حتى صارت الحشود كبيرة بجانب المدرسة الثانوية في “حارة الجبل”، فتقدم أحد الشباب رافعًا يديه إلى الأعلى مشيرا الى التوقف عن السير وقال: “إحنا رح تنوجه اسا لبيت ر.ك ونتظاهر قدام داره عشان يطلع من البلد”، كان ردُّ المتظاهرين هتافًا: ” كل الخزي وكل العار لعملاء الاستعمار” ثمّ استأنفوا السيرَ حتى وصلوا إلى شارع “أبو خروبة” حيت يسكن الجاسوس.
في المشهد، يحتلّ النّاسُ مساحة مقابل منزل ر.ك، وكان الهتاف ما يزال يصدح إلى أن بتره صوت إطلاق النار من جهة المنزل.
“إلهااام.. ماتت إلهام!” جاءَ الصّوتُ عاليًا بعد لحظات من حالة الذّهول الّتي اعترت المتظاهرين جرّاء إطلاق النّار صوبهم. كانت العبارة: “ماتت إلهام” كافية لكي يثور النّاس متدافعين في إطلاق الحجارة صوب المنزل ردًّا على استشهاد إلهام أحمد شحبري، البالغة من العمر تسعة عشر ربيعًا على الفور برصاصة في الرأس، وأصيب شقيقها عبد شحبري بإصابات طفيفة. إلا أنّ الموتَ لم يكن رادعًا لكلا الطّرفيْن عن إكمال مهمّتهم: طرف يثور من أجل كرامته وطرف آخر يقتُل من أجل مَن سلبونا كرامتنا، فاستمرت المناوشات بين المتظاهرين وبين الجاسوس وزوجته التي شاركتْه إطلاق النار على المتظاهرين. وليس غريبًا وصول قوات الشرطة والجيش إلى المكان لتفريق المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع دفاعًا عن “عميلهم”. ولم يكن أهل القرية يدركون حقًا مدى أهميّة هذا الجاسوس الّذي سيفرُّ بعد دقائق مع زوجته بمروحيّة تابعة للجيش ستهبطُ أمام منزله، لينجو من تنفيذ حكم إعدام ميدانيّ كان مجرّد مسألة وقت!
•
كانت جنازة إلهام هي الحَدَث.. هكذا حين نُشيّع شُهداءنا في أماكن مختلفة إلى جهة واحدة لأنّ القضيّة واحدة. ليست في لبنان فقط، بل في كلّ مكان، وليس في دبورية فقط بل في كل مكان هنا. اعتُقِلَ أفراد لجنة التأبين الأولى، ليكون الرّدّ لجنة تأبين ثانية يوم الجنازة الّتي انطلقت من منزل الشهيدة في مركز القرية وأخذت في التحرك نحو المسجد ثم المقبرة، يتقدمها حملة الأكاليل والأعلام السوداء من الصبايا والشبّان في جيل الشهيدة. وفي سماء القرية، صدحت الهتافات المندّدة بالجريمة والمجرمين، والممجّدة بصبر الشعب الفلسطيني وصموده بناسه وشهدائه الأبرار وهتف الآلاف من جميع أرجاء البلاد: “يا شهيد ارتاح ارتاح، إحنا منكمل كفاح” و”يا عرفات هات هات، بدنا سلاح للبنات”. “البنات” اللواتي كُنّ جزءًا هامًّا من الحركة الاحتجاجيّة حينذاك، واللواتي لعبنَ دورًا شدّد عليه المتحدّثون الّذين خطبوا في النّاس بعد تشييع إلهام، حتى غدَت إلهام رمزًا لكلّ فتاة وشابّ.
•
أثناء محاولاتي الكثيرة، والّتي أخفقت ووُفّقتُ فيها، بالتنقيب عن أحداث ذلك اليوم، أكثر ما استوقفني هو تلك الرّوح النضالية غير المستسلمة لِما يسمى “واقع يجب التعايش معه”. الشعور بالانتماء اللا متناهي للقضية، للقرية بمفهومها الأوسع، للأمة العربية قاطبة. تلك الروح التي لم آلفها مذ كنت طفلا صغيرًا.
“كم هو زمن جميل”- أقولُ وأنا أحاول أن أتخيل المتظاهرين يملأون “ساحة الدير”. أشعرُني واحدًا من الّذين ساروا خلف نعش إلهام، أسمع صوتي متّحدًا مع أصواتهم. كلما مررتُ من شارع “المقبرة القديمة” أرى النصب التذكاري لإلهام. كومة حجارة غزتْها الأعشاب، لا اسم ولا تاريخ ولا شاهد يُذكّر بما مضى. وحيدة إلهام هناك، “عورة” غدت في زمن الإباحة السّاقطة لكلّ ما هو “ضدّ” وجودنا، لا يلتفت أحد إليها لإلقاء تحيّة أو نظرةَ وفاء ولو خجولة. لا ذكرى سنوية لإحياء ذلك اليوم. متى تلهمنا إلهامُ لنفعل شيئًا أكثر من أن نكتب؟
21 أبريل 2013
جميل يا احمد
18 أبريل 2013
هذا زمن الكوليرا هذا زمن العهر السياسي…كم من الهام سقطت على طريق النضال وتناسوها رفاق الامس ….الا ان المستقبل للانسان ابدا..!!!!
18 أبريل 2013
مقال جداً مؤثر
كلماتك كانت زي السيف خيا احمد