هكذا ترجمتُ الأدب الإسرائيلي: قصة بلا دراما/ نائل الطوخي
أنا لا أعتبر ترجمة الأدب الإسرائيلي بوابة “لأنسنة العدو الصهيوني”، وإن كان بوابة لـ”أنسنة العدو الصهيوني” فأنا لست ضد “أنسنة العدو الصهيوني”، كما أنني على الناحية الأخرى غير مقتنع بأن إسرائيل دولة صديقة وينبغي إقامة جسور الصداقة معها عبر ترجمة أدبها، كلا الادعائين غير مقنعين بالنسبة لي. الموضوع ببساطة، أنني أقرأ الأدب العبري لأنني مهتم بأن أعرفه، وأترجمه لأنني مهتم بأن يعرفه الآخرون، وأنا أعرفه لأنني درسته. راجع الفقرة الأولى.
هكذا ترجمتُ الأدب الإسرائيلي: قصة بلا دراما/ نائل الطوخي
| نائل الطوخي |
إنت ليه بتترجم أدب إسرائيلي؟ إشمعنى؟
- عشان درست عبري في الجامعة، وعشان بحب الأدب.
- واشمعنى اخترت العبري في الجامعة؟
- عشان كان نفسي ادخل قسم انجليزي بس مجموعي في الانجليزي ماسمحش، وماكانش فيه اقسام لغات تانية في جامعة عين شمس.
***
طبعاً، أتمنى في كل مرة أُسأل فيها هذا السؤال، سواء على يد متشكك قومي أو على يد صحفي أجنبي متحمس للتجربة، أن أجيب بإجابة أكثر درامية من هذه. مثلا: “أترجم الأدب الإسرائيلي لأن الأدب هو عين على ثقافة العدو”، أو الإجابة العكسية: “أترجم الأدب الإسرائيلي لأنه يكفي كل الحرب بيننا وبين إسرائيل وعلينا أن نتعامل معهم بمنطق أكثر إنسانية”، أو “درست العبرية بسبب فضولي تجاه ثقافة العدو”. هذه هي الإجابات المقنعة للأجانب وللعرب على حد سواء في كل ما يتعلق بالمدونة التي أقمتها لترجمة الأدب الإسرائيلي وأخذت عنوان “هكذا تحدث كوهين”.
على ما يبدو فإن ردودي هذه لا تقنع الناس. هم لا يقتنعون إن إنساناً عادياً، عانى من مشاكل في المجموع مثل جميع الطلبة، يدخل قسم اللغة العبرية، بالضبط مثلما يدخل طلبة آخرون قسم علم اجتماع، فلسفة، لغة عربية، أو مثلما يدخل الطلبة كلية مثل كلية التجارة. وعندما يتخرج الطالب العادي من قسم اللغة العبرية فهو لا يتحول إلى جاسوس، وإنما في الغالب، يفتح محل موبايلات، بالضبط مثله مثل خريج التجارة. عادي جداً! فقط ما هو مختلف في حالتي هو إنني قررت استكمال القراءة بالعبرية والتخصص، بشكل غير أكاديمي، في الأدب الإسرائيلي الحديث، وأنني لم أحب فكرة فتح محل الموبايلات. هذا فقط هو المختلف عن كل مسيرة الدراسة المصرية الرثة.
المهم، عبر جهد جهيد من تخليص نفسي من أسلحتي الدرامية، اللازمة لتسويق بضاعتي، استطعت أن أمشي عاريا باللغة العبرية التي أحملها معي. هذا أصعب بالتأكيد، وقد لا يكون أجمل أيضاً، لا أعرف، ولكنني في النهاية لا أستطيع أن أدعي ادعاءات أكثر ثقلا من قناعاتي. أنا لا أعتبر ترجمة الأدب الإسرائيلي بوابة “لأنسنة العدو الصهيوني”، وإن كان بوابة لـ”أنسنة العدو الصهيوني” فأنا لست ضد “أنسنة العدو الصهيوني”، كما أنني على الناحية الأخرى غير مقتنع بأن إسرائيل دولة صديقة وينبغي إقامة جسور الصداقة معها عبر ترجمة أدبها، كلا الادعائين غير مقنعين بالنسبة لي. الموضوع ببساطة، أنني أقرأ الأدب العبري لأنني مهتم بأن أعرفه، وأترجمه لأنني مهتم بأن يعرفه الآخرون، وأنا أعرفه لأنني درسته. راجع الفقرة الأولى.
