“عمارة يعقوبيان”: جرأة ترضي الجميع!
تتّضح الرؤية المحافظة للرواية مع موت الطفل الصغير لـ”عبده”، بعد أن كان يخشى مسبقاً عقاباً إلهيّاً ينزل به
“عمارة يعقوبيان”: جرأة ترضي الجميع!
|عمر قدور|
لم تنل رواية عربيّة في العقد الأخير الانتشارَ والشهرة اللذين نالتهما رواية “عمارة يعقوبيان” للكاتب المصريّ علاء الأسواني، فالرواية نفدت طبعتها الأولى في شهرين، ثمّ توالت طبعاتها، وسرعان ما تحوّلت إلى فيلم سينمائيّ. في تقديمه للطبعة الثامنة من “عمارة يعقوبيان” يعزو مؤلّفها النجاح إلى “فضل عظيم من الله عزّ وجلّ أحمده عليه وربّما لأنّني تعبت فعلاً في كتابتها”. من حقّ الكاتب رؤية الأمر كما يشاء، لكنّ ذلك يفرغ النجاح من دلالته العامّة، فإذا كان النجاح الجماهيريّ لعمل أدبيّ أو فنّيّ لا يعدّ معياراً فنيّاً إلا أنّه يصلح كمعيار ثقافيّ؛ نتعرّف من خلاله على طبيعة الثقافة السائدة، أو على ما يمكن أن نسمّيه مجازاً “متوسِّطاً ثقافيّاً”، هذا إذا نحّينا جانباً قوّة الدفع الذاتيّ التي تكتسبها الشهرة بعد انطلاقتها. من زاوية النجاح كفعل ثقافيّ عامّ، وما قيل عن جرأة الرواية في الكشف عن المستور المجتمعيّ، خاصّة العلاقة المثليّة الموجودة في الرواية، تنطلق هذه القراءة لتفحّص العلاقة المثليّة ومآلها وطريقة التعبير عنها؛ أي ما جعل الرواية تبدو جريئة ومقبولة في آنٍ!
قبل دخول قصّة الصحفيّ المثليّ وعشيقه، تمهّد الرواية بالحديث عن بار يرتاده المثليّون على النحو التالي: “وأماكن الشواذّ مثل غرز الحشيش وأوكار القمار ينتمي روّادها إلى مستويات اجتماعيّة وأعمار متفاوتة فتجد بينهم الحرفيّين والمهنيّين والشباب والمسنّين وقد وحّد الشذوذ بينهم جميعاً.. كما أنّ الشواذ، مثل الهجّامين والنشّالين وكلّ الطوائف الخارجة على القانون أو العرف، يصطنعون لأنفسهم لغة خاصّة تمكّنهم من التفاهم وسط الناس بطريقة لا يفهمها سواهم/ ص53″. كان بوسع الكاتب أن يصف أماكن تواجد المثليّين بلا مقاربات كالتي ساقها، لكنّ هذه المقاربات تقع في صميم تصوّر الراوي/الروائيّ عن الحالة المثليّة. فهؤلاء الشواذّ، كما رأينا، كالحشّاشين والمقامرين، وهذا التشبيه قد يبدو عاديّاً بما أنّ تعاطي الحشيش أو القمار يندرج في إطار الحريّة الشخصيّة غير المقبولة اجتماعيّاً، أمّا التشبيه بالنشّالين كفئة تعتدي على الآخرين، مع العطف بين القانون والعرف، فهو ينبئ مبكّراً بالطريقة التي ينظر بها الكاتب إلى المثليّة.
تسرد الرواية قصّتين متكاملتين، كما سنرى، لحالتي لواط. الأولى قصّة حاتم رشيد الصحفيّ ذي الميول المثليّة، والثانية قصّة طه الشاذلي الشابّ الإسلاميّ الذي يقع ضحيّة الاغتصاب في أحد فروع أمن الدولة. ومع أنّ القصّتين تبدوان على طرفي نقيض من حيث أنّ الأوّل يكابد من أجل الحصول على عشيق والاحتفاظ به، بينما يكابد الثاني ممّا يعدّه انتهاكاً لعرضه، إلا أنّ هذه المقابلة بين الاثنين ليست اعتباطيّة في رواية واحدة. بل إنّ رؤية الكاتب “تستقيم” بالمقابلة بين الاثنين/الضدّين، وذلك ما يفصح عنه منطوق الرواية.
