محمود درويش: قريب جدًا، بعيد جدًا
د.فاطمة قاسم في منتصف السبعينات كنت من مواطني جمهورية ا […]
محمود درويش: قريب جدًا، بعيد جدًا
د.فاطمة قاسم
في منتصف السبعينات كنت من مواطني جمهورية الفاكهاني، وفي تلك الجمهورية الصغيرة مثل قبضة اليد، الكبيرة بامتداد حلم الثورة الفلسطينية، فإن كل الأشياء والأسماء والتفاصيل تبدو قريبة، قريبة جداً، وبعيدة، أبعد من مساحات الخيال.
ومن بين ألمع الأسماء وأكثرها بريقاً محمود درويش، الذي كان قد تحول وقتها إلى ما يشبه الأسطورة، ولكنها الأسطورة الحية التي هي جزء من تفاصيل حياتنا أيضاً، حيث كان محمود درويش حاضراً على مدار اليوم، في الاجتماع، والمهرجان، وندوة الشعر، وصدور الديوان، والمادة المنشورة في مجلة شئون فلسطينية، واللقاء العائلي، وجلسة شلة الأصدقاء، ومع ماجد أبو شرار، وبرفقة معين بسيسو الذي كان يتنافس معه على أيهما شاعر الشعب وأيهما شاعر الثورة؟وكنا نتحدث عن الاثنين معين ومحمود، أن معين، بصوته الأجش، لا بد أن يكون محمولاً على الأكتاف حين تقوم مظاهرة صاخبة، بينما حين تنتهي المظاهرة، ويتساقط العرق، وينتثر الدم ربما، وتبقى الظلال هناك، ويخيم الصمت، ويسكن الأسى في زوايا المكان، فإن محمود درويش هو الذي سيلملم ذلك كله في باقة من الشعر، جميلة إلى حد الذهول، إلى حد أنك تعثر على نفسك التي كانت تائهة منك، وترى لوجودك معنى في خضم المشهد الفلسطيني الطارئ جداً، العادي جداً، المكتظ بالاحتمالات، المتفجر بالمفاجآت، المشهد الذي خلفيته الحلم الملون، وأرضيته الموت والجنون.
ربما أكون قد التقيت مع محمود درويش ألف مرّة، فقد كنا معاً في جمهورية الفاكهاني، في الشارع الأخير، كما كنا نقول، في الطريق الجديدة، فلقد كنت أسكن في الطابق الخامس في البناية التي يوجد في بدرومها مقر “المجلس الثوري”، وأمامها مباشرة وكالة الأنباء، ومقر السينما الفلسطينية، ومقر الإعلام الموحد بقيادة ماجد أبو شرار، وعلى بعد بنايتين توجد الدائرة السياسية، وبالقرب منها عند ناصية الشارع مقر الإذاعة، إذاعة صوت فلسطين، ومقر الاتحاد العام للمرأة، وفي الخلف مقهى أبو على الذي أمامه مقر مجلة فلسطين الثورة، وعلى ناصية الشارع الموازي مكتب صلاح خلف “أبو إياد”، ودار القدس للنشر، وأمامها مسجد الإمام علي، ثم كلية الهندسة في جامعة بيروت العربية، ثم مقر الرئيس ياسر عرفات.
وفي كل يوم من تلك الأيام، لا بد أن يكون محمود درويش داخل واحدة من تلك التفاصيل، وقد اكتشفت بعد رحيله أنه ليس عندي صورة واحدة معه، ربما تكون هناك صور بحوزة آخرين، ولكن أنا ليس عندي صورة لصديق شغل الناس جميعاً، ربما تكون هذه ظاهرة في ذلك الزمن، ربما كنا نعتقد أننا سنبقى سوياً، قريبين جداً في جمهورية الفاكهاني، حاضرين معاً، وربما لم نكن نصدق أننا على أبواب الرحيل الذي يأخذنا إلى رحيل آخر، حيث ننتقل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى على أجنحة الذهول وما فوق التوقع، ربما، ولكن محمود درويش المتوفر دائماً هو نفسه النادر دائماً، كانت له هذه الخصوصية، يعيش معك في اللحظة ذاتها، على كرسي في المقهى، على طاولة سفرة في البيت، ولكنه يسكن هناك خارج المقاييس، في مخاض القصيدة التي يتحضر لها عندما تبدأ إيقاعاتها، وتبدأ رياحها بالهبوب، فيسكن هناك في الإيقاع، في بقع القلق، قريب ولكنه بعيد، حاضر ولكنه غائب، متجلي بالفرح وغارق في الحزن.
محمود درويش من إنتاج عبقرية حالتنا الفلسطينية، حيث المعنى أكبر من المبنى، حيث الحلم أكبر من الممكن، وحيث الآتي هو الموعد أما الحاضر فهو ليس سوى بوابة الطريق.
وبين القريب والبعيد في محمود درويش، بين الأمل الذي نريده منه، والوجع الذي يكابده، كنا نعيش معه كأنه باقٍ أبداً، وحين رحل في لحظة استعصاء المسافات، شعرنا بحزن مضاعف، لأننا تذكرنا أننا لم نكمل بقية الحكاية معه.