طيب، اكتسبت معرفة جيدة بالأدب الإسرائيلي من خلال ترجمتي. لأنني التزمت بترجمة نصوص كل أسبوع، في كل أسبوع يوم جمعة، وفي يوم الجمعة هذا ألتزم بالترجمة وإسعاد القراء المتعطشين لقراءة الأدب الإسرائيلي.
وبالنسبة لتعطش القراء في مصر لقراءة الأدب الإسرائيلي أريد أن أضيف معلومة واحدة، وهي المعلومة الأكثر إحباطاً في القصة كلها: في الغالب يتعطش القراء لقراءة الأدب الإسرائيلي لكي يخبروا أصدقائهم أنهم قرأوا الأدب الإسرائيلي. بمعنى أن المثير في القصة هو أن الأدب إسرائيلي. قراءته هي ما تجعل الإنسان يتباهى بمعرفته النادرة بهذا الحقل النادر من المعرفة، الحقل النادر والمستفز. ولكي يكون الأدب الإسرائيلي مستفزاً فعليه أن يتحدث عن شيء له علاقة بالسياسة، شيء له علاقة بالمجتمع، شيء لا علاقة له بالسياسة أو بالمجتمع لكي نخبر أصدقائنا أننا قرأنا أدباً إسرائيلي لا علاقة له بالسياسة أو بالمجتمع. باختصار، لا يمكنك أن تقرأ الأدب الإسرائيلي كما تقرأ الأدب الفرنسي. قراءة الأدب الفرنسي تعطيك برستيجاً من نوع مختلف، تعطيك البرستيج الأصلي للمثقف. بعد ساعات من حديثك مع أصدقائك عن مارسيل بروست، هذا هو البرستيج الأصلي، يمكنك أن تذكر شيئاً عن “الأدب الإسرائيلي”، هذا هو البرستيج الفرعي الذي تدعم به البرستيج الأصلي. انتبه، ينبغي أن تتحدث عن “الأدب الإسرائيلي” كله، ليس عن عاموس عوز أو عن دافيد جروسمان حتى، وهما أشهر الأدباء الإسرائيليين، وإنما عن “الأدب الإسرائيلي”. مع الاستنتاج السريع، سواء كان الاستنتاج هو أن الأدب الإسرائيلي عنصري في أعماقه أو أن الأدب الإسرائيلي إنساني في أعماقه. المهم في حالة الأدب الإسرائيلي هو الاستنتاجات. هل يمكن لأحد أن يقرأ شموئيل يوسف عجنون لأنه يحبه؟ لا يمكن. ناهيك طبعا عن اسم الأديب المضحك، الاسم الذي يبدو شرقياً في أعماقه، الاسم الذي يحيلنا لرأفت الهجان على الفور. مثلاً، أحب كاتبا مسرحيا بعينه وأنا دائم الحديث عنه. ترجمت له عدة نصوص في المدونة وقرأت له أضعاف ما ترجمته. في كل مرة أحدث الأصدقاء عن هذا الأديب ينبهرون به، ثم أذكر اسمه، حانوخ لفين، فيبدأون في الضحك، حانوخ لفين، أروح لمين، على سبيل المثال. ثم يتحول الكلام الذي كان جادا من قبل لهزل. شكراً يا أصدقائي. أقدّر لكم روح دعابتكم العالية!
ولأن الحال هذه، فقد تم الاحتفاء بالمدونة في البداية احتفاء بالغاً، أول مدونة في العالم العربي تترجم الأدب الإسرائيلي. شكرا يا جماعة. ولكن القراءة بعد ذلك، قراءة النصوص نفسها، التعليق على النصوص نفسها؟ لا يهم. المهم أنه يمكننا الكلام عن “الأدب الإسرائيلي” مع أصدقائنا. وددت أن أقول لهؤلاء القراء المتعطشين لقراءة الأدب الإسرائيلي، إنه لو كانت غايتهم تلخيص ما قرأوه في جمل سريعة وثاقبة وحادة الذكاء لكي يتباهوا بها أمام أصدقائهم، فيمكنهم اللجوء للإنجليزية. الترجمة عن العبرية ليست شرطاً والله.
هذه كانت العقبة الكبرى والفعلية أمام ترجمتي الأدب الإسرائيلي، لم تكن العقبة الكبرى هي الحروب الضخمة التي شنها عليّ القوميون المتصلبون أو الإسلاميون المتشددون، كنت أتمنى والله لو كانت هناك حروب مثل هذه، ولكنها لم تحدث. وللمرة الثالثة، فقدت قصتي الدراما اللازمة لها .
*نُشر في مجلة “الثقافة الجديدة”، في إطار ملف كامل عن “الترجمة”. عدد فبراير 2013