حاتم رشيد الصحفيّ ابن لحقوقيّ مصريّ بارز وأمّ فرنسيّة تعرّف عليها الأب أثناء دراسته العليا في فرنسا، حيث كانت تعمل ساقية في بار صغير في الحيّ اللاتينيّ، ومع أنّ الأبوين انشغلا عن ابنهما، وتركا لأحد الخدم أن يعبث بجسده ويوقظ في نفسه النوازع المثليّة، إلا أنّ نصيب الأمّ من إهمال ولدها يبدو أكبر، ويتعاظم نصيبها بكونها فرنسيّة ومن منبت متواضع كما نرى في مونولوج لحاتم يخاطب فيه أمّه المتوفّاة: “لقد كنت مجرّد ساقية في بار صغير في الحيّ اللاتيني، كنت فقيرة وغير متعلّمة وكان زواجك من أبي نقلة اجتماعية كبيرة لم تكوني تحلمين بها لكنك ظللت بعد ذلك لمدة ثلاثين عاماً تحتقرين أبي وتبتزّينه لأنه مصريّ وأنت فرنسية، لعبت دور الأوربية المتحضّرة وسط الهمج، ظللت تتأفّفين من مصر والمصريين وتعاملين الجميع بجفاء وتعال.. وقد كان إهمالك لي جزءاً من كراهيتك لمصر، وأظنّك خنت أبي أكثر من مرّة، بل أنا واثق من ذلك، على الأقل مع المسيو بينار سكرتير السفارة الذي كنت تتحدثين إليه في التليفون بالساعات تستلقين على الفراش وتحتضنين السماعة وتهمسين ويربدّ وجهك بالشهوة وترسلينني بعيداً ألعب مع الخدم.. أنت في الواقع ساقطة يكفي المرء أن يفتح كفه في بارات باريس ليلتقط عشرة من أمثالك../ص257″. ينطوي الاقتباس الطويل السابق على إيحاءات متعدّدة، منها ما هو طبقيّ، ومنها ما هو قوميّ “يلتبس عادةً بالدينيّ”. فحوى القول إنّ هذه الفرنسيّة هي سبب “علّة” ابنها، ولنا أن نتخيّل الأمر على نحو مغاير كلّيّاً فيما لو كانت الأم مصريّة، وكأنّ مثليّة الابن تأتي من عاملين لا ينتميان إلى المتن المدينيّ المصريّ؛ الأمّ الفرنسيّة والخادم الصعيديّ. أما وصف ساقطة الذي توصم به الأمّ فهو ليس خاصّاً بمنطوق الشخصيّة، لأنّ الراوي يستخدم هذا الوصف الذي يفيض بالدلالة القيميّة “الاحتقار الشديد” في حالات أخرى في الرواية، وكان بوسعه على سبيل المثال استخدام وصف “عاهرة” بدلاً منه. هذا التفاضل يبدو جوهريّاً في الرواية على أكثر من صعيد، ففي أحد مقاطع الرواية يتحدّث الراوي عن شخصيّته المركزيّة بالقول: “كما ضاجع زكي بك نساء من كل الطبقات.. راقصات شرقيات وأجنبيات وسيدات مجتمع وزوجات لرجال أفاضل مرموقين وتلميذات جامعة وثانوي بل وساقطات وفلاحات وخادمات بيوت/ ص13″ لنلاحظ أنّ الكاتب عدّد الفئات الأولى كرزمة واحدة مستخدماً “واو” العطف، وحجز بينها وبين الفئات الأخرى “التي يوحى هكذا بأنّها من طينة واحدة” باستخدام “بل” للاستدراك.
بالعودة إلى قصّة حاتم رشيد وعشيقه عبده “الصعيديّ أيضاً”؛ يستدرج الأول الثاني إلى العلاقة، بينما تتراوح مشاعر الصعيديّ بين نفور و”اشتياق لذيذ آثم” بتعبير الرواية. من جهة الصعيديّ سيكون الإحساس بالإثم منطقيّاً، فهو تربّى على مفاهيم للفحولة ومفاهيم دينيّة تبعده عن تقبّل علاقة بشخص مثليٍّّ، ثم إنّه يدخل في جدال مع حاتم الذي يحاول تفنيد تلك المفاهيم. لكنّ موضوعة الإثم لا تقتصر على شخصيّة الصعيديّ، بل هي من منطوق الراوي/الرواية، وهذا ما يفسّر توصيف الرواية لشخصيّة حاتم على النحو التالي: “وقد عرف حاتم رجالاً كثيرين وفارقهم لأسباب مختلفة لكنّ شهوته الآثمة الدفينة ظلّت دائماً مرتبطة بإدريس السفرجي/ ص108″. كما أنّه ليس من المصادفة أن تُقدّم الشخصيّة ذاتها منذ البداية على النحو التالي: “وبدا بأناقته وقدّه الرشيق وملامحه الفرنسية الدقيقة أشبه بنجم سينمائي متألّق لولا التجاعيد التي تركتها على وجهه الحياة الصاخبة وذلك الاربداد الغامض الكريه البائس الذي يغلّف دائماً وجوه الشواذّ/ ص55″.
