الحب والاختلاف والتسامح عند ابن عربي: ملف خاص
لماذا ابن عربي؟ لأننا نؤمن بأنّ ثقافتنا العربية ذات جذور موغلة في العمق في فلسفات الإنسان والخلق والسياسة والحب وغيرها من مواضيع لم تتفرّد الفلسفات الغربية في طرحها ونقاشها
.
تحرير: مليحة مسلماني
.
■ من نصوص الشيخ الأكبر ابن عربي في الحب
■ مدخل في “الحب” عند ابن عربي/ مليحة مسلماني
■ فلسفة الاختلاف عند الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الأندلسي/ فرعون حمو
■ طبيعةُ عيسى الرُّوحية: عيسى روحٌ تجسَّدتْ، لا جسم نُفِخَتْ فيه الروح/ سعاد الحكيم
.
لماذا ابن عربي؟/ مليحة مسلماني
إنّ أحوج ما تعوزه الثقافة العربية هو البحث في جذورها لاستلهام ما تنطوي عليه تلك الجذور من كنور في المعرفة وفلسفات في المعرفة والوجود والحب والاختلاف وغيرها من حقائق ومفاهيم، إذ يبقى هذا الطريق -أي العودة إلى الذات- ضروريًا في ظلّ ما نلحظه من تراجع سياسيّ واقتصادي عربيّ مرتبط بالضرورة بالثقافة وطرق التفكير السائدة، والتي يبدو جليًّا أنها تعاني هي الأخرى التبعية، تمامًا كما هو الحال مع التبعيات الأخرى السياسية والاقتصادية. فمعظم ما تُؤسَّس عليه الثقافة العربية المعاصرة، من نظريات ومصطلحات ومفاهيم، نشأ ضمن صيرورة تاريخية معقّدة في الغرب خاصة به وبظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد أدّت تلك التبعية إلى ردّ فعل عكسيّ تمامًا في المجتمعات العربية، في محاولة لإيجاد هوية يتحصن وراءها الفرد والجماعة أمام ما يهدّد وجودها، وهو ما أفضى إلى عودة إلى الذات منغلقة، متحفّظة، إقصائية الفكر والسلوك، ما يمثله ظهور تيارات دينية أصولية لا تعترف بالاختلاف والتسامح مع الآخر، أثرت بالسّلب على الحراك الشبابيّ الثوري المعاصر الهادف إلى إسقاط أنظمة الديكتاتورية وبناء دولة التعدّدية والحريات.
على الطرف المقابل، وقف المثقف العربي المعاصر موقفًا معاديًا تجاه تلك التيارات وطرق التفكير الإقصائية. غير أنّ هذا الموقف جاء منقوصًا، فبدا عدائيًا لمجرد العداء، بل وصل الحال بالكثيرين من المثقفين إلى الوقوع في فخّ الإقصاء، فلم يختلفوا في توجّهاتهم وحلولهم التي يقدّمون تجاه التيارات الأصولية عمّا تقدّمه تلك التيارات نفسها: أنت تقصيني والحلّ يكمن في إقصائك والقضاء عليك، وباختصار يصبح الحل: إما أنا أو أنت، وبالتالي الدخول في دوّامة عنف تستنزف المجتمع والبلاد. هذه الحالة شديدة الخطورة تنتج عن عدم تقديم بديل ثقافيّ هوياتيّ يستند إلى فهم عميق للواقع والتاريخ، بديل يتيح الحاجة الضرورية لأيّ هوية لأن تنطلق من جذورها الراسخة، لتحتفظ بالأصالة الضرورية للتوازن والصمود، وفي نفس الوقت هوية تسمح باستيعاب الاختلاف والتعدّد على مختلف أنواعه السياسيّ والفكري والديني.
من هنا تبرز الحاجة المُلحّة إلى فهم أعمق للواقع المعاصر الذي هو نتاج عقود وقرون مضت ليس فقط من التخلف والفساد والحكم الديكتاتوريّ، بل وأيضًا من التراكم المعرفي العربي الذي يصيبه الخلل والاضطراب والحيرة بين نقيضيْن: العودة المنغلقة إلى الذات، أو الانفتاح على الآخر حدّ التبعية وبتر الجذور. وهو جدل ليس بالجديد بين المثقفين العرب، لكنّ هذا الجدل الثقافي طوال العقود الماضية لم يقدّم آثارًا ملموسة على أرض الواقع. وغنيّ عن القول، إنّ النظرة المنقوصة تجاه الذات لدى العرب عامة، لم يكن سببها التخلف فحسب، بل ساهم الفكر الغربي أيضًا بنظرياته حول التفوق الغربي والشرق والغرب وبثنائياته في تعزيز تلك النظرة المنقوصة تجاه الذات، في محاولات متعمّدة لبتر جذور الأمة وإبقائها على التبعية.
ليس بالإمكان الخوض -ضمن هذا التقديم للملف حول “الحب والتسامح والاختلاف عند ابن عربي”- في كل تلك التعقيدات والتحديات التي تواجهها الثقافة العربية: الأنا، والآخر، والأصالة، والمعاصرة، والجذور، والتبعية وغيرها، وما يخرج عن تلك التعقيدات من مفاهيم، لكنّ الطموح هو البدء في تفكيك المفاهيم وإعادة بنائها في سياق عربيّ الجذور والهوية، من خلال مثل هذا الملف حول فكر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، باعتباره واحدًا من أهم المفكّرين العرب، لما قدّمه هذا العلّامة من مؤلفات غزيرة تنطوي على مدرسة فلسفية شاملة في الخلق والوجود والمعرفة والحبّ والله والأخلاق والسياسة.
لماذا ابن عربي؟ لأننا نؤمن بأنّ ثقافتنا العربية ذات جذور موغلة في العمق في فلسفات الإنسان والخلق والسياسة والحب وغيرها من مواضيع لم تتفرّد الفلسفات الغربية في طرحها ونقاشها. وأَحبُّ تعريفٍ إليّ للفلسفة هو “حبّ الحكمة” أو “حبّ المعرفة”. فكلمة حب تنطوي على أبعاد ومعانٍ عدة وعلى فلسفة عميقة، وهو ما يقدّمه هذا الملف الأول حول ابن عربي، من خلال نصوص ابن عربي نفسه، ومن خلال تقديم مدخل وقراءة في فلسفة الحب عنده، بالإضافة إلى قراءة حول فلسفة الاختلاف عند ابن عربي يقدّمها الباحث فرعون حمو من الجزائر خصيصًا لهذا الملف، وأخيرًا من خلال مقال آخر للمؤلفة سعاد الحكيم حول “طبيعة عيسى الروحية” عند ابن عربي، وهو مقال ليس بالجديد للكاتبة لكن ندرجه ضمن هذا الملف لكونه وثيق الارتباط بمسألة التسامح من المنظور الصوفيّ، والتسامح بدوره يرتبط بالمقدرة على الحب واستيعاب حقيقة الاختلاف.