تتّضح الرؤية المحافظة للرواية مع موت الطفل الصغير لـ”عبده”، بعد أن كان يخشى مسبقاً عقاباً إلهيّاً ينزل به. لذا يبتعد عبده عن معشوقه؛ يترك له البيت والكشك الذي يعمل فيه وتنقطع أخباره نهائيّاً عن حاتم إلى أن يعثر عليه في مقهى يرتاده الصعايدة. يستغلّ حاتم حاجة عبده إلى النقود، ويستدرجه ثانية إلى السرير في صفقة لليلة واحدة، لكنه ما يلبث أن يقوم بابتزازه من أجل البقاء بطريقة تجمع بين التعلّق واللؤم، ما يدفع عبده إلى قتله في نوبة غضب، أو ربّما إلى إتمام العقاب الإلهيّ بيديه هذه المرّة. ومع أنّ جنس الطفل يبدو هامشيّاً في معمعة القتل هذه إلا أنّ رمزيته تفوق ذلك، فموت الطفل الذكر هو إيذان بالعقاب الإلهيّ الذي قطع النسل عقاباً لممارسة جنسيّة “عقيمة”؛ إنّ موت الطفل الذكر، إضافة إلى الأفضليّة الاجتماعيّة التي يحملها قياساً إلى الأنثى، هو طعنة في صميم فحولة الأب.
تجد مسألة انقطاع النسل تتمّتها في قصّة طه الشاذلي، فالأخير يذهب بعد تعرضّه للاغتصاب من قبل عناصر الأمن إلى معسكر تدريب للإسلاميّين، وهناك يتزوّج من أرملة أحد الجهاديّين، ثمّ تمرّ عدّة شهور على الزواج قبل أن يشارك في عملية قتل أحد ضبّاط الأمن؛ لا تشير الرواية سلباً أو إيجاباً إلى موضوع الإنجاب في حالة طه، مع أنّ علاقته الجنسيّة جيّدة بزوجته رضوى، وليس لدى الأخيرة ما يمنعها من الإنجاب وقد أنجبت طفلاً من زواج سابق، كما أنّه من المستبعد أن يحدّ هذان الزوجان، الإسلاميّان المتحمّسان، من النسل. التفسير الأقرب إلى منطق الرواية هو أنّ الشاذلي الذي أولِج فيه لم يعد صالحاً ليكون له نسل، حتّى إن كان ما يزال صالحاً للنشاط الجنسيّ مع امرأته. وإذا نحّينا جانباً الاختلافات الأيديولوجيّة، فإنّ شخصيّة طه تقوم بالفعل الذي لا يقدر عليه حاتم رشيد، فطه يندفع في عمليّة مسلّحة بطريقة هي أقرب إلى الانتحار من كونها إرهاباً سياسيّاً، وكأنّه بقي على قيد الحياة من أجل الانتقام لعرضه فقط. من جهة حاتم رشيد تشرح الرواية مشاعره كالتالي: “في تلك اللحظات السوداء يستبدّ اليأس بحاتم ويمزقه إحساسه بالمهانة ويستسلم للبكاء كالأطفال ويفكر أحياناً في الانتحار لكنه يفتقر إلى الشجاعة اللازمة للإقدام عليه../ ص257″.
أهي مصادفة أن يُقتل أو يُسجن كلّ من شارك في فعل جنسيّ مثليّ في الرواية بمن فيهم الضابط المشرف على عمليات الاغتصاب؟ بالطبع ليس الأمر كذلك، وإلا نكون في موقع من يحطّ من شأن الرواية كنصّ مفكّر فيه. بل إنّ براعة الكاتب تجلّت في التمهيد لـ”مسرح الجريمة”، فكان فعل القتل نهاية منطقيّة للسياق الدراميّ، والميلودراميّ أحياناً، الذي اقترحه في الرواية. ولم يكن هذا السياق مفارقاً للسياق المجتمعيّ، فهو من جهة يكشف عمّا يُعتقد أنّه “آفات” اجتماعيّة، ومن جهة أخرى تقوم الرواية، عبر مآلاتها، بالفعل التطهيريّ اللازم للتخلّص من العبء الشعوريّ لـ”الإثم”. الأمر هنا أشبه بالدراما التي اعتاد عليها المتلقّي العربيّ، إذ تقدّم له وجبة من الصراعات تنتهي بالحسم لصالح أخلاقيّاته السائدة. لذا ليس مستغرباً أن تنتهي الرواية بمشهد زفاف زكي بك إلى بثينة برمزيّة هذا الزفاف؛ فالأوّل زير نساء عريق، والثانية كادت تنزلق بعيداً في بيع جسدها بسبب الفقر، “دائماً يحدث هذا بسبب الفقر!”. وللقارئ بعد ذلك أن ينام قريراً على أنغام الزفّة وموسيقا الرقص الشرقي التي تنبعث من الصفحات الأخيرة.
يقول الروائيّ المصريّ رؤوف مسعد، في تصريح للعربيّة نت بتاريخ 20/9/2009، واصفاً التلقّي الجماهيريّ لما يكتبه الأدباء العرب عن المثليّة: “حينما كتب علاء الأسواني عنهم وعاقبهم بالقتل كما حدث لشخصية الصحفيّ في عمارة يعقوبيان فهذا طبيعي، لكن حينما اكتب أنا عنهم وأسجّل وثائق انتهاكهم كبشر في الطبّ الشرعيّ وأقسام الشرطة فحينئذ يغضب بعض الناس ويتنمّرون”. وفي هذا السياق نسترجع “بيضة النعامة” لرؤوف مسعد التي لم تأخذ حظّها من الاهتمام خارج النخب الثقافيّة حين صدرت طبعتها الأولى عام 1994، مع أنّها كانت سبّاقة إلى ملامسة حالات من المثليّة عند الرجال والنساء، أو حالات من ازدواجيّة الميول الجنسيّة. لكنّ “بيضة النعامة” لم تسرد تلك الحالات بمنطق “الإثم”، أو السعي إلى التطهّر من الجسد، بل كان الجسد فيها هو وسيلة التطهّر من الأخلاقيّات السائدة. ولا يخلو من الدلالة أنّ مسعد أثار ضجّة من نوع آخر حول روايته الأخيرة “إيثاكا”، فالرواية المذكورة اعتمدت على حادثة معروفة باسم قضية “كوين بوت” 2001، وحينها ألقت شرطة الآداب المصريّة القبض على الموجودين في العوّامة كوين بوت لما اعتبرته ممارسة للشذوذ، وقامت المحكمة بسجن العشرات منهم وتبرئة العشرات الآخرين. يدافع مسعد عن النشاط الجنسيّ لضحايا القضيّة، بما أنه نشاط شخصيّ لا يتسبّب بالأذى للآخرين، ولعلّه بهذا يقدّم بعضاً من العزاء في مجتمع يضطهدهم ويضيّق عليهم في الحياة، وأحياناً في الأدب!
(“الأوان”)
• صدرت الطبعة الأولى من “عمارة يعقوبيان” عام 2002، والاقتباسات الموجودة في النص مأخوذة من الطبعة التاسعة/ مكتبة مدبولي 2006.
• صدرت الطبعة الأولى من “بيضة النعامة” عام 1994 عن دار رياض الريس، ثم صدرت بطبعة ثانية عام 2000 عن مكتبة مدبولي.
• صدرت رواية “إيثاكا” عن دار ميريت/القاهرة عام 2007
30 سبتمبر 2016
مقاله رائعه و ساعدتني كثيرا في بحثي عن هذه الروايه
16 مايو 2011
مقالة رائعة وعميقة
14 مايو 2011
علاء الأسواني لم يكلف نفسه بالبحث في موضوع المثلية ليكتب عنه بموضوعية (كما فعل عندما كتب عن الزانيات مثلا، فقد ذكر أنه ارتاد المواخير أربعين ليلة ليكتب عنهن بدقة)، فجاء موقفه ووصفه سخيفًا ووقحًا.
14 مايو 2011
مقال رائع
رواية رائعة